مَن نحن؟ وما الذي نريده ؟

الدكتور حسن اوريد

“إن التربية الجيدة هي أن تعلم أبناءك اقتناص الأرانب في مرج توجد به الأرانب، والتربية السيئة هي أن تعلمهم اصطياد الأرانب في مرج انقرضت فيه الأرانب.”

حسن‭ ‬أوريد*

استأثرت بالاهتمام في صيف قائظ حالات اجتماعية تنبئ عن تحلل القيم وتفسخ القواعد الناظمة للمجتمع، ليس فقط لدى الفئات الشعبية، بل لدى نخبته المثقفة، وطبقته السياسة. ونكتفي بالتذكير ببعض الأحداث التي شغلت بال المجتمع صيفه المنصرم، منها حالة التحرش الجنسي بفتاة في الحافة بالدار البيضاء، ونزو شباب على أتان (حمارة) بسيدي قاسم، وحالات التشرميل المتفشية، ومراودة “مربي” لزوجة جندي، والقتل العمد لأفراد من ذات الأسرة، في تزامن مع عيد الأضحى، وحالات الانتحار، وحوادث السير الناجمة عن السرعة وعدم احترام الآخر، ونتوء أضاحي العيد جراء سوء التغذية أو تغذيتها بمواد موبوءة، و حالة الغش لمربيات، في امتحان الكفاءة، وهن يتلفعن بلباس حجاب، كان ينبغي أن يسبل عليهن سلوكا يحرم عليهن الغش ولمنظومتهن الأخلاقية أن تسبل عليهن الوقار… أما على مستوى الطبقة السياسية، فلم يتورع المتنافسون في حزب عريق أن يوظفوا الكلاب، ليس بمعناها المجازي، لحل خلافاتهم، واحتفل مرشح فاز في الانتخابات الجزئية، من حزب يزعم الورع، بالركوب على العمارية، كما لو هو في زفاف، وقد سبق للمحكمة الدستورية أن أبطلت انتخابه، لما للاحتفال بالعمارية من رمزية، منها النكاية وكما لو أنه اقترن بزواج بالانتداب، وما يصحب حمَلة العمارية من أهازيج «دّاها وداها، ولله إما خلاها..»، لينضاف على مستوى، الطبقة المثقفة، تصريح لشاعرة، يهدد مواطنين مغاربة بل مغاربيين بالذبح ذبحا، جُرمهم، في عُرفها، أنهم عرب، أو يتحدرون من العرب… مجتمعنا يشكو، في تحوير للغة الأمنيين، انفلاتا أخلاقيا. هذه الحالات هي غيض من فيض، وهي مؤشر على أزمة أعمق، ذلك أننا نشكو مما يسميه العالم الاجتماعي دوركايم بحالة انعدام القاعدة L’Anomie أي أن اللحام الذي يربط عناصر المجتمع أخذ يتحلل، أو بمصطلح دوركايم الوعي الجمعي، أو الأنا الجمعي. انتقلنا من طور، من مجتمع تقليدي كانت تضبطه، وتضبط بقايا منه قواعد الحشمة والوقار والعفة، لأن العلاقات الاجتماعية ميكانيكية، أو طبيعية، إلى طور هجين ليس بالحديث، والحال أن الحديث يخضع لقواعد عضوية ووظيفية منها المواطنة وسيادة القانون، والمسؤولية. لا يمكن أن نلقي بالتعلة على دينامية المجتمع وعلى التطور الذي عرفه ويعرفه. ولكن من واجبنا أن نفهم هذه التحولات انطلاقا من هذه المؤشرات و من خلال قراءة علمية كي نصوب الاختلالات. معروف أن دوركايم انطلق من حالات الانتحار التي كانت المتفشية في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر، كي يفهم أسبابها الموضوعية وينتهي إلى ما أسماه بانعدام القاعدة، بالترجمة الحرفية للمصطلح الإغريقي الذي صاغه، أو تفسخ القيم. والسؤال هو أين هم علماء الاجتماع منا، كي يشرحوا الظواهر الاجتماعية التي هي مؤشرات على تحولات عميقة في الجسم المجتمعي، عوض الانطباعات الصحافية؟ ولعل الصواب، أين هي المؤسسات التي من شأنها أن تحضن الباحثين الذي ينكبون كما ينكب الطبيب بمجسّه لرصد أدواء المجتمع ؟
وقد يكون الجواب الذي يعفينا من كل جهد، هو الدفع بالتربية. ولكن التربية لا يمكن أن تقوم من دون فهم لواقع، أو نقطة انطلاق والتطلع لهدف أو مشروع، أو نقطة وصول، أو طموح جماعي. لا يمكن أن نعفي أنفسنا من هذا السؤال الذي لا يحبه بعض السياسيين، “مَن نحن، وما الذي نريده”، ويعتبرون أننا نعرف من نحن، وندرك ما نريد، وجميل ذلك لولا أن المجتمعات متطورة، وقد ينحو التطور في كل الاتجاهات، ويتعين ضبطه أو صرفه الوجهة الصحيحة، وبقدر فهم تطوره، بقدر ما نستطيع من ضبط خلجاته وكبح زيغه حينما يكون هناك زيغ. تابعت الندوة الصحافية لمسؤول قطاع التربية لبداية الموسم المدرسي (وليس الدخول المدرسي، لأن للدخول، متعكم لله، مفهوما دقيقا)، وقد اعتبر مسؤولية قطاعه في «نصبغو الشراجم، والحيوط ونوفرو البنية التحتية»، و«أن اللي ما عجباتوش مدرسة يبدلها…»، هو جواب يليق بما كان يسمى مع طفرة الليبرالية الجديدة، بالدولة الُميسرة، ولكن الغربيين أنفسهم يعترفون بأن الأدواء التي يعرفها الغرب ناجمة عن جموح الليبرالية الجديدة. أكرر دوما هذه الحكمة، ولا بأس أن أكررها، لأن مدار البيداغوجية هو التكرار، أو مثلما يرد في القول المأثور «وبالتكرار تُدرك الأسرار»، أن التربية الجيدة هي أن تعلم أبناءك اقتناص الأرانب في مرج توجد به الأرانب، والتربية السيئة هي أن تعلمهم اصطياد الأرانب في مرج انقرضت فيه الأرانب. يعرف المربون رسالة لجول فيري، موجهة للمعلم، يركز فيها على الأخلاق، وعلى الأخلاق بالدرجة الأولى. لا أشك أننا في حاجة إلى إطار مادي لائق لمؤسساتنا التربوية، ولكن أن ننفض يدنا من كل مسؤولية عن الأخلاق في المنظومة التربوية، ونزعم الإصلاح الجذري، فذلك تنصل من المسؤولية. فلا عجب أن يستفحل التشرميل، والنزو على الحيوانات، والتحرش، والإفحام في المؤتمرات الحزبية بالكلاب. ينبغي أن نعيد النظر في ورقة اختبارنا، كما يقول التعبير الفرنسي، أو نعيد الكّرّة في منظومتنا التربوية وننكب عما من شأنه أن يرسخ وعينا الجمعي، بل أن لا نتأذى من السؤال، ما هو قَوام وعينا الجمعي حاليا؟

*مستشار‭ ‬علمي‭ ‬بهيئة‭ ‬التحرير مجلة الزمان .


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading