الفن في خطر! المجتمع ضد الجامعة!

أزول بريس – محمد همام //
كتب الفيلسوف والناقد البلغاري/ الفرنسي تزفتان تودوروف،T.Todorov، (2017)، مؤلفه: ” الأدب في خطر”، La Littérature en péril، ليدق ناقوس الخطر حول مستقبل الدرس الأدبي في المؤسسات التعليمية الفرنسية. وليؤكد أن انحسار هذا الدرس، أو تدريسه بطريقة ( ميكانيكية) يهيمن فيها النقد الأدبي على الأدب ذاته، سيفقد هذا التعليم الكثير من عمقه الإنساني، ويفوت عليه فرصة بناء نموذج تربوي، بقيم ايجابية، تساعده على اكتشاف جغرافيات المعنى، وبناء نموذج إنساني جديد؛ فالأدب شديد الارتباط بكل ماهو إنساني وجميل في المتن النقدي والفكري لتودوروف.. ويستعمل تودوروف الأدب بمعناه الثقافي والمعرفي الذي يشمل الفنون جميعها، وليس الأجناس الأدبية الكتابية والتقليدية وحدها، مع أن كلمة( أدب) هي نفسها حديثة الاستعمال في اللغات الأوروبية. وتجسد المسيرة الفكرية والعلمية لتودوروف الوعي الذي بثه في كتابه، والذي هو عبارة عن سيرة ذاتية( جزئية) لعلاقته بالأدب والفن والقراءة؛ فقد انتقل من بلغاريا طبيبا نفسيا واستقر بفرنسا بحثا عن بيئة أدبية وفنية تستجيب لطموحاته النقدية وأشواقه الفكرية والفلسفية. فتحول من طبيب إلى ناقد أدبي، ثم إلى مؤرخ أفكار. وقد حظي الأدب والفن بقسط وافر في أعماله التأريخية والنقدية. وهو مؤلف مكثر، بالمناسبة، منذ أن كتب عن: نظرية الأدب، وعن نصوص الشكلانيين الروس،1965، وهو ينتج ويطور من منظوراته الفكرية والنظرية، إلى ٱخر النصوص التي كتبها سنة2017، قبيل وفاته؛ مثل: la triomphe de l’artiste، ( انتصار الفنان). وهو احتفاء بالأدب والفن الروسي وبالأدباء والفنانين الروس الذين واجهوا عنف ستالين بإبداعاتهم وبأقلامهم وبخيالهم. وذهب ستالين بعنفه، وبقي الأدب والفن الروسي بجماليته وإنسانيته وعنفوانه.
ليس تودوروف هو الوحيد الذي انحاز للفن، ولتدريسه، في المؤسسات التعليمية، وفي الجامعات، بل مفكرون كثر، ليس ٱخرهم الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، في أكثر من مؤلف، خصوصا في كتابه العميق والممتع: ( عن الجمال)، Sur l’esthétique، Paris2016، ( ترجم إلى العربية2019). وهو المجلد الرابع المفترض من موسوعته الفلسفية والنقدية: ( المنهج). ويذكر فيه موران القيمة التربوية والتحريضية للفن؛ إذ كان استماعه لمعزوفة: ( السفينة الشبح)، سببا لالتحاقه بحركة المقاومة، كما كان ديوان ( فصل في الجحيم) لرامبو محفزا له لولوج خلايا المقاومة السرية. ومن يطلع اليوم على برامج الجامعات العالمية المرموقة والمصنفة سيلحظ أنها حققت تفوقها بسبب مطابقة برامجها البيداغوجية والتكوينية للمعايير الدولية في التصنيف، ومن أهمها تدريس الأدب والفنون الجميلة. ووجود فرق فنية ومسرحية وموسيقية وتشكيلية…تابعة للجامعة وللكلية. ووجود وحدات تكوين أكاديمي لهذه الفنون. وتوفير اعتمادات أساسية للفرق الفنية والموسيقية التابعة للجامعة وللكلية. هذا نهج الجامعات العريقة، ونهج الدول التي ترى في التعليم الجيد مدخلا أساسيات لبناء الإنسان ومدخلا للتنمية الاجتماعية.
إن تدريس الفنون في الجامعة، بتعبير إدغار موران، هو تدريس لشعور مشترك بشكل واسع جدا، وإنساني بعمق. وهو تدريس بوسيلة مهمة من وسائل المعرفة، وهو الطريق الأمثل لتوثيق الصلة بين الجامعة والمجتمع، والتي من دونها، تبقى الجامعة مجرد صحن تائه في الفضاء، ويبقى المجتمع جسدا يستهلك بلا رأس منتج؛ إنتاج الأفكار، والمشاريع، وحلول المشاكل… والتواصل بين المجتمع والجامعة عبر الفن هو تواصل عبر أخص منتوجات المجتمع، وأكثرها ارتباطا بشخصيته الجماعية، وبمجاله التداولي: الفنون: شعرا، ونثرا، ورسما، ونحتا، وموسيقى…وإدخال هذه الفنون إلى مختبرات البحث في الجامعة، لتفكيكها، وتشريحها، وإعادة بنائها، من منظور الباحث الجامعي الأكاديمي. وكذا تحويلها إلى برامج بيداغوجية للتعليم والتكوين والتأطير. بدون هذا لن نستطيع بناء شباب المستقبل، ولن نستطيع محاصرة التطرف والعنف، سلفيا كان أو حداثيا! ولن نستطيع تربية الشباب الجامعي على الأمل وعلى الروح الإيجابية. إن انحسار الفن في الجامعات والكليات، تدريسا وممارسة وتدريبا، يجعل مستقبل منتوجات الجامعة بل رسالتها في خطر، ويهدد بمزيد من التوتر والتفكك في الوسط الجامعي، وفي المجتمع لاحقا. فكل معركة في الجامعة لها صدى في الواقع الاجتماعي كما كان يردد المناضلون.
إن سياق هذا الحديث حول الخطر الذي يتهدد الفن في الجامعة هو اضطرار كلية الٱداب والعلوم الإنسانية بأكادير إلى إغلاق إجازة مهنية فتحتها هذا العام2021، حول: تاريخ الفن، Histoire de l’Art، بسبب عدم اقبال الطلبة المنتقين على التسجيل إلا من سبعة أفراد! وهذا لعمري كارثة ثقافية في نظامنا التعليمي بعامة والجامعي بخاصة. فلا يعقل أن لا يتقدم المنتقون للتسجيل في كلية الٱداب والعلوم الإنسانية باكادير، في تكوين دقيق وطريف وذكي، يهيء المستفيدين لمهن مستقبلية تتوسع سوقها يوما بعد يوم. ثم إن الكلية المحتضنة كلية عريقة وذات عروض بيداغوجية بجودة عالية وروح ابتكارية كبيرة. فكلية الٱداب بأكادير كانت سباقة إلى فتح تكوينات في تخصصات كانت محتكرة من طرف مؤسسات بعينها، وبدون مردودية، مثل التحرير الصحفي والدراسات الإعلامية… وقد نجحت الكلية، بنظري، في كسب رهان توطين الدرس الإعلامي الأكاديمي في كلية الآداب بأكادير، مع تنوع لغوي مثمر. ثم كسبت كلية الٱداب رهان توطين رؤية معرفية حديثة قائمة على تكامل العلوم وتداخل التخصصات وتعميق الدراسات البينية في العلوم الاجتماعية. وهو رهان تظهر ٱثاره في هياكل البحث بالمؤسسة، وفي الفعاليات العلمية المختلفة، وفي منشورات الكلية، هذه المنشورات التي تعتبر إنجازا إستثنائيا لمؤسسة من الجيل القديم/الجديد، مع استمرارية في العطاء المتنوع. يضاف إلى هذا أن الكلية المحتضنة أقرب إلى منتج أكاديمي وبيداغوجي، من خلال هندسة فضائها الأخضر بشكل بديع، ووجودها في موقع استراتيجي من مدينة أكادير؛ قريب من كل الفضاءات التي قد يحتاجها الطالب الجامعي، مكتبات، محطات نقل، مقاهي، أسواق، مصحات، ملاعب…
إن الإحجام عن التسجيل في هذا التكوين الجديد والنوعي، يحتاج بنظري إلى بحث اجتماعي متعدد المستويات، لأن العملية تتعلق، ربما، بذهنية كلاسيكية، مازالت رهينة التكوينات التقليدية، أو هي ضحية أفكار لاواعية متوجسة من الفنون الجميلة، ومازال الفن عندها ملتصقا بالفاشلين، والمنحرفين، والمتسولين، و( الحلايقية)، و( الروايس)، و( الشيخات)…لست متأكدا من كل هذا، ولكن أتصور أن شيئا منه موجود في لاشعورنا الجماعي، ويحتاج الأمر، على كل حال، إلى أبحاث في الموضوع. إن هذه الواقعة وضعت الجامعة في مأزق حقيقي، وهو أن تقديم العرض البيداغوجي لم يعد يكفي، مهما كان ابتكاريا وجيدا! بل لابد من سياسة تواصلية فعالة في المجتمع للإقناع به، وجر الناس جرا إلى الجامعة. في المجتمع أحجار صلبة تثقل عقول طلبتنا، وتحول بينهم وبين الانفتاح على ثقافة الجامعة وعلى تكويناتها. ماحصل بخصوص هذا التكوين، يظهر أننا ندرس الطلبة، ونعطيهم الشواهد، لكننا لانغيرهم، ولانزحزح أحجارهم الاجتماعية والصلبة قيد أنملة، فيعودون من حيث أتوا. المسؤولية ثقيلة وصعبة ومحفوفة بالمخاطر!! وأحد هذه المخاطر حاصر تكوينا مميزا ما أحوجنا إليه، وما أحوج مؤسساتنا الثقافية والموسيقية والفنية إلى متخرجيه؛ فمازال كثير منها يسيره هواة أومتطوعون أومتطفلون! وأرجو ألا يثبط هذا الحدث المؤسف الديناميكية التربوية والعلمية والتدبيرية والجاهزية التي تعرفها كلية الٱداب بأكادير، بفريق من المدبرين والأساتذة الباحثين والطلبة المميزين، وألا يخيب ٱمال من ابتكر فكرة غير مسبوقة في تاريخ المؤسسات الجامعية المغربية:( كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية بايت ملول)، بل أن يكون هذا الحدث المغموس في ثقافة اجتماعية مخاصمة للفنون، وتؤثر بشكل سلبي في اختيارات الطلبة، أن يكون محفزا للكليتين في أكادير وأيت ملول، لتقديم مسالك جديدة في الفنون والجمال: في الموسيقى، وفي التصوير الفوتوغرافي، وفي التشكيل، وفي السينما، وفي المسرح، وفي الغناء والطرب، وفي مختلف الفنون التطبيقية… وقيادة ثورة حقيقية وشجاعة في مواجهة المحافظة الاجتماعية، وابتكار مناهج جديدة في طرائق التعليم، وخصوصا في مجال تعليم الفنون.

اترك رد

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد