لماذا تعجز مؤتمرات الفقهاء عن حلّ معضلات المسلمين اليوم

أحمد عصيد

بين الفينة والأخرى تعقد مؤتمرات لفقهاء المسلمين من أجل النظر في “حال الأمة”، وغالبا ما يكون محرك هذه المبادرات دول وإمارات ذات مصالح استراتيجية محدّدة، في فترة معينة. وفي كل مرة، يتناوب الفقهاء على منصة الخطابة ثم يصدرون بيانا ويختمون لقاءهم بالدعاء وينصرفون، لتتفاقم المعضلات وتتزايد الأزمات والكوارث في الواقع الملموس، الذي يسير في اتجاه لا علاقة له بما يقوله هؤلاء الفقهاء ويرددونه فيما بينهم.

مناسبة هذا الكلام انعقاد مؤتمرين لفقهاء المسلمين في الآونة الأخيرة، أحدهما في القاهرة عقده فقهاء الإسلام السياسي المتشدّد من التيار الإخواني والسلفي، ودعوا فيه جهارا إلى “الجهاد في سوريا” ضدّ “الرافضة” أي الشيعة، أي أنهم اتفقوا على الإمعان في الخطأ وفق عقلية “داحس والغبراء” العربية القديمة، عقلية الانتحار التي تأبى الاعتراف بالخطأ، فتمعن فيه إلى درجة الهلاك.

والمؤتمر الثاني نظم بـ”كروزني” بالشيشان، تحت عنوان صدامي واضح هو “من هم أهل السنة والجماعة”، انتهى بالتنديد بالإرهاب، والتبرأ من تنظيمات الإسلام السياسي من تياري الإخوان المسلمين والسلفيين، وإخراجهم من دائرة “أهل السنة”. وقد استنكر فقهاء المؤتمر الأول ما صدر عن هذا المؤتمر الأخير، كما ندد فقهاء المؤتمر الثاني بما صدر عن الأول. والنتيجة أن هذه المؤتمرات مهما تكاثرت لا تفيد المسلمين في شيء، لأنها لا تنتهي إلى وضع يدها على مكامن الخلل، وإصلاح الأوضاع الآيلة إلى الهاوية.

فما هي أسباب ذلك يا ترى ؟

إن أولى الأسباب هي عدم التزام من يسمون أنفسهم “فقهاء الأمة” بمبدأ التحلي بالاستقلالية وبالنزاهة العلمية والفكرية، وبالحكمة التي يتطلبها المقام، والانخراط بدل ذلك في الصراع السياسي بين المسلمين، الذين اقتتلوا فيما بينهم سُنة وشيعة منذ أربعة عشر قرنا خلت دون توقف، والذين رغم الأزمنة الحديثة التي فتحت عيون الناس على الكثير من أخطاء الماضي، ما زالوا مصرين على استعمال معجم الماضي البعيد، وتكريس نفس الصراع بنفس الذهنية القديمة.

فمن يسمّون “علماء المسلمين” المشاركين في هذه المؤتمرات هم على العموم إما فقهاء الحكام والأنظمة ، وإما فقهاء الإسلام السياسي الوهابي والإخواني، أي أنهم جميعا متواطئون في بديهية الربط العضوي بين الدين والسياسة، ما يفسر إسراعهم إلى التخندق السياسي في مواقف دوغمائية ضدّ معسكرات آخرى من المسلمين أنفسهم، وضدّ كل مظاهر التحديث والتطور، عوض التفكير في التحديات الحقيقة التي تتهدّد كل دول المنطقة، وأولها التخلف الفاضح على جميع المستويات، وزحف العنف على الأوضاع السلمية .

السبب الثاني لعبثية المؤتمرات الدينية للفقهاء ارتباطها باستراتيجية دول المنطقة وبموازين القوى الدولية، فسواء تعلق الأمر بفقهاء السلطة أو بفقهاء الإسلام السياسي المتربص بالسلطة، فإن كل مؤتمر وراءه رهان سياسي قوي يتجاوز هؤلاء الفقهاء، لكنهم يُقحمون فيه بوصفهم وسيلة من وسائل الصراع الدائر، ليلعبوا اللعبة التي رُسمت لهم بتدقيق.

فإذا كان هدف بعض القوى العظمى هو إعادة تقسيم دول المنطقة على أساس طائفي ديني، فإن الفقهاء هم الوسيلة الفضلى لتحقيق هذا الرهان اعتمادا على صراعاتهم المذهبية، لأنهم يستطيعون شحن النفوس ضدّ بعضها البعض، وتجييش الناس على أساس المذهب والعقيدة الدينية بينما يجمع بينهم الوطن الواحد والمصير المشترك. وهذا الفخ هو الذي وقع فيه بوضوح فقهاء الإسلام السياسي الداعين إلى “الجهاد” في سوريا، وهم يعتقدون أن جهادهم سينتهي إلى سحق الشيعة “الرافضة” وإقامة دولة أهل السنة في سوريا أو في العراق، ولا ينتبهون إلى أنّ الوضع يتجه يوما عن يوم نحو تقسيم هذه البلدان إلى دويلات على أساس الطائفة والمذهب.

السبب الثالث هو هيمنة النزعة الخطابية على هذه المؤتمرات وانعدام الحس التحليلي الموضوعي الذي يستحضر كل العوامل المحيطة، بما فيها الأخطاء الناتجة عن استعمال الدين في السياسة، والغريب أن بعض تلك الخطب التي تلقى لا يؤمن بها حتى الذين يروّجون لها، إذ يدلّ سلوكهم ومواقفهم الحقيقية في اللحظات الحاسمة على خلاف ما نادوا به من على منابر الخطابة.

السبب الثالث هو عدم التزام الأطراف المجتمعة بما يتم الاتفاق عليه، إما بسبب خضوع كل طرف لسياق خاص ورهانات مغايرة، وهو ما لا تسمح النزعة الخطابية بظهوره خلال المؤتمرات، وإما لأن ذلك المتفق عليه يتعارض مباشرة مع الكثير من المصالح الواقعية لهذا الطرف أو ذاك، أو لمصالح الجميع.

السبب الرابع هو طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي تستعمل الدين في السياسة داخليا، بينما تخضع في نفس الوقت لموازين قوى تتجاوزها دوليا. وهو ما يؤدي إلى صناعة أوضاع كاريكاتورية، مثل الدعاء على “الكفار” بـ”زلزلة الأرض تحت أقدامهم وجعل أموالهم غنائم للمسلمين”، وفي نفس الوقت العمل على تمتين العلاقات الاقتصادية والمبادلات التجارية مع هؤلاء “الكفار”، والسعي إلى شراء مختف المنتوجات التكنولوجية الباهرة منهم واستيرادها، مع الاحتفاظ على نفس البنية الذهنية التي تبقى محبوسة في القرون الوسطى المظلمة.

السبب الخامس ضيق الأفق الفكري لدى “فقهاء المسلمين” واقتصارهم على مرجعية الدين والفقه التراثي، في تغاض مقصود عن علوم عصرنا، فهم لا يقبلون إخضاع الفقه التراثي والقراءات القديمة لأدوات التحليل والتمحيص العلمية المعاصرة، لأن ذلك عندهم أشبه بإخضاع المقدس للمدنس، وهم بذلك لا ينتبهون إلى أنهم يجعلون أنفسهم في موقع العاجز عن مقاربة القضايا المعاصرة وإيجاد الحلول الناجعة لها، لأن حلول العصر الحالي لا يمكن أن تنبثق من الماضي بأي حال من الأحوال، لاختلاف السياقات وتباينها أحيانا حدّ التناقض.

السبب السادس هو عدم القدرة على حل الخلافات المذهبية بين الإسلام الشيعي والسني، والانغلاق في إطار الأورثوذوكسيا السنية في تجاهل تام لباقي المسلمين، مما يساهم في إذكاء الصراعات السياسية عوض حلها، لأن الكثير من الخلافات بين السنة والشيعة بحاجة إلى جُهد فكري وعلمي من طرف الفقهاء لا يقوم به إلا القلة منهم، الذين تبقى آراؤهم بمثابة مواقف “شاذة”. ويؤدي ذلك إلى جعل كل مؤتمر مناسبة لإشعال فتيل الفتنة بين المسلمين .

لا نملك إمكانية “الإفتاء” لفقهاء المسلمين بما ينبغي عمله، لكننا في رأينا المتواضع نعتقد أن من باب التعقل والروية وحصافة الفكر أن يدرك فقهاء المسلمين بمختلف مللهم ونحلهم حتمية القيام بأمور ثلاثة:

ـ فك الارتباط العضوي بين الدين والسياسة في الفكر الفقهي، واعتبار الدين إطارا أخلاقيا عاما، واختيارا شخصيا للأفراد وليس نظاما سياسيا يخضع له الناس بالعنف والسلطوية. ومسوغ هذا الرأي أن الفقه التراثي كان استجابة لدولة الخلافة التي كانت دولة دينية، وهي اليوم تجربة أصبحت في ذمة الماضي. ما يعني الحاجة إلى فقه جديد يقطع مع بديهيات الفقه التراثي القديم.

ـ إعادة الاعتبار للجانب الروحي في الدين الإسلامي الذي تم اغتياله بسبب الغلو السياسي والرغبة في اختزال الدين في وصفة من التعاليم الفقهية، بغرض ممارسة الترأس والتسلط على رقاب الناس، وممارسة الوصاية على المجتمعات الإسلامية.

ـ حلّ الصراع بين السنة والشيعة عبر الاعتراف بأنّ الشيعة مسلمون، وبأن الإسلام قد انقسم منذ بداياته الأولى إلى مذهبين كبيرين هما السنة والشيعة، والانكباب على المصالح المشتركة في إطار منظور إنساني تحرري يعلي من شأن الإنسان المواطن، ويخدم تنمية البلدان الإسلامية بالأساس.

حل معضلة الوهابية والإخوانية باعتبارهما تيارين سياسيين، واعتبار دعاة الإسلام السياسي فاعلين سياسيين ذوي أطماع في السلطة وليس فقهاء دين، وتمكينهم من المشاركة السياسية ببرامج واضحة لا تستعمل الدين ولا تقسم الناس إلى مؤمن وكافر، وعدم المزايدة على تيارات التطرف بمزيد من التشدّد الذي يعرقل تطور المجتمعات الإسلامية، ويعمق من تخلفها.

بدون هذه الحلول سيظل الفقهاء المسلمون وقودا للفتنة المستعرة، وستظل شعوبهم محكومة بأنساق استبدادية، وسيحكم عليهم التاريخ بأن يظلوا خارجه.


اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد

اكتشاف المزيد من azulpress.ma

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading