في رد على المؤرخ محمد المنصور حول “كيف تعرب المغرب”: تحليل بعيد عن الموضوعية العلمية والبحث الأكاديمي

couv-vf-juin-clr-672x372
الصورة من مجلة زمان ..وهي نفسها المرافقة لمقالة ذ محمد المنصور

د .الحسين أسكان//
نشرت جريدة زمان، بعددها 39 لشهر يناير من العام 2017، مقالا تحت عنوان: “كيف تعرب المغرب” وكان الهدف من نشره هو دحض الاعتقاد السائد (لا أعرف لدى من يوجد هذا الاعتقاد)، بأن تعريب شمال إفريقيا والمغرب لم يتم عنوة وإنما طوعا، وعلى يد الأمازيغ أنفسهم كالموحدين مثلا.
كاتب المقال هو المؤرخ ذ.محمد المنصور تعرفت عليه وأنا طالب في الإجازة، منتصف السبعينات، فور التحاقه بشعبة التاريخ في كلية الآداب بالرباط، وهو من الأساتذة الذين أكن لهم التقدير والاحترام ومن الأساتذة القلائل الذين تأثرت بشخصيتهم، سواء في جانبها الإنساني بتواضع وبحسن الخلق أو في جانبها العلمي الذي أخدنا عنه الصرامة المنهجية في المجال التاريخي والأمانة العلمية في تحري الأحداث والتحقق والتثبت، وعدم المجازفة بالتعميم.
لكن عندما اطلعت على مقاله هذا استغربت كيف تجرد أستاذي من كل ما أخذناه عليه، من ضرورة مراعاة الشروط الضرورية في البحث العلمي الرصين أثناء معالجة أي موضوع تاريخي عادي، فكيف إذا تعلق الأمر بمقاربة موضوع اجتماعي حساس يمس الهوية المغربية التي لا يزال فيها نقاش فكري وجدل سياسي وصراع أديولوجي. موضوع حساس كهذا، في ظرفية حساسة كهذه، تقتضي من الباحث إذا أراد أن يدلو بدلوه، في النقاش الدائر حوله، أن يتسلح بكل أدوات المقاربة التاريخية واحترام الشروط العلمية الصارمة وبالموضوعية والرصانة الفكرية، بدل ترويج مغالطات باسم علم التاريخ. فالمقال تتخلله مزالق منهجية علمية كثيرة، لا يقع فيها عادة إلا المبتدئون في البحث التاريخي، ولا أدري كيف وقع فيها أستاذي المحترم، هل يرجع سبب ذالك إلى الكتابة عن فترة تاريخية بعيدة عن الفترة التي تخصص فيها؟ هذا ليس مبررا لتفسير العديد من الثغرات الكثيرة التي تتخل المقال، نقتصر على ذكر البعض منها، كما يلي:
Iـ من حيث الموضوع: عنوان يوحي بموت الأمازيغية.
1ـ يوحي اختيار صيغة عنوان المقال “كيف تعرب المغرب”، منذ البداية، أن عملية التعريب انتهت منذ زمان بعدما استغرقت 14 قرنا، ولم يعد للأمازيغية أثر يذكر. في حين يعلم أستاذي أن الأمر ليس كذالك، فالذي تعرب هو جزء من المغاربة لا نعرف بالضبط عدده، في بداية العصر الوسيط حتى القرن 6هـ/12م. وحسب آخر إحصاء لا زال 27/100 من المغاربة يتكلمون الأمازيغية وحدها، دون مزدوجي اللغة، رغم الانتقادات التي وجهت للمندوبية السامية للتخطيط في طريقة إجراء هذا الأخير مقارنة بالإحصاء الذي سبقه.
2ـ ماهية نوعية التعريب: أستاذي لم يكلف نفسه عناء التفكير في طبيعة التعريب ولا نوعيته، لذا لم ينتبه إلى نوعين مختلفين في هذه العملية:
هناك تعريب لغة المكتوب وحروف الكتابة (العقود الوثائق الأسرية سواء لعامة الناس أو البيت الحاكم من المرابطين أوالموحدين مثلا، والمراسلات وكذالك كتابة العلوم بالعربية لكن مع تدريسها بالأمازيغية أو الدارجة) حيث حلت العربية بداية القرن 6هـ/12 اللغات السابقة والحرف السرياني وغيره، حسب ما يفهم من ترجمة سليمان الحضري أحد كتاب ابن تومرت، الذي كان يتقن الكتابة بحروف عدة لغات كانت سائدة آنذاك في كتابة المراسلات والوثائق.
النوع الثاني من التعريب الشفوي للغة التواصل في الحواضر، الذي مان تعريبا تدريجيا لمعجم اللغة الأمازيغية، وهذه اللغة الحضرية هي التي حلت بشكل تدريجي محل اللاتينية، وكانت أخر مدينة عرفت بالتحدث باللاتينية هي مدينة قفصة، بجنوب تونس، في القرن 6هـ/12م، حسب شهادة الإدريسي. هذا النوع من التعريب بدوره، لم يتم إلى يومنا هذا. واللغة كما يعلم الأستاذ فيها جوانب أخرى أكثر أهمية من المعجم: نطق الكلمات، بنية الجمل، المعاني الصرف والنحو، وكل هذه الأمور بقيت أمازيغية. وهذا ما يفسر لماذا كانت اللغة الحضرية المغربية منغلقة على المشارقة منذ نشأتها إلى اليوم، حسب ما لاحظ ابن خلدون وغيره من الأقدمين، وما تزال منغلقة عليهم إلي اليوم بالرغم من التطور الحاصل فيها، خلال الخمسين الأخيرة. فلا أحد خارج شمال إفريقيا يمكن أن يفهم جملة ك”دخل سوق رأسك” أو “مربي الكبدة على…” أو إسم بوشتى، تنجارت…وهي نفس اللغة التي تستعملها حتى القبائل الهلالية وعوضت بها لغتها التي كانت تتكلم بها في شبه الجزيرة العربية قبل مجيئها للمغرب.
3ـ هذا العنوان يقتضي منهجيا من الكاتب أن يرصد عملية التعريب منذ بدايتها إلى نهايتها، لكن أستاذنا، فضل التوقف عند القرن 7هـ/13م. وتجاهل عمدا، حقيقة أن النسبة الكبرى من المغاربة “تعربت” شفويا في فترة 60 سنة الأخيرة، علما أن هذا النوع من التعريب الشفوي يتم في المدن ونسبة التمدن وصلت إلى أكثر من 60 في 100.بل تعمد أن لا يلاحظ أن الأمازيغية لم تختف من المجال العمومي بالمدينة المغربية كما يعرف كل مغربي.
4ـ عدم تدقيق المصطلحات: استخدم كذالك أستاذي المحترم مصطلحات غير دقيقة علميا، مثل مصطلح “الدولة المركزية” والحديث عن شيء إسمه “المستوى الشعبي” بدل مصطلح الرعية كما في المصادر، وكأن هناك “مستوى رسمي”. كل هذه مصطلحات حديثة ولم تكن موجودة في المصادر التاريخية المغربية، قبل الحماية الفرنسية، وهو عالم بذلك، من خلال دراسته لتاريخ المجتمع في عهد المولى سليمان، أوائل القرن 19م. لأنه لا وجود للدولة بمعناها الحديث قبل الحماية، بل هناك “بيت متغلب” يتعمد على “عصبية متغلبة” للاستيلاء على السلطة بالسيف، ويحمل هذا “البيت المتغلب” اسم نسب الجد الذي ينحدر منه مثل البيت الأموي، والبيت العباسي، الفاطمي، والبيت العثماني… الاستثناء الملاحظ في هذه القاعدة العامة، في العالم الإسلامي، في تسمية الدول المتغلبة، هم المرابطون والموحدون والمرينيون. ومما يدل على أن مصطلح الدولة، في مصادرنا التاريخية، لا يعني ما تعنيه الدولة الحديثة، حسب التعريف القانوني للدولة، بل ينبغي افهمه بمعناه اللغوي كما جاء عند ابن منظور: “العقبة في المال والحرب سواء” فيصير” الفئ بينهم دولة يتداولونه، مرة لهذا ومرة لذاك” وهذا المفهوم اللغوي هو تؤكده الوظائف التي يقوم البيت المتغلب، كالمخزن الموحدي، الذي تغلب بالسيف على كل شبر من الأراضي التي كونت أمبراطوريتها. ولم تكن هذه الدولة، كما يعلم الأستاذ، تهتم بشؤون الرعية في شيء، بقدر ما يهمها الحصول على جباية الخراج فقط، أي الفيْ كما سبق، أو يسمى، في القرن 19، بالمستفاد.
5ـ إصدار أحكام دون الاعتماد على أحداث ووقائع تاريخية أو سند من المصادر، من ذالك القول بانتشار الإسلام بسرعة في خلال قرنين، في حين أن هناك مؤشرات كثيرة في المصادر التاريخية، تشير أن ذالك لم يتم إلا في منتصف القرن 6هـ.
IIـ من حيث الشكل:
من الناحية البيبليوغرافية، لم يعتمد الكاتب على المصادر الوسيطية المتعلقة بالموضوع، بل اعتمد على مرجع وحيد، هو عمل رحمة تويراس: تعريب الدولة والمجتمع، بالمغرب الأقصى خلال العصر الموحدين. طبعة الدار البيضاء 2015، وعلى مصدر واحد كما ذكر، وهو مقدمة ابن خلدون، وأشك في أنه اطلع عليه، لأن هذا الأخير ذكر أشياء مهمة في قضية اللغة الحضرية لم يتطرق لها كالتكوين التدريجي لهذه اللغة وغلبة المعجم الأمازيغي عليها في بدايتها، وانغلاقها على المشارقة وغير ذلك.

خاتمة:

صحيح أن التعريب بنوعيه السابقين، تم على يد الأمازيغ، خلال العصر الوسيط، لكن وقع تراجع فيه، بعد ذالك، حتى 1912، لدرجة كاد معها التعريب الشفوي الحضري يحل محل التعريب الفصيح الكتابي، وأستاذي يعرف ذالك من خلال لغة المراسلات المخزنية مثلا، في القرن 19 أكثر مني، بحكم تخصصه في هذه المرحلة. لكن هذا التعريب بنوعيه قد لم يتم برضا الأمازيغ ومحبتهم، كما يريد أستاذي أن يوهمنا، بل تم بضغط ديني واجتماعي، ليس هذا مجال التوسع في ذالك. وإنما يكفي أن أذكره بأن لا أحد من البشر يرضي بالتخلي عن لغة أمه طوعا، إلا إذا كان مجبرا على ذالك بعنف مادي أو رمزي، وهذا العنف بالذات هو الذي تزايد، في الستين سنة الماضية، من طرف الدولة اليعقوبية التي ورثناها عن الحماية والتي تبنت أيدولوجية الحركة الوطنية المبنية على الإسلام والعروبة، وحرصت أشد الحرص على التنصيص في الدساتير المغربية على ذالك، والحرص تسمية بلدان شمال إفريقيا بالمغرب العربي، في حين أن الاتحاد الخليجي والدول المشرقية لم تنعت نفسها بالعربية. كما أذكره كنت أنني شخصيا من الملايين الذين ألزمتهم هذه الدولة، رغما عنهم، على تعلم العربية في المدرسة المغربية. لقد آن للمغاربة أن يتصالحوا مع هويتهم الحقيقية ومعرفة أسسها الثقافية العميقة، ومن واجب البحث العلمي الأكاديمي أن يبرز هذه الأسس الراسخة لثقافتا، بذل نشر المغالطات ونكران الواقع باسم العلم. ولا يمكن، اليوم، قبول مثل هذه المغالطات في موضوع راهني كهذا، كما لا يمكن تبريرها بأي مبرر، كما لا يقبل من أي باحث أكاديمي محترم أن يتخذ البحث التاريخي لتمرير رسائل أيديولوجية ومغالطات تاريخية باسم علم التاريخ.

——————————
المراجع :

  1. استقيت هذه الملاحظات من المصادر والمراجع المعتمدة في مقال لي : الحسين اسكان: التحولات اللغوية، بالمغرب، خلال العصر الوسيط. مقال منشور ضمن أعمال تكريم الأستاذ محمد شفيق، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الرباط.2006. ص:97-113
  2. وفي عملي : الدولة والمجتمع في العصر الموحدي، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الرباط 2010.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد