يعقوب مُمْسِكًا بِعَقِبِ أخيه عِيسُو ــــ محمد بودويك

محمد بودويك

لم يَتَسَنَّ للمشهد السياسي المغربي أن يَفْرِكَ عينيه جيدا، ويطرد العَمَشَ منهما، حتى يرى الوقيعة الفجائية، والحدث المدوخ. ولم يتمكن الأستاذ بنكيران من أن ينحني الانحناءة الرياضية المحسوبة، ليتفادى الضربة “الغادرة” –هل كانت متوقعة؟- التي عاجلته سريعا، ولم يَدُرْ الحَوْلُ عليه. وللمفارقة، فقد أتته من خيمته التي قيل أنها تتسع لِلرُّقَع والبِدَع التي جمعها وخاطها، وأوثقها قرار غليظ للأغلبية الحاكمة. يتعلق الأمر بالواضح البين الفاضح، بخرجة عبد الحميد شباط، أمين عام حزب الاستقلال الجديد، التي تؤكد وتصر –إصرار وإلحاح ذبابة القاضي عبد الله بن سوار- على التعديل، إن لم يكن التبديل. تعديل يروم –في جملة واحدة- الإضافة العددية لحزب الاستقلال من حيث الحقائب الوزارية، تماشيا مع واقع وحال الاستحقاقات التشريعية الاخيرة التي بَوَّأَتِ الحزب المذكور، المرتبة الثانية، وإنفاذا لمنطق الأشياء الذي يقول : وفرة الأعداد- أقصد الحقائب- وفقا لوفرة الأصوات، وطبقا للترتيب السلمي الذي أفرزته الصناديق، وَوَقَّعَتْهُ إرادة الشعب.

هي خَرْجةٌ سياسية مدبرة، هل تكون شباطية خالصة، أم “استقلالية” متكثرة؟ ما يَهُمُّ هو أنها تَنَزَّلَتْ، مذكرة وُصِفَتْ – في أكثر التحاليل والمناولات – بالعادية. وكان سبقتها مذكرة وُجّْهَتْ لعبد الرحمن اليوسفي الذي قاد حكومة توافقية كان حزب الاستقلال مكونا من مكوناتها. ما يعني أن المسألة، والإخراج “المذكراتي”، ديدن الحزب، متى ما أحس بـ “الضيم” و”ظلم ذوي القربى”؛ وما يعني، ثانية، جشع الحزب الذي لا يشبع، والبئر التي لا تقنع !.

وإذا كان هدف الخرجة –المذكرة – ظاهريا – حمل “رئيس الحكومة على مراجعة ما تم، وقراءة “الصفقة، قراءة مغايرة – على أساس من قوة حزب علال الفاسي الذي ما أعطته الصفقة إياها إلا قسمة ضيزى، فيما منحت لحزب التقدم والاشتراكية “المكون الآخر والحليف، حقائب لا تنسجم ومنطق الترتيب، ولا تتسق مع وزنه في الساحة. ربما لهذا السبب وغيره، انبرى السيد نبيل بن عبد الله، منافحا عن حصاد الحكومة المرحلي، مدافعا عن وزراء العدالة والتنمية الذين اكتسبوا “الرشد السياسي” فيما قال، والذين لم يخرجوا عن المنهجية الديمقراطية والانفتاح، على رغم لمزه وغمزه من فعلتهم وهم ينشرون لوائح المستفيدين من “الكريمات”، معتبرا ذلك أسلوبا فُرْجَويًا ليس إلا. أي أسلوب شطح وإشهار وتشهير، وفرقعات اصطناعية، ساحبا منهم – من دون أن يدري، الرشد السياسي المُفْترى عليه، والصدقية المطلوبة في الخطاب والتصريح، وتدبير الشأن الوطني العام، فالأمر يتصل بالمسؤولية والمحاسبة والحوكمة، ومحاربة الاستبداد ، وهو الخطاب الذي أوصلهم إلى “حيزوم” القيادة، و”قُمْرَة ” الريادة، والحكم، وإصدار القرار.

فظاهر المذكرة –كما أَوْمَأْنا- لا يخرج عن التذكير، أليست مذكرة؟ – بتطوير ميثاق الأغلبية، وضخ النجاعة والسرعة والأجرأة الملموسة في الأداء الحكومي. إذ لوحظ التباطؤ، والترنح، والمراوحة، والمأزق السياسي، والتخبط العشوائي في مقاربة قطاعات معينة، والتلكؤ في إصدار قرارات حاسمة بشأنها. وحرصت المذكرة على التذكير بأن لا جديد جاء مع الحزب الأغلبي الحاكم، فكل الأوراش والاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، هي من عمل وتركة الحكومة السابقة التي قادها حزب الاستقلال نفسه – فما أشبه اليوم بالبارحة ! – إلى جانب الاتحاد الاشتراكي الخاسر الأول والأخير، والتجمع الوطني للأحرار – والحركة الشعبية، والتقدم والاشتراكية الذي استمرأ الجلوس الممتد، واستطاب الدعة والسلطة والرياش. وبالتالي، فالحكومة الحالية المَقُودَة من قِبَلِ العدالة والتنمية، تظل وفية- في انتظار بدائل، وفي انتظار أن يفتح الله عليها ويلهمها – للمشاريع والمخططات التي أنجزت قبل اليوم، والتي تعطلت بفعل “الحل” المفاجيء غِبَّ “الربيع العربي” الذي هب بغتة على العالم العربي.

مذكرة جاءت بِمُبرر خدمة الصالح العام، وإخراج البلاد من الورطة، والدوخة، والتذبذب والتدهور، من دون أن تفوت الفرصة لمؤاخذة رئيس الحكومة على أحادية حزبه في المبادرة والتدبير من دون استشارة أو إشراك، مما يعني أن مسؤولية ركود البلاد من مسؤوليته.

أما باطنها، فيروم الرفع من كوطة الحزب، بإرضاء من كان سببا في وصول شباط إلى الأمانة العامة. وهذا وحده يكشف عن الخدمة الشخصانية والحزبية، لا الصالح العام. فشغف حزب الاستقلال بالسلطة، ومناوراته لحيازتها، وامتلاكها، واستملاكها، معروف، مقرر، وواقع تاريخي وراهني لا يرتفع، ولا يستطيع أحد مداراته، وإخفاءه، أو العمل على إنسائه وتناسيه، ولنا مثل في ما عاناه الاتحاد الاشتراكي من جراء تهافته، ومناورته ليفوز بالوزارة الأولى.

علما أن حزب الاستقلال يتحمل المسؤولية الأولى في تدهور مجموعة من القطاعات الحيوية، بل والمصيرية كالتعليم، والتجهيز، والشغل، والصحة. والسكن… وغيرها. فالتعليم الذي هو أولى الأولويات بعد الصحراء المغربية، عرف ولا يزال، المراوحة والانتكاسة، والتجارب “المخبرية” المغرضة المبيتة والفاشلة، على يديه. وتلك حقيقة ناطقة وناتئة تفقأ العين، لا مجال لطمسها أو زركشتها بالتزاويق.

تورد المذكرة الاستقلالية، مَاسَمَّتْهُ بخرق بنكيران لتدبير الشأن العام بمعية حلفائه، ضاربا بعرض الحائط ميثاق الشرف، والتعاقد الغليظ الذي نص عليه البند العاشر الذي يقول بالحرف : “إرساء رؤية موحدة ومنسجمة ومندمجة للعمل الحكومي، تتم صياغتها وفق مقاربة تشاركية”. والحال أن الفردية والفردانية، والبعد الحزبي الضيق للعدالة والتنمية، هو المتحكم في مجموع الممارسات الحكومية التي يتتبعها الرأي العام، والتي يعبر عنها هذا الوزير أو ذاك من دون العودة الاستشارية إلى باقي المكونات المتعاقدة. كمثل الزيادة في أسعار المحروقات، وأسعار عدد كبير من المواد الاستهلاكية، والإعلان عن إصلاح صندوق المقاصة أو حذفه. علاوة على سرعة وزير الاتصال مصطفى الخلفي القياسية، في إخراج دفاتر تحملات القطاع السمعي – البصري، من غير العودة إلى الحلفاء “المؤلفة قلوبهم، وجيوبهم”، ونشر لوائح الرخص المختلفة فيها سمي بـ “اقتصاد الريع” من دون أخذ رأي الحلفاء في النازلة، من حيث المقاربة والتوقيت والحجم، والتتبع، والعاقبة.

من جهة أخرى، أشارت مذكرة حزب الاستقلال، إلى أن التعديل الحكومي، “المرتقب”، ينبغي أن يضع في الاعتبار تمثيلية المرأة داخل الحكومة تفعيلا للمساواة والمناصفة التي أقرها الدستور، بنسبة ، فيما تقول اللجنة التنفيذية، لا تقل عن %20 في المائة، مع تمثيلية ناجعة ومعتبرة لأقاليمنا الجنوبية الصحراوية.

ولعل أهم ما جاءت به المذكرة – في تقديري الخاص- هو تركيزها على تقليص العدد الإجمالي للحقائب الوزارية، على نحو يعيد توزيعها في شكل أقطاب منسجمة ومتكاملة، ما يفيد عدم تفتيت الوزارة الواحدة، والقطاع الواحد – وقطع الرأس الثاني، والإبقاء على رأس واحدة دائرة ومدبرة، درءا لجبر الخواطر، و”ريع” الترضيات. هي ذي الحسنة التي تحسب للمذكرة إذا صلحت النيات، وَفُكِّرَ جديا في المسألة، لا تَزَيُّدًا وَتَذاكيا.

إنها مذكرة مؤدلجة تقيس الربح والكسب بمنظار السياسي المحنك : (بالمعنيين)، الذي خبر السلطة والنفوذ، وعرف بأسرار الدواليب والدهاليز، والممرات، ومتى يقضي الوطر، ويعزف على الوتر. مذكرة ضغطت على فوارة الكلام الكثير الذي يتداوله الناس طُرًّا.. من النخب إلى القواعد، ووضعته في قالب سياسي رسمي مختزل، تريد به وجه الحق، وإن كانت تضمر غيره : (علما أن الله أعلم بالسرائر). ومن ثم، فهي عملت على وضع القاطرة على السكة التي شرعت تحيد وتنحرف، استباقا لاصطدام وشيك، وزيغ مخيف، تتسارع عجلاته / لحظاته نحو الهاوية.

صراعات ومماحكات، وَلُعَابٌ : (أجهل جمعه لكن قيل أن جمعه سر من أسرار الشيطان) يسيل هنا وهناك، في هذا الخندق وذاك المتراس، على حساب انتظارات شعبية آنية وملحاحة لم تعد قادرة على صبر أيوب.

ذلك أن الأحداث والوقائع، أثبتت أن حزب العدالة والتنمية –الذي نتمنى له الهداية في التدبير، وتصويب الرماية في التقدير – من خلال وزرائه، وبرلمانييه، يمارس ازدواجية على مستوى الخطاب والممارسة، ويخلط بشكل فاقع بين الحزبية، وتسيير دواليب الدولة التي هي شأن مدني خالص – أحببنا أم كرهنا-.

فلم يتضح له الخطو بعد، ولم تنمز مسالك الشأن العام الوطني من الشأن الحزبي المتكيء على رؤية ومرجعية، وفلسفة دينية جزئية. ولئن كان من حق البرلمانيين مساندة الحكومة، إذ هم امتدادها وخلفيتها ولسانها، أو نقدها نقدا ناعما من منطلق ممارسات قطاعات وزارية معينة، فليس من حق الوزراء –قطعا- أن يلعبوا لعبة الوجه والقناع.. لعبة الغماية، ذلك أن الاستوزار وِزْرٌ عام، يتعدى بيتهم، ومسؤولية سياسية واجتماعية، وأخلاقية وثقافية، تهم المجتمع بقضه وقضيضه، لا شريحة أو فئة محسوبة عليهم، أو “مليونية” صوتت لهم وعليهم. وآية هذه الازدواجية الخطيرة والمعوقة لسير الحكومة العادي، وترجمة البرامج الاجتماعية والاقتصادية إجرائيا في المَدَيَاتِ المرسومة والمسطرة، وفق أجندة متحكم فيها :

-انتقال صفة الناطق الرسمي من الخلفي إلى بنكيران، والعكس بالعكس، علما أن مصطفى الخلفي هو من يحمل الصفة إياها لا رئيس الحكومة.

-تأرجح كلام الداودي وزير التعليم العالي والبحث العلمي، بين الحماس للمجانية، وإخراج البحث العلمي من رطوبته وانسداده إلى النور، وبين إلغاء المجانية، واعتبار كليات الآداب نوافل وزوائد لا فائدة ترجى منها، وبين تكذيب ذلك، والتراجع عنه.

-إشهار لوائح المستفيدين من المال العام بغير وجه حق، في النقل والمواصلات، ومقالع الرمال و”الصيد البحري”، والتهديد بالكشف المستمر، وتعرية ما تبقى من “أعشاش الزنابير” إلى حين، في مشهد غوغائي فلكلوري فقاعاتي، سرعان ما يخبو ويطوى، ويدخل الغمد كسيف مفلول مثلوم صديء.

-محاربة الفاسدين والمفسدين، والعفو عنهم بتزكيتهم عبر حكمة معلبة، ومدسوسة يراد بها باطل : “عفا الله عما سلف”، كما جاء على لسان رئيس الحكومة في إشارة عارية منه، إلى انكماش رقعة صلاحياته، وسلطته التي يقرها الدستور.

-أما السيد مصطفى الرميد وزير العدل والحرية، فهو يقف على رمال متحركة.. كلما هم بنقل الخطو أماما، غاص. وهو مؤشر على أنه فقد البوصلة، أو نزعت منه خلسة بليل.

فبعض “الملشيات” ركبت مبدأ “الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قاعدة خولت لنفسها بموجبها، محاربة ما تراه مروقا وخروجا عن الدين والأخلاق، وشرع الله. ولا أرى ضرورة في تذكير القاريء بمحطات مرت بنا، عَسُرَ فيها التمييز بين حزب “الشعب” الحاكم، والمحسوبين عليه، وحزب الله الإيديولوجي الدعوي، وبين السلفية الأصولية التي يتبرأ منها، أو من بعض ممارساتها ودعاواها. ثمة ما يحمل على القول بأن يد الحركة، حركة “التوحيد والإصلاح”، حاضرة، موجهة وضاربة في الوقت المناسب، مثلما هو الحال بمصر المحروسة، إذ مُرْسي ما هو إلا “كراكوز” بئيس في يد المرشد العام للإخوان محمد بديع ، والرئيس الفعلي خيرت الشاطر. زِدْ على ذلك، انحسار مُرَيّع العدالة والحريات لفائدة الداخلية. فما يحدث للمعطلين، والقطاعات النقابية المضربة أو المعتصمة، من قمع، وتنكيل وترهيب، دليل على انكماش وزارة العدل، وهيمنة الداخلية على المشهد السياسي العام. حتى لكأن المرء يوشك على القول بعودة “المرحلة البصرية”. وما فكرة الاستعانة بمراقبين دوليين في أثناء الاستحقاقات الجماعية المقبلة، والتي رغب فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم –يا حسراه- سوى دليل آخر على إدراك حجمه، وتحسس قامته أمام تغول وزارة الداخلية.

إنها إشارات سريعة لكن دالة على انكماش دور الحزب الأغلبي الحاكم بمعية الأغلبية الحزبية المؤتلفة معه. ولعل في قراءتها –كما مر بنا- ما يسمح بالقول، بأن صلاحيات واختصاصات الرئاسة لم تمارس بعد، ومقتضيات الدستور لم تتنزل حتى يتسنى لنا الكلام عن انتقال ديمقراطي حقيقي، وتفعيل لآليات الديمقراطية، وإطلاق الأوراش الاجتماعية المنتظرة في نهاية الطريق القصير، تقفقف من البرد والجوع، وضيق ذات اليد. علما أن وزير السكن و التعمير، وسياسية المدينة، اعتبر – والعهدة عليه-، وفيما يفهم من كلامه- أنه لا يمكن لأي كان إخراج القوانين التنظيمية دون المؤسسة الملكية –أما أنا فلم أفهم- والله- منطوق و”معموق” هذا الكلام.

وتأسيسا عليه، فلا مجال للثرثرة الفارغة، ولا وقت للإطناب، والخطب العصماء، والمزايدات من هذا الطرف أو ذاك. الفئات الشعبية المحرومة تنتظر الموعد الذي ضربه الحزب الملتحي.. تنتظر ذلك التعاقد مع الناخب الذي يمكن تصريفه بالغذاء والدواء، والتشغيل، وحل معضلة التعليم، وتوفير السكن اللائق، واجتثات مدن الصفيح، وأحزمة الفقر مرة واحدة وإلى الأبد،.. والنهوض بالمرفق العمومي العام، والإعلام الرفيع ذي الصدقية والموضوعية والحرفية في مقاربة وتقديم الأخبار واستقائها، ومناولة الثقافة الحداثية الهوياتية والكونية، سينمائيا ومسرحيا، وموسيقيا وتشكيليا وشعريا وسرديا وحكائيا، ومهرجانيا. لا مجال لتضييع الوقت في إضافة فلان أو إسقاط فلان، فالإضافة أو الإسقاط لن يضيفا شيئا إلى المشهد السياسي المبلبل والمختل أصلا. ما ينبغي التركيز عليه هو : إنقاذ البلاد والعباد في المدى المنظور والمسطور، بتفعيل مقتضيات الدستور، وقوانينه التنظيمية، وإعمال الصلاحيات المطروحة ضمن أسمى قانون في البلاد، والعمل على خلق بيئة ديمقراطية مسؤولة وطنيا وجهويا : (فالجهوية الموسعة قادمة)، والحرص على تسمية الأشياء بمسمياتها، وعزل كل موظف سام قعد به طمعه عن تحريك وتنزيه وتخليق المؤسسة، أو القطاع الذي هو على رأسه، وتحت إمرته، سواء تعلق الأمر بالرياضة أو بالسياسة، أو بالاقتصاد، أو بالتربية والتعليم، أو بالشغل والعدل، والتجهيز، ما دام أنها مؤسسات عمومية تخضع لإشراف الدولة – الحكومة المباشر، وما دام أن كبار مسيريها ومدرائها، يتعيشون، ويتطاوسون من الأرصدة المنفوخة، والأجور المتضخمة الآتية من عرق، ودم دافعي الضرائب. مع حماية ورعاية حقوق عمال، ومستخدمي القطاعات والمؤسسات الخاصة، عبر آليات التشارك الديمقراطي والتعاقدي مع أرباب ومديري ومجالس تلك المؤسسات.

فلا مَشَاحَةَ في أن حكومة قوية مسنودة بالثقة الملكية، والثقة الشعبية العريضة، وفي مقدمتها النخب السياسية المختلفة، والنخب الثقافية، والجامعية، والنقابية وغيرها، ومستظلة بدستور حي متحرك، متبلور في المؤسسات، والإدارات، والفضاءات المختلفة، والقطاعات المتنوعة، هي ما يخرج الوطن من الضائقة التي هو فيها، والانحباس الذي يَتَلَجْلَجُ في خيوطه وشِبَاكِهِ، يحرر رقبته من حبل مفتول مغزول بما يكفي، التف عليها، وبات يهدده بالاختناق، فالسكتة… فالموت، أو الطامة التي لا تحمد عقباها.

ختاما أقول : هل انتبهت الحكومة، والأمين العام لحزب الاستقلال عبد الحميد شباط، إلى وضع البلاد المتردي تنمويا على واجهات عدة، ورتبتها الذيلية المخزية في سلالم قطاعات حيوية كالتعليم، والصحة، والسكن، والرياضة، وحقوق الإنسان ، والأمية، والفقر الضارب، وانكماش التنافسية الاقتصادية، والاستثمارات العربية والأجنبية. فهل، والأمر على ما رأينا ، يُعَدُّ من الوطنية، والمواطنة، تضييع الزمن السائل المنفلت، في التراشق اللفظي، والبهرجة الكلامية، والشطحات البهلوانية، واقتتال الديكة، وفي التعديل الحكومي بالإضافة أو الحذف؟

وهل إضافة وزير أو أكثر إلى هذا الحزب، سينقذ البلاد والعباد من نقص الأوكسجين الحياتي الذي يتهددهما؟

إن المسألة أعمق وأوسع من التعديل الوزاري ، المسالة تقتضي استحضار المصلحة العليا للوطن، والإنتصار على النفس الأمارة والأنانية والأثرة ، وإعمال المقتضيات، وتفعيل القوانين التنظيمية – كما أسلفنا- وتقتضي الشروع – وقد مرت سنة فارغة مترنحة – في تنفيذ الكلام الانتخابي الذي أوصل هؤلاء إلى الحكم والحكومة، ببلورته في المَدَيَاتِ والآجال المضبوطة والمحسوبة وفق المؤشرات والمعطيات الوطنية والإقليمية، والدولية، أي تنزيل البرامج الحزبية التي قيل إنها تعاقدية مع الشعب، من أجل الشعب.

إشـارات :

*ينظر في الكتاب المقدس :” سفر التكوين ” ، للمزيد من الإطلاع على قصة عيسو ويعقوب لفهم مغزى ودلالة الإسقاط .

1-تحدث البعض ومنهم الحزب الملتحي الحاكم، عن عدم جاهزية البيئة المغربية للملكية البرلمانية، فهذا الكلام يدعو إلى السخرية لأنه يقلل من شأن المواطن المغربي، ويشكك في مدنيته ، ومستواه المعرفي ، والتربوي ، والعلمي، ووعيه بحسبان الاحتكاك اليومي والاغتذاء الأسري والعلائقي بخصوص الطبقة غير المثقفة. ويتناسى قوة وحضور نخبه السياسية والثقافية والحقوقية والجمعياتية، و انفتاحها على صفحة الكون الديمقراطية ،وراشدية الجمهوريات الأوربية والأمريكية، وبعض الدول الأسيوية، والملكيات الغربية، علما أن تأخر الشعب المغربي في تَلَقُّفِ الطبق الديمقراطي، وتنشق ريح الديمقراطية، والحريات، لم يكن بسببه، أو لِعِلَّةٍ فيه، أو لعامل جيني وراثي غريب لاَئِطٍ به، يدفع كل نسمة تحرر، ويتأفف من العيش اللائق الكريم، بل بسبب سياسة لا شعبية ولا ديمقراطية، سياسة فاسدة مستبدة احتكارية واحتقارية مورست عليه، وصَفَّدَتْ انطلاقه، وأفقه، وَتَشَوُّفَاتِهِ، زمنا مديدا ووقتا عديدا.

3-مازلنا ننتظر – على أحر من الجمر- ما قاله الحزب من أن دخوله الحكومة، وتسنمه ذرى قيادة البلاد مع الأغلبية المشاركة، إلى جانب ملك البلاد، سيكون مناسبة سانحة، وفرصة مواتية لترسيخ دولة القانون، والجهوية المتقدمة (الموسعة)، والحكامة الرشيدة، الضامنة للكرامة، والحقوق والحريات، والأمن، والقائمة على المواطنة الحقة، وربط ا لمسؤولية بالمحاسبة، والحقوق بالواجبات.

فما نفهمه من الحَوْكَمة ليس تدبير الشأن العام بالديمقراطية التشاركية، وإعمال الشفافية فقط، بل بالكشف الحقيقي والمسؤول – والذي له ما بعده- عن عوائق تقدم البلاد، وشيوع الفقر والظلم، والتفاوت الطبقي الفادح فيها.

4-لا يختلف إثنان في أن حزب الاستقلال العتيد، هو من “اغتال” المدرسة العمومية، وأغلق كل الآفاق في وجه الشباب، وهو من نشر فرية “التعريب” و”فَرْمَلَ” التكوين الأكاديمي العالي للموظفين بإصداره المذكرة المشؤومة-سيئة الذكر رقم 504 في ولاية عز الدين التازي، وَلَخْبَطَ كل شيء، فإذا الطرق مسدودة، والمسالك شائكة، والمديات مقفلة ومحجوبة. فحزب الاستقلال ليس سوى لسان “جماعة مهيمنة منغلقة على مصالحها، ولها تصور احتكاري للهوية الوطنية” فيما يقول السوسيولوجي محمد الناجي.

الحزب له مصالح في كل الفضاءات ذات السلطة والجاه، في الإدارات، والمقاولات، كما في الأبناك، والأسلاك الدبلوماسية، والرياضية كذلك. وهذا حاصل وناتج سياق تاريخي كانت له الغلبة فيه لقوة وجبروت المراكز التي اعتلاها، وَجَاهِهِ الإثني –السلالي، ودم “آل الفاسي” الأزرق !! الذي هو دم “فريد”، “متوحد” ومخصوص؛ وحاصل الإبقاء على أبناء الوطن… أبناء جيش التحرير، والمقاومين الشرفاء والعمال والفلاحين، والحرفيين، والشرائح الاجتماعية التحتية الأخرى، الإبقاء عليهم “هنا” – بفعل سياسة طبقية ماكرة سُنَّتْ لهذا الغرض – مشدودين إلى برامج، ومناهج وفضاءات تربوية / تعليمية، عتيقة ومفصولة تُخَرِّجُ جيشا من رجال ونساء التعليم، وحشدا من المهنيين اليدويين، والماهرين العضليين، فيما ظلت المناصب السامية، مناصب الأمر والنهي والقرار النافذ، والمال والبحبوحة والأبهة، حكرا على أبناء الحزب ، عبر شريحة اجتماعية فيه تحديدا، يقال لها خطأ : “البرجوازية الوطنية” !

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد