الممارسة النقدية: النقد بين العلم والإبداع

  • محمد حامد السلامونى / كاتب مصري //

الممارسة النقدية “فن” بقدر ما هى “عِلم”؛ وما أعنيه بكونها “فن” هو أنها نوع خاص من “الهرمنيوطيقا- فن التفسير”، لكن ما يميز “هرمنيوطيقا النص الأدبى” عن هرمنيوطيقا النصوص غير الأدبية؛ دينية، فلسفية، تاريخية… إلخ، هو انفتاحها على “الذات المُفَسِّرة”؛ ذلك أن الدور “الرغبوى والإرادى” الذى تلعبه الذات الأدبية لا تتعامى عنه سوى التيارات النقدية التقنية التى تعتمد النصوص الأدبية كتَجَلٍ ميتافيزيقى “لبِنْيَة هى تصميم رياضى متعالٍ” مفارق للبشر…

أعنى أن حضور “الأنا” فى الأدب والنقد يتأسَّس على حضور “الآخر”…

ما أذهب إليه هنا، بقدر ما يستَنِد إلى خصوصية الأدب “كتعبير عن تجربة الذات الأدبية فى العالم”، فهو يستَنِد أيضا إلى أن العلوم الإنسانية والإجتماعية؛ التى على الرغم من كونها علوما، إلا أن “الذاتية” بها لا تنفصل عن “الموضوعية”- فقياسا على ما ذهب إليه “مافيزولى” ؛ من أن الباحث فى تلك العلوم، هو نفسه، جزء لا يتجزَّأ من الظواهر موضوع البحث، تعد كل من “الذات الأدبية والذات النقدية” جزءا لا يتجزَّأ من الظاهرة الثقافية.

إلى جانب ظاهرة “بسط الصحفيون هيمنتهم على الأدب”، دون وجه حق، مما أفسده، وأفسد، من ثم، جماهير الفُرَّاء؛ إذ أعادوا تعريفه، وعدُّوه امتدادا للتقنيات والتَّوَجهات الصحفية، تحقيقا لأغراض ترويجية، وهو نفس ما فعله الأيديولوجيون؛ سواء أكانوا صحفيين أم لا… أقول، إلى جانب تلك الظاهرة، هناك ظاهرة أخرى “لعلها الأكثر غرابة فى عصرنا، هذا إن تناولناها بمنأى عن سياقها الغربى”، هى ظاهرة ما يسمَّى بـ “علم الأدب”… وهى إحدى تجليات “موت الإنسان، أو ما بعد الإنسان” فى المجتمع التقنى.

نقد التمركز الغربى حول الذات، عندما يعنى طرد الذات كليا من الوجود، واختزالها إلى مجرد شبح “ذِكرى قديمة رديئة”؛ على مرجعية التقدم العلمى الفائق الحادث الآن، يدعونى لإعادة النظر فى المسار التاريخى للفكر الغربى بتعضونه مع المسار التاريخى السياسى- على الرغم من التناقض الظاهر بين نقد التمركز حول الذات، والهيمنة الغربية على العالم.

وإجمالا، بالإمكان الزعم أن “الغرب”، فى الحقبة الكولونيالية، وفقا لجدلية “السيد والعبد” عند هيجل، كان بحاجة لإستعباد الآخر “غير الغربى” وإجباره على الإعتراف بسيادته كغربى على العالم- كتاب “الإستشراق- لإدوارد سعيد”، يضئ الأبعاد العديدة لهذا التَّوَجُّه الغربى بالوثائق.

وبعد انقضاء الحقبة الكولونيالية، وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية، وانتصار أمريكا وزعامتها للغرب، إلى جانب التقدم التكنولوجى الهائل… مما أفضى إلى بسط الهيمنة الغربية على العالم، فى جميع المجالات. هذا التحول فى خريطة علاقات القوى الدولية، كان يعنى أن “الذات الغربية- المتفَوِّقة” تجاوزت مرحلة نزع الإعتراف من الآخر الحضارى، لتصير هيمنتها على العالم هى “الواقع العالمى”…

وهو ما يعنى أن الحديث عن “الذات الغربية” لم يعد له ما يبَرِّره؛ إذ تحول إلى حديث عن مرحلة تاريخية منقضِية.

فكرة “الهيمنة الغربية على العالم” وما تعنيه من امتلاك ومن ثم صناعة المصائر؛ وهو ما يصُب فى “إحكام السيطرة على العالم”، كان يعنى أن النموذج الحضارى الغربى صار هو “البِنيَة المُهَيمِنة”- هذا والبِنيَة هى النسق أو نظام العلاقات الثابتة فى إطار التحولات.

ما أريد الإنتهاء إليه مما سبق، هو أن الفكر البنيوى وما بعد البنيوى “أى الفكر الطارد للذات أو للنزعة الإنسانية عامة” يعثر على أساسه المادى فى الهيمنة البنيوية “الحضارية الغربية” على العالم.

إصطلاح “علم الأدب” يبدو متناقضا من حيث المفهوم :
فـ “العلم” كمفهوم، من حيث الموضوع، يتأسَّس على “ما له مقدار ويمكن قياسه”- كما يذهب هيوم. أمَّا من حيث المنهجية، فهو يدرس البيانات ويضع الفرضيات لتفسيرها ويقوم باختبارها، وصولا إلى القانون العام القائم على “التجربة” والتأكد من صحتها.

أين هذا من “الأدب”؟.

ليس للأدب تعريف متفق عليه فى الغرب ولا فى الشرق،
ومع ذلك فجميع التعريفات التى جاد بها البعض تتمحور حول كونه: تخييل إبداعى يصدر من الخيال فلا يطابق الواقع/ أو هو تشكيل لغوى جمالى/ أو كتابة تستخدم اللغة استخدامًا خاصًّا تختلف عن استخدامها في الحياة اليومية والعلمية/ أو أحد أشكال التعبير الإنسانى عن مجمل عواطف الإنسان وأفكاره وخواطره وهواجسه بأرقى الأساليب الكتابية التي تتنوع بين الشعر والنثر/ أو كل ما يؤثِّر في النفس من نثر رائع وشعر جميل، يُراد به التعبير عن مكنون العواطف والضمائر وسوانح الخواطر بأسلوب إنشائى أنيق، يُطلَق على الشعر والنثر الفنى فحسْب، وهكذا…

أى مقدار يمكن قياسه فى الأدب إذن؟، ثم كيف يمكن إخضاعه للتجربة العلمية؟.

وإذا كان سؤالى هذا يشير الى استحالة مقاربة الأدب بمفاهيم العلوم الطبيعية، فمصطلح “العِلم” فيما يُعرَف بالعلوم الإنسانية والإجتماعية يبدو قلقا؛ ومجازيا أكثر منه واقعيا، نظرا لطبيعة المواد الإنسانية والإجتماعية ذاتها، وللدور الكبير الذى تلعبه الميول الذاتية للباحث فى تناول تلك المواد… فعلى الرغم مما أشار إليه “مافيزولى” من كون الباحث جزء لا يتجزَّأ من الظاهرة الإنسانية والإجتماعية، إلا أن هذا لا يزيد عن إقرار منه بالإشكالية ذاتها .

النقد والعلوم الإنسانية والإجتماعية:

إتخاذ النقد من العلوم الإنسانية والإجتماعية مرجعية له فى مقاربة الأدب، لم يعن الأدب نفسه، من حيث هو أدب، فى شئ.

وما يمكن قوله هو أن هذا النوع من النقد كان معنيا بالكشف عن الوظائف الإجتماعية للأدب تبعا للموضوعات التى يتناولها. لذا فقد وقع فى مغالطة كبرى حين لم يُفَرِّق بين الأدب كظاهرة إجتماعية متمحورة حول كونه فعل “تمثيل- أو تخييل” يمارسه المجتمع تجاه نفسه والعالم، مستعينا بالمواد الإجتماعية؛ الأيديولوجية وغيرها، وبين كونه “أدبا فى حد ذاته” له قوانينه الخاصة به.

أعنى أن هذا النوع من النقد ارتكز فى دراسته للأدب على علاقة الأدب بالظواهر الأخرى، سواء من حيث التعبير أو التأثير.

وبوضوح أكثر، العلوم الإنسانية والإجتماعية تختص بدراسة الظواهر الإجتماعية بحثا عن الإنتظامات التى تتمفصل تلك الظواهر فى إطارها.

لذا، تكمن مشكلة المناهج الإجتماعية التى تناولت “الأدب” فى أنها اختزلت الأدب إلى الموضوعات التى يتناولها، والوظائف التى يصبو إليها، ومن هنا، انصَبَّت جهود الإجتماعيين والسيكولوجيين والتاريخيين النقدية على “البحث عن الأدب فى المجتمع وعن المجتمع فى الأدب” من مناظير لا تمت بصلة للأدب نفسه بما هو أدب.

فـ “التعبير- عن الموضوعات الإجتماعية” وكذلك “الأثر أو رجع الصدى؛ الإجتماعى فى الأدب، والأدبى فى المجتمع”، يعنى تلك العلوم بما هى المختصَّة بدراسة تلك الأمور، أمَّا “الأدب نفسه بوصفه أدبا” فنتائج تلك العلوم تقع على هامشه تماما.

من هنا يمكن القول بأن دراسة تلك العلوم للظاهرة الأدبية تتأتى فى إطار ما يُعرَف بـ “توثيق التجربة الإنسانية” .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد