وهل هناك فرق بين تسمية المغرب بالعربي وتسمية شوارعه بـ”الدهلوس”؟
بقلم: محمد بودهان//
اكتشف المغاربة، مصدومين وغير مصدّقين، بدءا من الأسبوع الثالث لشهر ماي 2020، عبر الصحافة وشبكات التواصل الاجتماعي، أن مدينة “تمارة” المغربية تحوّلت، منذ مدّة، إلى مدينة مشرقية وخليجية (نسبة إلى بلدان الخليج) كما تشير إلى ذلك وتُثبته أسماء أُناسٍ خليجيين أُطلقت على شوارعها تكريما لهم وعرفانا بجهادهم في سبيل وأد المرأة والديموقراطية والتسامح والاختلاف، مثل: “خالد السلطان”، “بسام فرج”، “خالد الحمودي”، “حمد الدهلوس”، “خالد سعود الحليبي”… وغيرهم. لقد أثار هذا “الاكتشافُ”، على شبكات التواصل الاجتماعي، غضبا جارفا وتنديدا عارما بهذا “السبي” لمدينة مغربية وتقديمها هدية لعربان الخليج يغتصبوها ويفتضون بكارتها المغربية. وهو ما اضطر معه المسؤولون بـ “تمارة” إلى إزالة اللوحات التي تحمل تلك الأسماء الخليجية.
لكن اللافت أن سبب هذا الغضب والتنديد ليس لأن شوارع تلك المدينة المغربية تحمل أسماء عربية خليجية، بل فقط لأن تلك الأسماء هي لشخصيات معروفة بتطرّفها الديني ونشرها للفكر الوهابي الظلامي ذي المنحى الإرهابي. وهو ما يعني أن أسماء أخرى من نفس بلدان الخليج هي دائما مقبولة كأسماء لشوارع المدن المغربية. هذا الرفض لأسماء خليجية لاعتبار أنها لشخصيات متطرّفة، وقبول أخرى بناء على أن أصحابها غير متطرّفين، يقفز على المشكل الحقيقي الذي هو عادةُ ـ وعاهة كذلك ـ تفضيل، إحصائيا، إطلاق أسماء عربية مشرقية على شوارع وأزقة المدن المغربية والمنشآت والمؤسسات الوطنية، ويركّز على مشكل هامشي وفرعي، نابع من الأول وتابع له، وهو طبيعة أصحاب تلك الأسماء العربية.
بماذا نفسّر إذن ميل المغاربة إلى تسمية شوارع مدنهم ومؤسساتهم الوطنية بأسماء الأعلام الشخصية العربية المشرقية، بدل أسماء الأعلام الشخصية المغربية، الوطنية والمحلية؟ السبب معروف وهو اعتقادهم أنهم عرب وجزء من الشعب العربي، نتيجة قرن من التعريب الهوياتي الجماعي المؤسساتي الذي انطلق في 1912، وأدّى إلى تحويل جنسي للمغاربة من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى الجنس العربي الأسيوي. أن تُسمّى إذن شوارع مدنهم وساحاتهم ومؤسساتهم بأسماء لشخصيات خليجية، هو شيء عادي ومفهوم استنادا إلى أن المغرب، حسب ما رسّخته سياسة التعريب المقيتة، هو امتداد لهذا الخليج. فالمنطق الذي بنى عليه منتخبو “تمارة” اختيار تلك الأسماء الخليجية هو أن المغرب إذا كان يوصف بالعربي، فما المانع إذن أن تحمل شوارعه اسم “الدهلوس” ما دام أن هذا الأخير هو أيضا عربي مثل المغاربة؟ ولهذا إذا كان هناك من يرفض بالمغرب إطلاق هذه الأسماء على شوارع “تمارة”، فهذا الرفض لا يمسّ إذن الموافقة المبدئية على تسمية هذه الشوارع بأسماء عربية خليجية، وإنما يتعلّق فقط، كما سبقت الإشارة، برفض مجموعة من الأسماء لشخصيات عربية بعينها بسبب توجّهها الوهابي الداعشي. وهو رفض قد نجده حتى عند دول عربية خليجية نفسها عندما ترفض إطلاق أسماء عربية على شوارعها نظرا للتوجه الإيديولوجي والسياسي لأصحاب تلك الأسماء، وليس لأن تلك الأسماء عربية.
هذا التمييز بين الصحّة المطلقة لمبدأ جواز إطلاق أسماء عربية أجنبية على شوارع مدن مغربية، وبين الاحتياط في تطبيقه باختيار أسماء الشخصيات العربية “المناسبة”، ينقل المشكل إذن إلى ما هو هامشي وفرعي، كما قلت، ولا يمسّ إطلاقا جوهر المشكل الذي يجد أصله في تبعية المغرب الهوياتية للمشرق العربي، مع ما ينتج عنها من تبعيات فرعية أخرى في الثقافة والفن واللغة وأنماط التديّن والعبادة، وحتى في أشكال اللباس…
وما يهمّ في هذا النقاش الذي أُثير حول أسماء أولئك السلفيين الخليجيين، ليس ما هو حاضر ومنطوق به، وهو التطرّف والظلامية والتعصّب، وإنما ما هو غائب ومسكوت عنه، وهو إقصاء الهوية الأمازيغية للمغرب والمغاربة، والتي لا نجد لها أثرا في الأسماء التي تطلق على الشوارع والساحات العمومية والمنشآت الوطنية، مثل المدارس والجامعات والمستشفيات والسفن… ولا يمكن الاعتراض أن هناك مؤسسات وشوارع تحمل، مثلا، اسم طارق بن زياد أو عبد الكريم الخطابي أو الحسن اليوسي… فهؤلاء لم تسمّ بهم تلك المؤسسات لأنهم أمازيغيون، بل لأن أسماءهم عربية.
ثم إذا كان الرافضون للأسماء العربية الخليجية التي اختارها مسؤولو مدينة “تمارة” لتسمية شوارع مدينتهم، يبرّرون ذلك الرفض بنزعة التطرّف والظلامية والتعصّب التي يشتهر بها أصحاب تلك الأسماء، فإن السؤال هو: من أين جاءت تلك النزعة وغزت المغربَ حتى أصبحت أسماء أقطابها تشوّه الوثائق الرسمية للدولة من خلال العناوين المكتوبة في تلك الوثائق، والحاملة لتلك الأسماء؟ جاءت، كما كتبت، من تبعية المغرب الهوياتية للمشرق العربي، حيث ظهرت تلك النزعات المتطرّفة والظلامية، مما كان لا بد معه أن تنتقل إلى المغرب عملا بمنطق اقتداء التابع بالمتبوع. ومن هنا فإن محاربة هذه النزعات لا تكون بوضع حدّ لإطلاق تلك الأسماء الممثّلة للتيارات الوهابية الظلامية على شوارع المدن المغربية، وإنما تكون بوضع حدّ لتبعية المغرب الهوياتية للمشرق، والتي هي المصدر الحقيقي لانتشار تلك النزعات الوهابية الظلامية ببلادنا، مما سيستعيد معه المغرب استقلاله الهوياتي كدولة أمازيغية في هويتها الجماعية، المستمدة من انتمائها الأمازيغي الإفريقي. ولهذا عندما كان المغرب أمازيغيا في هويته الجماعية (أقول الجماعية تمييزا لها عما يدعيه هذا الشخص أو ذاك من انتماء فردي، غالبا ما يحيل على عرق منتحَل)، قبل 1912، كان إسلام المغاربة مغربيا محضا، لا بمعنى أنه إسلام آخر، بل بمعنى أنه ذلك الإسلام الذي كانوا يؤمنون به ويمارسونه، بعيدا عن أي تشدّد أو تكفير أو سلفية زائدة، ومع غير قليل من التسامح والفطرة والحرية…
أمام زحف التيار الوهابي الظلامي التكفيري وانتشاره المتنامي بالمغرب، والذي أصبحت أسماء رموزه المشرقية تملأ الشوارع والأوراق الرسمية، بدأ العديد من المثقفين المغاربة يحذّرون من مخاطره على مقومات الهوية المغربية التي يعمل هذا التيار على طمسها واستئصالها. يقول الكاتب السيد سعيد الكحل، في مقال نشره بتاريخ 18 ماي 2020على موقع “الحوار المتمدّن” تحت عنوان “إنهم يطمسون الهوية الوطنية يا وزير الداخلية”، إن هذا التيار السلفي الوهابي الظلامي يعمل على «أسلمة المجتمع عبر طمس هويته الوطنية والتاريخية والثقافية والحضارية»، مضيفا: «إن طمس الهوية هو أخطر جريمة إنسانية في حق الشعب المغربي توازي جريمة طمس الهوية الفلسطينية التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني».
هذا تحليل حصيف وكلام ثاقب وحكْم صائب وقويم. لكن الأستاذ الكحل، كغالبية المثقفين المغاربة، لا يسمّي هذه الهوية التي يدعو إلى حمايتها من الطمس والزوال. فعبارة: “الهوية الوطنية والتاريخية والثقافية والحضارية” كلام عام وفضفاض لا يقول شيئا مدقَّقا عن مضمون وطبيعة هذه الهوية الوطنية، ومكوّناتها التاريخية والثقافية والحضارية التي يجب صونها والدفاع عنها. فالتيار الإسلامي المحافظ بالمغرب، الذي يرى فيه الأستاذ الكحل تهديدا للهوية الوطنية، هو نفسه يعتبر هذه الهوية الوطنية إسلامية وهابية في مضمونها ومكوّناتها، ويدعو إلى الحفاظ عليها وحمايتها من التطرف العلماني والحداثي الذي يهدّدها. ولهذا عندما يطلق أتباع هذا التيار على شوارع مدن مغربية أسماء مشايخ وهابيين متطرفين، يعادون الديموقراطية والمرأة والحداثة، فذلك يدخل، حسب فهمهم للهوية، في إطار صونهم للهوية الوطنية وتحصينها والدفاع عنها.
ويبدو أن سبب عدم توضيح السيد الكحل، كغيره من المثقفين الذين لم يعودوا يصفون هذه الهوية بالعربية كما كانوا يفعلون بكل سهولة قبل أن تفرض الأمازيغية نفسها في المدة الأخيرة وخصوصا بعد ترسيمها الدستوري المشروط، للمقصود بالهوية الوطنية وتحديد مضمونها رفعا لمثل اللبس الذي أشرنا إليه، هو الإحجام عن ذكر الأمازيغية التي تشكّل المضمون الحقيقي لهوية المغرب والمغاربة. ولماذا الإحجام عن ذكر الأمازيغية وتبيان أنها لبّ الهوية الوطنية بمكوّناتها التاريخية والثقافية والحضارية؟ لأن غالبية المثقفين المغاربة كما أشرت، والأستاذ الكحل واحد منهم، يرفضون اعتبار الهوية الجماعية للمغرب أمازيغية. فحتى عندما يعترفون بها يجعلون وجودها مقصورا على فئة صغيرة تشكل أقلية مقارنة مع ما يعتبرونه هوية الأغلبية الساحقة، والتي هي الهوية العربية في نظرهم. ومن هنا فهم لا يعارضون سياسة التعريب، أي سياسة التحويل الجنسي للمغاربة، بالمعنى القومي والهوياتي الأصلي لكلمة “جنس” في العربية. وهنا يقعون في تناقض عندما يعلنون رفضهم للحركات الدينية الوهابية المتطرفة، لكنهم يقبلون سياسة التعريب الهوياتي والتحويل الجنسي التي كانت وراء ظهور هذه الحركات بالمغرب. هم يرفضون نتائج التعريب، المتمثلة في ظهور حركات إسلامية وهابية ببلدنا، لكنهم يقبلون أسبابها التي هي سياسة التعريب الهوياتي والقومي والسياسي والإيديولوجي. فهم لا يعادون التيارات الوهابية والداعشية من منطلق الدفاع عن الهوية المغربية الحقيقية، بل من منطلق علماني معارض أصلا لأسلمة الدولة والمجتمع.
فبدون توضيح أن المقصود بالهوية المغربية هو الهوية الأمازيغية، لا يمكن فهم ما كتبه الأستاذ الكحل من أن طمس الهوية هو جريمة توازي طمس الهوية الفلسطينية. فهذه الموازاة لا معنى لها إلا إذا كان المقصود بالهوية المهدّدة بالطمس في المغرب هي الهوية الأمازيغية. لماذا؟ لأنها ضحية لجريمة التعريب بالمغرب مثلما أن الهوية الفلسطينية هي كذلك ضحية لجريمة التهويد. وهنا يكون التوازي واضحا وبيّنا. وقد سبق أن حللنا علاقة الموازاة هذه بين التعريب بالمغرب والتهويد بفلسطين في مقال بعنوان: “التهويد بفلسطين والتعريب بالمغرب: وجهان لسياسة عنصرية واحدة”، منشور ضمن كتاب: “في الهوية الأمازيغية للمغرب”.
كل هذا يبيّن أنه لا يمكن، بالمغرب، استئصال الفكر الإسلامي الداعشي، الوهابي التكفيري المتطرّف، دون استئصال شروطه وأسبابه التي هي سياسة التعريب. وهذا ما لا يريده غالبية المثقفين المغاربة مثل الأستاذ الكحل، الذين غالبا ما يتبنّون الدفاع الصريح عن سياسة التعريب التي جعلتهم يؤمنون بأنهم عرب، وأن غالبية المغاربة عرب. وهذا ما أدى بهم إلى هذا المأزق: يدعون إلى محاربة التطرف والداعشية والوهابية، التي أنتجها التعريب، لكنهم لا يرفضون هذا التعريب ولا يعارضونه. مع أن الذي أوصل حمد الدهلوس إلى شوارع “تمارة”، هو سياسة التعريب الهوياتي والقومي والسياسي والإيديولوجي، التي يمارسها المغرب منذ 1912، والتي ارتفعت وتيرتها وزاد نشاطها بعد 1956. وبالتالي فإن المسؤول عن طمس الهوية المغربية هو التعريب وليس شيئا آخر.
ولهذا إذا تحوّلت مدينة “تمارة” إلى إقليم سعودي بالمغرب، كما كتب الأستاذ الصحفي كمال نعيم، يوم 17 ماي 2020، تعليقا على إطلاق أسماء شخصيات خليجية داعشية على شوارع “تمارة” (Naim Kamal, “une province saoudienne au Maroc”, https://quid.ma/societe/une-province-saoudienne-au-maroc )، فذلك شيء منطقي وطبيعي ليس فيه ما يثير دهشة ولا استغرابا. لماذا؟ لأن المغرب كله إقليم عربي. وما ينطبق على الكل (المغرب)، فهو بالضرورة يسري على الجزء (تمارة). والسعودية، بجانب جميع دول الخليج، هي مهد العروبة ومعقلها. فحتى لا تتحوّل أجزاء المغرب إلى أقاليم سعودية وعربية، يجب أولا تحرير المغرب، كبلد إفريقي، من العروبة الأسيوية التي تجعل منه إقليما تابعا هوياتيا لشبه الجزيرة العربية.
أمام ما أصبحت تخلقه تبعية المغرب الهوياتية للبلدان العربية الخليجية من شعور بنقص في الكرامة لدى الكثير من المغاربة، والذي هو شعور ينتج عن اعتزاز الشعوب بهوياتها الأصلية والمستقلة عن التبعية لأية هوية أجنبية، بدأ العديد من المغاربة يرفعون شعار “تامغرابيت” كتعبير عن الهوية المغربية الأصيلة والمستقلة عن المشرق العربي. هنا، مرة أخرى، يقف هؤلاء في منتصف الطريق ويُحجمون، هم كذلك، عن تسمية الأشياء بمسمياتها. فهؤلاء المغاربة يقصدون بـ”تامغربيت”، كما هو معروف، تلك الخصوصية التي ينفرد بها المغرب والمغاربة، وتميّزهم عن الشعوب الأخرى من غير تلك المنتمية إلى شمال إفريقيا، وخصوصا شعوب الشرق الأوسط. وماذا ستكون هذه الخصوصية التي تميّز الشعب المغربي عن باقي الشعوب الأخرى، إن لم تكن هي الأمازيغية؟ فهي الوحيدة التي تشكّل خصوصية ينفرد بها المغاربة، كجزء من شعوب شمال إفريقيا الأمازيغي الذين تجمعهم هذه الخصوصية التي يشتركون فيها، عن باقي شعوب الأرض. وهذا الانفراد والخصوصية والتميّز هو ما نسمّيه بالهوية الجماعية المشتركة لشعب ما. النتيجة أن هذه الهوية الجماعية للمغرب والمغاربة والدولة المغربية أمازيغية. فلماذا لا نسميها باسمها، أي الأمازيغية، ونكفّ عن التحايل حتى لا ننطق بها مستعملين بدلها اسم “تامغربيت”، الذي “أبى” إلا أن يكون مصاغا في قالب نحوي أمازيغي، تذكيرا أن الأمر يتعلق بالأمازيغية، ولا شيء غير ذلك. لكن يجب الاعتراف أن تنامي استعمال هذا المصطلح، “تامغربيت”، يعبّر عن بداية تنامي وعي هوياتي سليم، سيحلّ محلّ الوعي الهوياتي الزائف الذي أبعد المغاربة عن هويتهم الأمازيغية، وأفقدهم الافتخار بها والاعتزاز بالانتماء إليها. فالعودة إلى الأمازيغية هي عودة إلى الحقيقة بعد التخلّي عن الزيف والباطل. وفي ذلك حرية وتحرّر لأن الحقيقة، كما قال المسيح، تجعل أصحابها أحرارا.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.