هل كان الجابري فيلسوفا أم مجرد مثقف يعمل تحت لافتة العقل المستنير؟

فتحي المسكيني

الجابري في عيون فتحي المسكيني

04 كانون الثاني 2021
فتحي المسكيني
أثار المشروع النقدي للعقل العربي للفقيد محمد عابد الجابري نقاشات واسعة لقاراته البحثية التي همت التراث والهوية، النهضة والإصلاح، الأصالة والمعاصرة، التقليد والحداثة، العلمانية والديمقراطية، ومواضيع أخرى… . وكان الغياب الأخير للجابري مناسبة للتساؤل حول الموقع الذي احتله في الفضاء الثقافي والفكري والفلسفي لمنطقة جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط. في هذا السياق انخرط الأستاذ فتحي المسكيني من تونس في طرح سؤال جريء ومحيّر حول هوية هذا الرجل:
هل كان الجابري فيلسوفا أم مجرد مثقف يعمل تحت لافتة العقل المستنير؟(1).
1- محمد عابد الجابري: مثقف أم فيلسوف؟
يميز الأستاذ فتحي المسكيني بين “المثقف” المنخرط في نقاشات “العقل المستنير” و”الفيلسوف” الباحث في القضايا الفلسفية. ويؤكد على أن “العقل المستنير” يخوض معارك ثقافية ولكنه لا يفكّر أو لا يتفلسف، يعني لا ينتج إشكالية فلسفية كونية ومبتكرة حول مصير البشر بعامة. ذلك أن محمد عابد الجابري وجيل “قرّاء التراث” لم يتمكن من التحرر من مهمات “العقل المستنير” في ثقافة العرب المعاصرين، وظل يشتغل تحت الإشكالية التي صاغها عصر الرواد في القرن التاسع عشر، والمتمثلة في السؤال التالي: لماذا تقدّم الغرب وتخلفنا نحن؟. يرى المسكيني أن هذه “النحن” لازالت تعمل في أساس كل محاولات قراءة التراث، والتي بلغت مع الجابري هالتها العليا والأخيرة. وهذا يعني أن قراءة التراث لم تكن أبدا عملا فلسفيا، أي لم تكن أبدا عملا نظريا كونيا أو يحق له أن يدّعي الكونية أو قابلا للكوننة. إنه يبدو عملا “ثقافيا” نبيلا ولكن محليا(2)، وبالتالي لا يمكن أن تنشأ فلسفة تحت لافتة قومية أي جزئية وخاصة بشعب ما وثقافة ما وعصر ما. يرى المسكيني أن الهمّ النقدي الذي اضطلع به الجابري في مشروعه حول نقد العقل العربي، منعه من طرح السؤال الفسلفي الصحيح حول جدارة وصلاحية القيام بمشروع قراءة تراثية ذات توقيع قومي صريح. لهذا تساءل قائلا:”كيف يمكن الجمع جمعا فلسفيا كليا بين مفهومي “العقل” و”التراث”؟، ويعترض على الأمر بالتقليد الفسلفي الذي طوّر مقولة “التراث” (هيدغر، غادمير،..)، الذي يقول عنه أنه لم يفعل ذلك إلا في شكل التحرر الوجودي والتأويلي من ربقة التقليد “العقلاني” الذي سيطر على مشروع فلسفة الأنا الحديثة من خلال برنامج الأنوار(3).
يؤاخذ فتحي المسكيني “أحباء الفلسفة” على صرف جهود كبيرة في قراءة نصوص غير فلسفية أو لم تنتجها عقول الفلاسفة وتعويض التفلسف بقراءة “المصادر”، والقبول بدور “المثقف” الحديث صاحب الخطاب الغامض والإستهلاك المنظم لمهنة التفكير خارج حدود الفلسفة. ويعتقد أن “الجابري ذهب شأوا بعيدا في محاولة الجمع بين الوظيفتين”(4)، إذ صارت معه القضايا التراثية القديمة والهموم الثقافية الراهنة هي المؤشر على صلاحية التفكير أو على طرافة المفكّر فيه. وفي خضم هذا الإستغراق في قراءة التراث، تم الإمتناع العام عن التفلسف بما هو كذلك، أي الإمتناع عن التفكير الكوني والإكتفاء بدور الحارس “النقدي” لنوع معيّن من قراءة مدوناتنا الكلاسيكية بوصفها مردودة إلى صيغة “التراث”(5).
يرى الأستاذ فتحي المسكيني في نقد العقل العربي وتحويل الفلسفة إلى قراءة للتراث نهج مرتبط بفشل فلسفي عميق هو العجز عن التفلسف الحيّ بما هو كذلك(6).
2- فتحي المسكيني واللامفكر فيه عند الجابري
يؤاخذ فتحي المسكيني قرّاء التراث على التأجيل السيء لإمكانية الإشتباك الميتافيزيقي مع “مصادر أنفسنا العميقة” كما مع الأقدار النظرية والمعيارية غير المسبوقة التي فرضتها الأزمنة الحديثة مع جميع البشر. فالمتفلسف المعاصر عندنا ليس له بعد رأي خاص في مسائل التفكير الفلسفي الاساسية: ماهي الكينونة بالنسبة إليه؟ كيف يتأول “الإله” أو “الإنسانية” أو “الحقيقة” أو “العقل” نفسه… (إذ أن كلام الجابري عن معنى مصطلح “العقل” جاء مدرسيا بشكل مخجل، حسب المسكيني)… كيف يفهم النفس البشرية اليوم؟ هل أرّخ لنفسه الحيوانية بشكل كوني مناسب؟ بأي وجه يطرح قضية تدبير وجوده في العالم؟ هل له استشكال خاص لماهية التقنية أو لماهية الدولة؟ أو لمستقبل الديمقراطية؟ هل له تأويل كوني مبتكر لماهية القيم والمعايير؟ ما هو مصير النوع البشري أو ظاهرة الحياة في رأيه؟ كيف يؤسس أو ينقد أو يفكك سلالم القيم التي اشتق منها تصوّره لنفسه لحد الآن؟ كيف يطرح مشكل “الهوية”: هل يقبل الذهاب نحو ربطها بالجنسانية؟ أو بالجنس أو بالجندر؟ هل يملك القدرة على الإنتقال من دور المعرّف بأفكار الغرب والناشر لها والمستصلح لها إلى دور المفكر الكوني الخلاق للوحات قيم جديدة للحيوان البشري بعامة؟… . هذه أسئلة فلسفية عادية (من عهد عاد) –يقول فتحي المسكيني- ينبغي أن تؤدي إلى طرح خاص لمسائل نظرية ومعيارية شائكة اليوم من قبيل العدل والخير والهوية والشخص والذات والجماعة والغيرية والإعتراف والتواصل أو من قبيل الموت الرحيم وزرع الأعضاء وبيعها أو تعديل الطبيعة الإنسانية وتحوير خارطة الجينوم،… إلخ(7).
إن قائمة المواضيع والمسائل التي سردها الأستاذ فتحي المسكيني تجعل الجابري وقرّاء ونقّاد التراث خارج مدار الآراء الفلسفية أي الكونية، أي خارج الطريق الملكية للمفهوم الفلسفي. كما تجعل قراءة التراث مثلها مثل دور المثقف أو الإنتماء الثقافي أو الحزبي أو العقدي… هي مواقف غير فلسفية وخارجة أصلا عن مطالب المفهوم المفكّر بشكل كوني. لهذا يطالب الأستاذ المسكيني بعدم الخلط بين الفلسفة واللافلسفة، أي بين التشريع الروحي للنوع الإنساني وبين الدفاع الثقافي والهووي عن نموذج عيش معيّن أو عن لعبة لغوية نجحت لدى شعب معيّن ويجب تأبيدها أو فرضها على بقية الإنسانية(😎. يرجع فتحي المسكيني سبب حرمان عقولنا المعاصرة من أخذ المبادرة الميتافيزيقية حول أنفسنا “الجديدة” إلى ما يسميه ب”قضايانا السياسية”، التي فرضت على المشتغل بالفلسفة العودة إلى التراث والدفاع عن “قضايا الأمة”، ثم استعمال “الهوية ضد ذاته” الجديدة كما يحصل الآن.
يعيب المسكيني على الجابري خروجه من زمرة الفلاسفة بعامة إلى زمرة “قرّاء التراث” العربي الإسلامي دون غيره، وتعويضه الآلة التأويلية بالآلة الإيبستيمولوجية، وتحيّزه لقارئه “المنتمي” إلى تراث بعينه وإلى قضايا أمته، ويتساءل عن اهتمام الجابري الأخير بتفسير القرآن، وعن القصد “الفلسفي” لهذا الإهتمام. كما يعيب على التوقيت السيّء الذي ظهرت فيه أعمال الجابري حول “العقل العربي” حيث دخول العالم عصرا “عالميا” جديدا ذا صبغة حقوقية بحتة، واستغناء الفلسفة عن أي توقيع قومي، في حين جعل الجابري من “التراث العربي” سقفا للعقل “البشري” فينا دون أي تبرير حقيقي(9).
يخلص فتحي المسكيني إلى أن أسئلة الجابري وحركة التنوير العربي بعامة، لا علاقة لها بالتفكير الفلسفي، لأنها أسئلة محلية لا تساعد على إنتاج أي موقف فكري كوني، بل ما يقلق حقا في مشروع الجابري هو أنه أنتج “فلسفة” فقيرة من حيث التفكير في المستقبل (التشديد من المسكيني)(10). كما انتهى في آخر العمر إلى “العودة إلى الروح” العميقة لهذا التراث والتجرّؤ على تقديم “تفسير” للقرآن دون أي احتياطات تأويلية أو فلسفية تُذكر(11).
2- العودة إلى النفس أو تملق الذات بكيفية أخرى
يضع فتحي المسكيني العمل النقدي لمحمد عابد الجابري خارج دائرة التفلسف مادام أنه لم لا ينتج إشكالية فلسفية كونية ومبتكرة حول مصير البشر بعامة(12)، مع قصور في إدراك مشكلة العلاقة بين الكلي الفلسفي والخصوصي الثقافي، والذي يثيره الجابري بشكل عرضي(13). إذا كان المسكيني ينتقد الجابري بخصوص قراءته للتراث ونقده للعقل العربي، فهو يدعو وبإلحاح إلى “العودة إلى النفس العميقة”، وإلى القيام ب”استشكال فلسفي جذري للمقولات والمصادر العميقة التي تأسست عليها “قضايا الأمة” أو نوع معيّن أو مهيمن من الفهم أو التأويل لها(14). لكنه ينبه إلى المسؤولية الأخلاقية حول “الأمة” أو مصادر النفس العميقة التي لازال المتفلسف مطالبا بالتحلي بقدر معيّن منها، والتي تؤدي إلى تأجيل المعارك الميتافيزيقية، أي الحرة والجذرية، معها. وردّا على هذه الوضعية يقول فتحي:”نحن نرجو أن يكون ذلك وضعا مؤقتا. وهو مؤقت بقدرما نفلح في الوعي به والـتأريخ المناسب له واستشكال نتائجه العميقة على مستقبل العقل الحر في أفق العرب أو المسلمين المعاصرين أو الآتين”(15).
إن تأكيد الأستاذ المسكيني على “العودة إلى النفس العميقة” ناتج عن اهتمام طويل و”عميق” بالسيرورة الهووية للملة وتاريخها وقضاياها الراهنة، وانشغال فكري بمتون فلسفية تناولت مفهوم الهوية خارج دائرة الملة، أفضت إلى اعتبار “الهوية بحد ذاتها ليست عائقا أخلاقيا أمام تحقيق ذواتنا”(16)، وهنا يؤشر المسكيني على صلاحية هذه المتون لإنماء إمكانيات ذاتية.
تزامنت الدعوة إلى “العودة إلى النفس العميقة” مع الإرتباك الفظيع الذي أصاب الإنسان المعاصر وأفقده كل بداهاته الحديثة في عصر صار يتيما على نحو كلبي، الشيء الذي فرض التفكير في “ترتيب علاقتنا بذواتنا”. يشير المسكيني إلى ظاهرة “المسلم الأخير” (وعلى مستوى عالمي “التوحيدي الأخير”) الذي يعتبره نوع من “النحن” كرهط بشري غير مستقر بعدُ، فشل إلى حدّ الآن في إقامة علاقة أصيلة مع ذاته الحالية، فلم يجد من مخرج أخلاقي سوى الإرتماء الكئيب في انفعالات الهوية. وهنا يطرح فتحي السؤال التالي: من هو المسلم الأخير؟ ويجيب: إنه هوية ولكن بلا ذات(17). ينبّه المسكيني إلى أن الإعلان عن ذلك ليس جلدا للذات ولا نقدا للتراث ولا خصومة مذهبية. إنه فقط دعوة إلى الإضطلاع بأنفسنا بطريقة جديدة، مادام أننا لم نستعمل من أنفسنا(التشديد مني)، إلى حد الآن، إلا طبقة أخلاقية هشة بلا أي فعالية.
تثير مسألة الهوية ومسألة “العودة إلى النفس العميقة” غموضا في قاموس فتحي المسكيني، وفي إمكانية الفصل بين المفهومين، لكن تأكيده على أن “الحداثة، وليس الأديان، هي التي اخترعت فكرة الهوية”(18)، يمنح للقارئ أفقا آخر لمتابعة الأستاذ المسكيني وهو يرسم طريق العودة إلى الذات وتحريرها وليس اقتناء هويته من خارج ذاته.
إن طريق العودة والتحرير صعب المسالك في ظل الإنتقال الراهن من الحداثة الأنوارية التي اتخذت “الذاتية” مبدأ لها، إلى ما بعد الحداثة بصيغها “ما بعد الذاتية”، خاصة بالنسبة لمجتمعات لم تبدع حداثتها ولم تنجز نهضتها الفكرية والعلمية والفنية ولا إصلاحها الديني، ولم تقم بثورات فلاحية أوصناعية أو تقنية. فكيف لهذه المجتمعات أن تلج عصر الحداثة/عصر الإمبراطورية الآن، دون خوض معركة شاملة تهم مختلف مناحي الحياة؟.
يمنحنا المسكيني الأمل في طرح مشاكل هذه المجتمعات، بالتأكيد على أن مستقبل كل ملة هو ماضيها وقد تحوّل إلى ذاكرة طويلة الأمد أو عابرة للأجيال(19)، مع الأخذ بعين الإعتبار “أزمة السرديات الكبرى” و”أزمة الهوية” والنتائج الحيوية للتكنولوجيا الجديدة المعولمة على عقولنا وأبداننا، وانفجار أزمات القيم بعد إقصاء الإله الأخلاقي، وصراع الثقافات والديانات والهويات، بوصفها تنطوي كلها على مشاريع هووية لها نفس القيمة الاصلية لأي واحد منها(20). إن التأكيد على هذا التماثل في القيمة الأصلية هو الذي يمنح الملة مشروعية العودة إلى النفس العميقة ويجعل من أعضائها (النحن) كائنات أخلاقية مازالت تستمد مصادر ذاتها من النصوص التأسيسية للملة، بل يجعل من “التجربة التكنولوجية للمحدثين ليست غريبة من ناحية مسبّقاتها الفسلفية العميقة عن فكرة الكينونة التي تأسست عليها ديانات الكتاب، نعني -يقول المسكيني- التكوين والخلق من عدم(21).
فرغم ضعف مساهمة الملة في تأثيت عالم الحداثة وما بعدها، فإن فتحي المسكيني يستغل العودة الأخيرة إلى الإهتمام بالهوية -يخص هنا بالذكر شارلز تايلور الذي يعود له الفضل في بلورة أول تكريس فلسفي عالي الطراز لمفهوم “الهوية” وتحويله إلى أداة فهم للأزمنة الحديثة بوصفها تجربة تاريخية ذات ملامح هووية قابلة للوصف والنقد(22)- للإشادة بعبقرية الملة باعتبارها سبّاقة لطرح آراء كونية في مجموعة من المشاكل.
3- خصوصية الملة والطموح للمساهمة في الكونية
يميّز فتحي المسكيني بين الإنتماء إلى الملة والإنتماء إلى مصادر النفس القديمة، ويشدّد على الإنتماء الاخير باعتباره بنى أخلاقية طويلة الأمد ليس من اليسير على أي مشروع هووي قادم أن يستغني عنها(23)، فهذه المصادر تؤهلنا ليصبح لنا رأي فلسفي أي كوني في مسائل تدبير وجود النوع الإنساني في المحيط المدني للعالم الوحيد الذي نعرفه: عالم الأرض(24). ومن الطريف أن الأستاذ المسكيني يمنح “الأنا الشرقي” إمكانية فذة للإضطلاع بما يسميه “الأنوار الجديدة” والمساهمة في ولادة “عصر تنوير جديد”(25) على اعتبار أن” الأنا في الشرق هي الثروة الأخلاقية الوحيدة للبشر”. فيكفيه أن يبدأ بطرح الأسئلة المناسبة حول نفسه وحول تاريخه، وخلق “نظام للخطاب” يمكن التقابل داخله مع مصادر النفس القديمة، والتفرغ إلى أسئلة تعيدنا إلى النقاش العالمي؛ فالعرب ما برحوا يملكون تجارب فلسفية، لكنهم لم يشرعوا بعد في استشكال جذري لها، ولم يقرأوا أنفسهم بالقدر الكافي. فلإن فعلوا، سيجدون أنفسهم أنهم غزو واكتشفوا “أراضي بكر/مفاهيم فلسفية” قبل الغرب؛ فهذا امرؤ القيس يكتشف قديما “تعدد النفوس”، والكندي “كونية الحقيقة” ومفهوم “التهوّي”، والفارابي “اللاهوت والسياسة” و”المواطن”(المديني)، وابن طفيل “القصص الفلسفي”، وابن رشد “الإستعمال العمومي للعقل”، والغزالي “التفكيك”، وابن باجة “الوحدة الفلسفية”، والماوردي والشاطبي “الشذّاذ الأفراد/نظرية الشذوذ: ’’الكوير أو الجنذر’’ “، والمعرّي “الأوادم/الإنسانيات”، والفقه “مقولة الشخص”، والصوفية “مقولة الفرد” ومفهوم “الروحانية”، والتوحيديون هم الذين اكتشفوا لأول مرة معنى “حرمة” الحياة الإنسانية(26)… إلخ.
يجب الآن التأكيد على هذه الظاهرة الجديدة التي تميّز عصر ما بعد العلمانية، وأعني “التملق بطريقة أخرى” لجهة أخلاقية ودينية، ولبُنى معيارية تخص اللغة (اللغة العربية/اللغة الجميلة والرائعة، واللغة الأدق” التي قالت رأيها في العديد من المشاكل التي نحن متأخرون عنها بقرون”) والإنتماء الإثني (العرب) والتقاليد والثقافة (الثقافة العربية الإسلامية)، بل وازدراء الذات الأصلية/الذات التونسية المتعددة الأصول الأفرومتوسطية (أمازيغية، فينيقية، قرطاجية، وندالية، إغريقية، رومانية، عربية، أندلسية، …).
4- انفعالات فتحي المسكيني: العودة الوجيزة إلى الذات ومواصلة الإعتزاز بالأصالة الخاصة للملة
شكل حدث الثورة التونسية لحظة لبداية فك الإرتباط مع “النفس القديمة” و”العودة إلى الذات، يقول فتحي المسكيني:” وفي جناح هادئ، أخذ بعض القوميين يقرؤون الثورة من خارجها أو من محيطها “العربي” أو “العروبي” دون اهتمام خاص بطبيعة الثورة أو بشخصية التونسي أو بالنمط المجتمعي الذي بناه في تاريخه الخاص،… إلخ. كأن الثورة حلقة من سلسلة هووية أكبر بناء على نفس الآمال القومية التي نادت بها الدولة/الأمة العروبية في ثوراتها المتعاقبة”(27). كما كانت الأسئلة المحرجة التي فرضتها الظاهرة الداعشية، مناسبة للتأكيد على أخلاق الشعب التونسي وفضائل الأسلاف، يقول المسكيني:”نيتشه يوصي دائما أن لا تكون فاضلا فيما أبعد من فضائل أسلافك. وأنا أتصور أن فضائل هذه البلاد -يعني تونس- لا إرهابية ولا داعشية ولا حتى إسلامية، الإسلام انتشر بحد السيف. ثم أن الإسلام الذي تم تبنيه من طرف السكان الأصليين هنا، لم يغيّرهم كثيرا في عاداتهم الأصلية”(28). إضافة إلى النجاح القانوني الذي نجحت فيه الدولة/الأمة التونسية (كتابة الدستور) وفشلت فيه دولا أخرى (مصر مثلا)، وتحويل المدرسة في تونس إلى بنية للمستقبل(29)، وظاهرة العلمنة التي قطعت شوطا محمودا(30).
إن تأكيد المسكيني على أخلاق وفضائل الشعب التونسي ونجاحه، لا يجعله يذهب بعيدا في توقيع الإفتخار بالذات؛ بالإنسان والموطن والتاريخ، بل ينزلق كل مرة إلى الإشادة بتلك “الأصالة الخاصة للملة” وب”النفس العميقة” وسرديتها التوحيدية الإبراهيمية التي تفترض تصورا خاصا للوجود والعالم، وللعلاقة التي تجمع بين الحياة المتناهية هنا (الدنيا) وإمكانية الخلود هناك (الآخرة). إن الأمر يتعلق بثورة (ثورة كوبرنيكية أولى) قام بها التوحيديون عندما قلبوا العلاقة بين الدنيا والآخرة وجعلوا الإله مركزا وحيدا تدور حوله العوالم جميعا؛ إنه الإبتكار الفريد للتوحيديين:”التعالي هو اختراع التوحيديين بامتياز” يقول فتحي(31).
يراهن المسكيني على إمكانية تشغيل هذا “الإختراع الإبراهيمي” في ظل تنامي الدعوة إلى إمكانية تدشين “حداثة مغايرة(32)”، يقول فتحي: “يبدو أن نقاد الحداثة لم يطرحوا مسألة الحداثة المغايرة أصلا ولا فكروا فيها، ذلك بأن الحداثة المغايرة هي منزع غير نقدي(التشديد من الكاتب) تماما. وهو ما يعني اليوم أن مواصلة نقد الحداثة هو نفسه موقف نظري لا يخلو من هشاشة منهجية”(33)، إذ يكفي التأريخ بشكل كاف لفكرة “التعالي” وطرح “سردية النفس العميقة” للنقاش الجذري. كما يراهن على انتمائه إلى ثقافة الاطراف، التي لم تعرف واقعة الكوجيطو وإعلان “موت الإله”، في حين يقول عن إعلان “موت الإنسان” بأنه حدث معرفي وقع خارج أفقنا ولم يقع فينا بشكل “شخصي”، ومن ثم هو لم يمس جوهر علاقتنا بأنفسنا العميقة. ويشيد المسكيني بحيوية الملة وأعضائها بقوله:”نحن نملك بنى ذاتية وسيرورات إنتاج ذاتي وهووي في صحة جيدة وتعمل بكامل سرعتها ومداها. وبالمقارنة مع “الإنسان الأخير” في الغرب فإن “المسلم الأخير” يتحلّى عندنا بمعنويات ميتافيزيقية عالية، فهو لا يعاني من أي أمراض عدمية(34)”.
يوقّع المسكيني أخيرا على الأصالة الخاصة للملة وأعضائها في الماضي والحاضر؛ فمن جهة الماضي يدعو إلى الإعتراف بمجموع الإكتشافات والإختراعات الأخلاقية للملة (آدم، الله الخالق، العالم المخلوق، الكتب المقدسة، النبي)، أما من جهة الحاضر فهو يشيد بالدّين والجهاز التشريعي الروحي الذي يملك صلاحية معيارية قابلة للكونية، لأنه شكل حياة لازال قابلا للسكن(35).
خاتمة
يؤكد الأستاذ فتحي المسكيني على غياب أية إشكالية فلسفية كونية ومبتكرة حول مصير البشر بعامة في مشروع نقد العقل العربي للأستاذ محمد عابد الجابري، وهذا يعني أن قراءة التراث لم تكن أبدا عملا فلسفيا، أي لم تكن عملا نظريا كونيا أو يحق له أن يدّعي الكونية أو قابلا للكونية(36)، بالمقابل يشيد بما يسميه بالعمل “الثقافي” النبيل لكن “المحلي” للجابري. إن الإنتصار للكونية مع المسكيني وللخصوصية مع الجابري، لا يخفي اعتزاز الإثنين الواضح بالتراث وانخراطهما في “متاهات العودة إلى الماضي”(37)، والذي يتحول عند فتحي إلى اتهام ذاتي بالقصور (العيب فينا وليس في التراث) وبالتالي يطرح مشكل استعمال التراث ومصادر النفس العميقة، يقول فتحي:”بيد أنه لا أحد يستطيع أن يغاير دون أن يستعمل مصادر نفسه بشكل جديد تماما، ذلك بأن الصعب في فكرة المغايرة ليس في اقتراح بدائل جديدة لأنفسنا، بل في طريقة استعمال أنفسنا…”(38). فهذه المصادر القديمة بإمكانها تأهيل الملة ليكون لها رأي فلسفي أي كوني في مجموعة من المشاكل والقضايا(39).
يربط المسكيني عملية استعمال النفس العميقة بالامل في تنوير “الإنسان الأخير”/”المسلم الأخير” وفي افتتاح “أنوار جديدة”، لكنه يصطدم بهذا الجسد الشرقي المنهك الذي لا يزال يعتقد أن “الأجساد جميعها سجون – حتى الصحيح منها والجميل”، ويشير إلى أن الشرقي لا يبدأ في حياته إلا في مناسبات نادرة جدا(40)، وهو ضعيف الإهتمام بالحياة والجسد في ثقافتنا(41)، بل يعتبر الملة بضاعة ميتافيزيقية واجتماعية منهكة لم تعد تستطيع أن تعدنا بشيء. لكن الأستاذ فتحي يبقى متفائلا بخصوص ما يسميه ب”الحرارة الرائعة التي تنطلق من الشعر الجاهلي إلى الآن ودون توقف” والتي بإمكانها تنوير الإنسان الأخير/المسلم الأخير…(42)، وعيش الزمن الآتي الذي “لا يأتي أبدا إلا في شكل أجساد أخرى وأخرى وأخرى” بتعبير فتحي المسكيني.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد