اللغة العربية في كتاب: “من أجل ثورة ثقافية بالمغرب” لحسن أوريد
حظيت اللغة العربية بمكانة هامة في كتاب “من أجل ثورة ثقافية بالمغرب” (مطبعة النجاح لجديدة، الدار البيضاء، 2018، 352 صفحة. صدرت طبعته الثانية في 2019)، للكاتب والمفكر الأستاذ حسن أوريد. وعلى غرار مناقشاتنا السابقة لمكانة الفرنسية والفرنكوفونية في هذا الكتاب (“آفة الفرانكوفونيين في كتاب “من أجل ثورة ثقافية بالمغرب” على رابط هسبريس”: https://www.hespress.com/writers/420597.html)، ومكانة الأمازيغية بنفس الكتاب (الأمازيغية في كتاب “من أجل ثورة ثقافية بالمغرب” على رابط “تاويزا”: http://tawiza.byethost10.com/1tawiza-articles/arabe/aourid.htm)، سنناقش، في هذه المقالة الثالثة، تصوّر الأستاذ أوريد لمكانة ووظيفة اللغة العربية في كتابه المذكور.
هنيئا للعربية بالكاتب حسن أوريد:
يُقرّ الأستاذ حسن أوريد أن العربية ليست بلغة علم، ولو أنه يخفّف من هذا الحكم مستدركا: «لا لأنها قاصرة ولكن لأن من ينتسبون إليها لا ينتجون علما» (صفحة 183). ويقول عنها على لسان الراوي، الذي هو الكاتب حسن أوريد نفسه، في رواية “رباط المتنبّي” (نشر المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الأوى 2019): «وأعرضت عن اللغة العربية وما يرتبط بها من آداب لأنها لا تسمن ولا تغني من جوع». ولما سأله المتنبّي، بطل الرواية: «وهل اللغة العربية عبء؟»، أجاب: «توشك أن تكون كذلك» (صفحة 23 و24). لكن رغم هذا الاعتراف بقصور العربية كلغة علم، أو القول إنها لا تسمن ولا تغني عن جوع كما جاء في سياق رواية أحداثها خيالية، إلا أن الأستاذ أوريد تجمعه علاقة عشق باللغة العربية لا تخفى على من يقرأ كتبه الفكرية والإبداعية. هذا العشق يتجلّى في حذقه لها ومعرفته الموسوعية بمعجمها وآدابها وتاريخها وتراثها ونحوها وبلاغتها… ويتجلّى هذا العشق أكثر في الكتابة بها بشكل يبرزها لغة عذبة وجميلة وجذابة ورائعة. وكمثال على ذلك، كتابه “من أجل ثورة ثقافية بالمغرب”، الذي نناقش تصّور الكاتب للغة العربية في هذا الكتاب. فرغم أنه كتاب فكري وليس نصا إبداعيا، ويستعمل بالتالي لغة وظيفية لا حشو فيها ولا زيادة عما هو لازم، تؤدي فيها الكلمة معنى دقيقا ولا تُختار لما قد تضفيه من جمالية على النص، إلا أن هذه اللغة الوظيفية التي كتب بها الأستاذ أوريد تبقى، مع ذلك، جميلة وأنيقة وجذابة، منسابة ومنقادة وطبيعية، لا نشعر، ونحن نقرأ النص، بتكلّف أو عناء في انتقاء الكلمات واختيار الألفاظ. وقد مكّنته معرفته الموسوعية بمعجم اللغة العربية، كما قلت، من استخدام، عندما يتطلب السياق ذلك، كلمات عتيقة غير واسعة الاستعمال والانتشار استخداما وظيفيا فيه تحديث وتجديد وترقية للعربية. ويذكّرني، حسب اطلاعي المحدود والقديم، أسلوبه بالأسلوب الجديد والتجديدي الثوري الذي كان يكتب به طه حسين وجبران خليل جبران، اللذان جمعا في أسلوبهما بين الوظيفية والجمالية والسهولة. فهنيئا للعربية بالكاتب حسن أوريد.
العربية بين اللغة والهوية:
إذا كان الأستاذ أوريد يدعو إلى تدريس العلوم باللغات الأجنبية (الفرنسية والإسبانية والإنجليزية)، إلا أنه يدعو في نفس الوقت إلى العناية بالعربية والارتقاء بها وتعزيز مكانتها. يقول: «لا يمكن أن نفرّط في اللغة العربية، وينبغي أن نقرّ بإمكانية ارتقائها، بل إن المسؤولية الملقاة على عاتقنا نحن، في مغربنا (القطر) وبلاد المغرب قاطبة، من برقة إلى شنقيط، علينا أن نرعاها وقد شانها بنوها، وثلمها قادتها، وتفرق أهلها شذر مذر» (صفحة 183).
لماذا علينا، نحن المغاربيين، أن نرعى العربية بعد أن أهملها وثلمها ـ كما يقول ـ أهلها الذين هم الأحق برعايتها والعناية بها؟ قد نتلمّس الجواب في كلام الأستاذ أوريد: «فاللغة العربية أصبحت جزءا منا، أنتجنا فيها في مختلف العلوم المتاحة وفي الفقه، وأبدعنا في الآداب وإن لم نتميز، لأنها لم تكن لغة أصلية لدينا» (صفحة 171). ماذا يعني أن العربية أصبحت جزءا منا؟ يعني، حتى لو أن الأستاذ أوريد لم يٌفصح عن ذلك بشكل واضح وصريح، أنها أصبحت لغة الهوية والانتماء لدينا، نحن المغاربة والمغاربيين بصفة عامة. والجدير بالتذكير، علاقة بكون العربية أصبحت جزءا منا، أن هذه اللغة، ومنذ أن دخلت إلى بلاد الأمازيغ مع الإسلام، لم يسبق أن كانت جزءا منهم رغم مكانتها الدينية، وتقديسها باعتبارها القرآن والإسلام. ولهذا فإن هذه المكانة الهوياتية الجديدة (جزء منا)، التي تحتلها اليوم لدى المغاربة، هي نتيجة، أولا، للتعريب السياسي للمغرب (تحويله إلى دولة عربية) من طرف فرنسا بدءا من 1912، ثم نتيجة، ثانيا، للتعريب الإيديولوجي للحركة الوطنية، الذي (الإيديولوجيا) فرضته وعمّمته ونشرته المدرسة والإعلام وسياسة الدولة ومؤسساتها وأحزابها وجمعياتها ونقاباتها…، حتى أصبح الانتماء “العربي” للمغرب شبه بديهية لا تطرح أسئلة ولا تثير نقاشا.
أن تكون إذن العربية “جزءا منا”، أي مكوّنا لهويتنا، ليس معطى طبيعيا ولا تاريخيا، بل هو شيء مصنوع ومفروض، بدأ مع القرن العشرين ولم يكن له وجود قبل هذا التاريخ، ناتج عن التعريب الشمولي، السياسي والعرقي والهوياتي والإيديولوجي واللغوي، الذي تمارسه الدولة كسياسة عمومية بأهداف محددة وميزانيات ضخمة. وهذا ما جعل وظيفة العربية بالمغرب لم تعد لغوية، بل أصبحت تعريبية، بالمعنى الهوياتي، بغض النظر عن إتقان هذه اللغة أو الجهل بها. فهي أداة ليس لامتلاك العربية كلغة، بل لامتلاك العروبة العرقية كهوية. وليس التذكير دائما بارتباط العربية بالقرآن والإسلام إلا وسيلة من أجل هذه الغاية، التي هي خدمة العروبة العرقية والتمكين لها.
ولهذا إذا كنا، كما يشرح الأستاذ أوريد، نرتبط ثقافيا بعلاقة حميمية مع التراث المكتوب بالعربية، وهو ما يغيب، كما كتب، في علاقتنا بشكسبير عندما نتقن اللغة الإنجليزية، ولا حتى مع التراث الفرنسي رغم أن اللغة الفرنسية أصبحت جزءا من نسيجنا الثقافي (صفحة 173)، فذلك لأن الإنجليزية والفرنسية تحتفظان بالمغرب، عند من يحذقهما ويستعملهما، وحتى عند من يكتب ويبدع بهما، بوضعهما Statut الطبيعي كلغتين. أما وضع العربية بالمغرب، سواء عند من يتقنها أو يجهلها، فهو يتجاوز ما هو لغوي ليصبح وضعا هوياتيا، كما سبقت الإشارة، يعبّر عن الانتماء “العربي” للمغرب. فإذا كان مصدر العلاقة الحميمية بالتراث العربي هو العربية التي كُتب بها، فليس بصفتها لغة، وإنما بصفتها هوية وانتماء، نتيجة للإيديولوجية التعريبية التي تمارسها الدولة كسياسة رسمية، كما قلت.
ولهذا عندما يقول الأستاذ أوريد: «كتب طاغور بالإنجليزية دون أن يكون إنجليزيا، فانا إذ أكتب بالعربية أحافظ على استقلاليتي» (صفحة 174) ـ ويقصد، حسب السياق، أن ذلك لن يجعله عربيا ـ، فإن هذه المقارنة ليست صحيحة. لماذا؟ لأن الأستاذ أوريد إذا كان يحافظ، وهو يكتب بالعربية ،على استقلاله الهوياتي الأمازيغي، فإن ذلك يخصّه هو كشخص وفرد، على غرار طاغور الذي حافظ، على المستوى الشخصي والفردي، على هويته الهندية وهو يكتب بالإنجليزية. إلى هنا المقارنة صحيحة وسليمة. لكن الفرق بين الكاتب الهندي بالإنجليزية طاغور والكاتب الأمازيغي بالعربية حسن أوريد، هو أن الهند كلها محافظة على استقلالها الهوياتي الجماعي (والهوية مفهوم جماعي عندما يتعلق الأمر بشعب وأمة ووطن ودولة) عكس المغرب، الذي ينتمي إليه الكاتب أوريد، والذي تتصرّف دولته كما لو أنه بلد عربي بهوية جماعية عربية. فلا يهمّ إذن أن استعمال العربية من طرف الكاتب الأمازيغي حسن أوريد لم يغيّر شيئا من شعوره، كشخص وفرد، بانتمائه الأمازيغي، إذا كانت هذه العربية تُستعمل في المغرب كمظهر للانتماء العربي لهذا المغرب، وهو ما يؤكد الوضع الخاص للعربية كهوية وعروبة وليس فقط كلغة، مثل الفرنسية بالمغرب أو الإنجليزية بالهند.
العربية والتراث والمقدّس:
ومن بين ما يسوقه الأستاذ أوريد كمسوّغ للعناية بالعربية وتدريسها ودراستها، القول بأنها تضمّ تراثا غنيا، مفتاح الدخول إليه هو التمكّن من العربية. وقد أعطى أمثلة كثيرة من نماذج هذا التراث، الشعرية والنثرية والفكرية والفلسفية والفقهية… من مختلف المراحل التاريخية لهذا التراث (صفحة 172). ثم يعقّب بأنه يجب إخضاع هذا التراث لقراءة نقدية، وبأننا لسنا ملزمين بتدريس كل ما يتضمنه، بل نختار جوانبه المشرقة ونهمل غير ذلك (صفحة 173). لكن السؤال هو: ما هو معيار الاختيار بين ما هو مُشرق وما هو مُظلم في هذا التراث؟ ألم يتأسس تنظيم “القاعدة” و”داعش” بناء على ما يعتبره أتباعهما جوانب “مشرقة” من هذا التراث؟ ألا يبرر المتطرفون الإسلامويون ما يدعون إليه من أعمال إرهابية على أنها إحياء لهذه الجوانب “المشرقة” من هذا التراث؟ ألا يعتبرون “الجهاد”، الذي يسوّغون به هذه الأعمال، من المفاهيم “المشرقة” لهذا التراث؟
والخطير في هذا التراث أن الجانب الديني المتخلّف يغلب فيه الجانبَ الإبداعي والفكري المشرق. ولهذا نجد أن تأثير ابن تيمية والبخاري، مثلا، على العقول أقوى من تأثير شعر المعري وفكر ابن رشد ونظرية ابن خلدون حول الاجتماع البشري… فارتباط العربية بالعروبة العرقية وبالمقدّس الديني ينتج عنه تقديسها وتقديس تراثها، والخلط الثلاثي بينها وبين الإسلام والعروبة العرقية. ومن هنا نفهم لماذا بقيت العربية لغة تراثية وعتيقة ومتحفية. لأن إصْر المقدّس يعيقها ولا يسمح لها بأن تتطوّر وتتجدّد، وتكون لغة حية تواكب عصرها. ويكفي التدليل على ذلك بالتذكير أن حجة التعريبيين الأقوى لتبيان أن العربية لغة متفوقة ومتميزة، ليس القول إنها لغة العلم والاقتصاد والتقنية، وإنما تكرار القول إنها لغة القرآن. ولهذا كان من الطبيعي أن التطوّر القليل الذي عرفته العربية، بدءا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان على يد العرب المسيحيين. لماذا؟ لأنهم ينظرون، لكونهم مسيحيين، إلى العربية ويتعاملون معها كلغة عادية وغير مقدّسة. وهذا هو مأزق اللغة العربية: فلكي تكون لغة “حرة” و”خفيفة” و”متحركة”، تواكب بسهولة الجديد والتطوّر، يجب تحريريها من المقدّس الذي يُثقلها ويبقيها لغة جامدة ومُقعدة. لكن تحريرها من المقدّس سيُفقدها ما يعتبره أصحابها سموّا وامتيازا لها عن اللغات الأخرى، واللذيْن تستمدّهما من ارتباطها بالمقدّس الديني، لتصبح لغة بلا قيمة إضافية ولا شرف زائد مقارنة باللغات الأخرى.
ولهذا إذا كان الأستاذ أوريد جرّيئا وثوريا (وموضوع الكتاب هو الثورة الثقافية) عندما يدعو إلى تعليم مدني (يسمّيه هكذا تجنّبا لاستعمال المفهوم المثير للجدل “علماني”) لا مكان فيه للتربية الإسلامية، حيث يقول: «لا نريد للمدرسة العمومية أن تكون مجالا لتوظيف الدين، ولا إطارا لتكوين ديني» (صفحة 100)، «لا أرى في المدرسة التي أصبو إليها، أن يقوم شيء اسمه التربية الإسلامية» (صفحة 104)، إلا أن هذا التعليم يتنافى مع استمرار التدريس بالعربية للمواد الأدبية. لماذا؟ لأن العربية، كما سبق أن شرحنا، لغة لا تنفصل عن الإسلام والمقدّس الديني. إنه لأمر مفارق إذن أن نستعمل العربية، التي تعتبر جزءا من الإسلام، كلغة لتعليم منفصل عن هذا الإسلام. فالشرط الأول لتعليم مدني، أي غير ديني، هو إما استعمال لغة غير دينية، والتي لا يمكن أن تكون إلا غير العربية، كاللغات الأجنبية أو الأمازيغية والدارجة، وإما استعمال هذه العربية نفسها شريطة أن يكون التلميذ غير منتم لأسرة مسلمة، كأن تكون مسيحية مثلا. لأن العربية، بحكم وضعها وتاريخها، لا يمكن فصلها عن الإسلام. ولهذا نجد بعض الأساتذة يحوّلون تدريس مادة العلوم الطبيعية بالعربية إلى مادة في “الإعجاز العلمي للقرآن”. وهو ما لا يفعلونه عندما يدرّسون نفس المادة بلغة أخرى غير العربية. هذا الوضع الخاص للعربية، كلغة لا تنفصل عن الإسلام، هو ما يفسّر أن العلمانية ظهرت عند العرب المسيحيين وليس المسلمين منهم. ونضيف أن المجتمعات الأوروبية، إذا كانت سبّاقة إلى تبنّي العلمانية، فذلك لأنها كانت سبّاقة إلى التخلّي عن لغة الدين ـ اللغة اللاتينية ـ منذ أزيد من خمسة قرون.
الغاية من التعريب هي تعريب الإنسان وليس اللسان:
وبما أن العربية لغة لا يمكن فصلها عن التراث ولا عن الإسلام ولا عن العروبة، لأنها هي التراث والإسلام والعروبة، وأن هذه العناصر الثلاثة هي التي تشكّل روحها، فإن التعريب يتجاوز ما هو لغوي ليصبح، حسب شعار التعريبيين، تعريبا للإنسان والمحيط كغاية، وليس تعريبا للسان، الذي هو مجرد وسيلة. ولهذا إذا كانت سياسة التعريب قد فشلت على مستوى التعليم، فذلك شيء كان منتظرا، لأن غاية هذه السياسة ليست هي نجاح التعريب التعليمي الذي يخص تعريب اللسان، وإنما هي نجاح تعريب الإنسان بجعله إنسانا عربيا حتى لو أنه لا يفقه شيئا في اللغة العربية. وبالنظر إلى هذه الغاية من التعريب، يكون هذا الأخير قد نجح بشكل تجاوز كل التوقعات، إذ أصبح المغاربة أكثر عروبة ودفاعا عن القضايا العربية من العرب الحقيقيين أنفسهم.
وعندما يقول الأستاذ أوريد: «أفنحمل من أجل ذلك (يقصد فشل التعريب) المسؤولية للغة العربية؟ الموضوعية تقتضي أن نميز بين اللغة العربية والطريقة التي مورس بها التعريب» (صفحة 166)، فهو يدرك ويعترف ضمنيا أن التعريب، كما مورس، لا علاقة له باللغة واللسان، لأنه هدفه كان شيئا آخر، هو تعريب الإنسان والمحيط وليس تعريب اللسان، كما أوضحت.
لكن هل يمكن أن تكون هناك طريقة أخرى لممارسة التعريب من غير تعريب الإنسان والمحيط، كما يطالب وينادي بذلك التعريبيون؟ لو كانت العربية لغة عادية يسري عليها ما يسري على اللغات الأخرى، كالفرنسية مثلا، لكان صحيحا أنه يمكن إنجاز التعريب بطريقة أخرى تؤدّي إلى تعريب لغة المدرسة دون أن يمس ذلك الإنسان والمحيط، كما هو حال الفرنسية التي لا تنتج عن دراستها والتدريس بها الفرنسة الهوياتية للإنسان المغربي ولا لمحيطه. وهذا ما لا يمكن أن يتحقق مع العربية التي يستحيل معها، في المغرب، ممارسة التعريب بطريقة أخرى غير التي مورس بها، وذلك لأنها، عكس الفرنسية أو اللغات الأخرى، متداخلة مع التراث والمقدّس الديني والانتماء العروبي. وبالتالي فالتعريب يجعل مستهدَفه بالمغرب منخرطا في هذا المقدّس وهذا التراث وهذا الانتماء على الخصوص، الذي هو الغاية الحقيقية من هذا التعريب. ولهذا فإن القول بأن العربية لا علاقة لها بفشل التعريب، كما يردّد المدافعون عن هذا التعريب، لا يختلف عن القول بأن التراث الإسلامي لا علاقة له بالتطرف الديني والحركات الجهادية، كما يردّد كذلك المدافعون عن هذا التراث.
لغة نصف حية أو نصف ميتة:
بالنظر إلى وضع العربية كلغة لا تنفصل عن التراث والمقدّس الديني والانتماء العروبي، كما أشرت، فإن ما يناسب وضعها هذا هو أن تُدرّس، لمكانتها الدينية والتراثية، كلغة وليس كلغة للتدريس. وحتى المواد غير العلمية، كالفلسفة والتاريخ، ينبغي أن تدرّس بغير العربية وليس فقط العلوم، كما دعا إلى ذلك الأستاذ أوريد. ذلك لأن مشكل العربية ليس فقط أنها ليست بلغة علم، بل مشكلها الأكبر هو أنها فقدت وظيفة الاستعمال في التخاطب اليومي، وأصبحت بذلك لغة كتابية لا تُستخدم في التواصل الشفوي من طرف الذين يتقنونها كتابيا. وبذلك تكون العربية قد فقدت الشرط الأول الذي يجعل لغة ما حية، وهو تداولها كلغة تحاطب في الحياة. فهي تعيش إذن بالكتابة فقط. مما يجعل منها لغة معاقة ونصف حية أو نصف ميتة، اعتبارا أن اللغة تحيا بالتداول الشفوي أصلا وأولا ثم بالاستعمال الكتابي.
والمشكل هو أن لغة معاقة وغير متداولة، كالعربية، تنقل إعاقتها إلى التلميذ عندما تكون هي لغة التكوين الأساسي التي بها يتعلّم آليات التفكير الذي به يكتسب المعارف والمهارات. وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية التي تعيق النظام التعليمي بالمغرب، لأنه يعتمد على لغة معاقة كلغة للتكوين الأساسي للتلميذ. فاستعمال لغة غير متداولة كلغة أساسية للتعليم والتكوين تجعل من تعلّم هذه اللغة غاية هذا التعليم والتكوين، وليس اكتساب المعارف والأفكار والعلوم والمهارات. وهكذا تتحوّل الوسيلة، التي هي اللغة، إلى غاية في ذاتها، فتضيع بذلك الغاية الحقيقية من التعليم، وهي اكتساب المعارف والأفكار والعلوم والمهارات.
هل يشبه وضع العربية وضع “الماندرين”؟
في نقده للداعين إلى اعتماد الدارجة كلغة تدريس باعتبارها لغة حية ومتداولة في التخاطب اليومي، لتكون بديلا عن العربية التي هي لغة غير متداولة في هذا التخاطب، يعطي الأستاذ أوريد مثال لغة “الماندرين” الصينية. يقول: «ويمكن […] أن نستشهد بمثال مضاد هو مثال الصين التي لها لغة موحدة هي الماندران، يفقهها المتعلمون، ولم يحُل جانبها النخبوي من أن ترتقي بالعلوم، وأن تصبح الصين قوة اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية يضرب لها الحساب» (صفحة167).
في الحقيقة، مثال لغة “الماندرين” الصينية يُثبت عكس ما يريد أن يُقنعنا به السيد أوريد، وهو أن لغة نخبوية ومدرسية وغير مستعملة في التخاطب، مثل العربية، يمكن أن تصبح لغة علم واقتصاد وتكنولوجيا مثل لغة “الماندرين” الصينية، كما يعتقد. مع أن وضع لغة “الماندرين” مختلف جذريا عن وضع العربية. ذلك أن هذه اللغة الصينية، إذا كانت قد فُرضت، مثل العربية بالمغرب، كلغة موحّدة على جميع الصينيين، بما فيهم الأغلبية من الذين لم تكن تشكّل “الماندرين” لغتهم الأم التي يتداولونها في التخاطب اليومي، إلا ان هذه اللغة كانت موجودة في الأصل كلغة أم ولغة تخاطب يومي لسكان الشمال وجزء من وسط الصين {Chinoise (civilisation), Encyclopédie Universalis}. ولهذا فإن فرضها، سياسيا وتعليميا، يؤدّي، بعد جيلين أو أكثر، إلى اكتسابها كلغة أم وتخاطب يومي حتى بالمناطق التي كانت في الماضي تستعمل لهجات أخرى كلغات أم وتخاطب يومي، وذلك بحكم أنها لغة حية ومتداولة ومستعملة في التخاطب، يمكن تعلّمها في البيت والشارع والسوق والمعمل… وهذا يصدق على كل اللغات الحية المستعملة في التداول كالإنجليزية والإسبانية اللتيْن أصبحتا لغتي التخاطب اليومي عند ملايين السكان الأصليين (الهنود الحمر) في القارة الأمريكية، رغم أن هؤلاء كانوا، قبل أن تفرض عليهم الإنجليزية والإسبانية، يتخاطبون بلهجاتهم المحلية الأصلية. بل قد نجد بعض الأسر المغربية تستعمل الفرنسية كلغة تخاطب وتداول، مما يجعل أبناءهم يكتسبونها كلغة أم.
أما العربية فليست بلغة تداول وتخاطب يومي في منطقة ما من المغرب ـ ولا في أية منطقة في كل الدنيا ـ، ثم فُرضت لتكون لغة كل المغاربة وفي كل جهات المغرب، على غرار لغة “الماندرين”. وبالتالي فلن تصبح أبدا يوما ما لغة تخاطب في الحياة بالمغرب ولا في أي بلد في العالم، بل تبقى لغة كتابة تُكتسب في المدرسة أو ما يقوم مقامها، ولغة غائبة عن التداول كلغة تخاطب في الحياة. فلا مجال إذن للمقارنة، من هذه الناحية، التي تخص لغة أقلية بمنطقة معيّنة تُفرض على الأغلبية كلغة للجميع، بين لغة “الماندرين” واللغة العربية.
من جهة ثانية، ولو أن هذه المسألة ليست بذات أهمية كبيرة، لا ينبغي أن نتجاهل أن لغة “الماندرين”، إذا لم تكن في الأصل لغة كل مناطق الصين وكل الصينيين، فإنها، مع ذلك هي لغة صينية، نشأت تاريخيا بالصين وتكلّمها صينيون وفي مناطق صينية (الشمال والوسط). وهو ما يسهّل تبنّيها كلغة موحّدة وجامعة ولو أن هذا التبنّي كان في البداية قسريا فُرض فرضا لأسباب سياسية وتعليمية. أما العربية فهي ليست بلغة مغربية ووطنية، إذ لم تنشأ تاريخيا في المغرب ولا تنتمي إلى موطنه، وإنما هي أجنبية جاءته من خارج شمال إفريقيا. فلا مقارنة، هنا أيضا، بين “الماندرين” والعربية مع وجود الفارق بينهما.
العربية واللغة الصينية القديمة:
أما اللغة الصينية التي يمكن مقارنتها بالعربية، للتشابه والتقارب الكبيرين بينهما على مستوى الوظيفة والتداول، فهي ما يُعرف في الصين بـ”لغة الكتابة”، والتي تسمّى هكذا لأنها لغة خاصة بالكتابة ولا تستعمل إلا لهذا الغرض ولا وجود لها كلغة للكلام والتخاطب، والتي احتفظت بهذه الوظيفة الكتابية الحصرية منذ عشرين قرنا دون أن يتغّير وضعها أو وظيفتها المقصورة على الاستعمال الكتابي (Encyclopédie Universalis). وهذه اللغة الصينية لا تختلف كثيرا عن العربية التي تشترك معها في العناصر التالية:
ـ هي لغة خاصة بالكتابة مثل العربية،
ـ يحتاج تعلّمها إلى مدة طويلة مثل العربية،
ـ تشكّل، بسبب ذلك، ومثل العربية، لغة نخبوية لا يستعملها للقراءة والكتابة إلا المتعلّمون فقط، بحكم أنها لغة لا تستعمل في الكلام والتخاطب،
ـ هي لغة عتيقة وتراثية لم تتغيّر منذ عشرين قرنا، مثل العربية التي هي أيضا عتيقة وتراثية ودينية، بقيت هي نفسها منذ خمسة عشر قرنا.
أما الفرق بين هذه اللغة الصينية، العتيقة والتراثية والجامدة والخاصة بالكتابة، واللغة العربية التي تشترك معها في نفس الخصائص، فهو أن الصينيين لم يصبحوا على ما هم عليه من تقدّم وعلم وتكنولوجيا وازدهار اقتصادي بلغتهم تلك، العتيقة والتراثية والجامدة والخاصة بالكتابة، وإنما بلغتهم الجديدة الثانية، “الماندرين”، التي هي في الأصل لهجة مستعملة بشمال الصين وبعض أقاليم الوسط، كما ذكرت. لكن الصينيين سيعمّمونها كلغة موحّدة وجامعة، كما أشرت، لتصبح هي لغة الكتابة والمدرسة والصحافة والعلم والاقتصاد، مع الاحتفاظ في نفس الوقت بوظيفتها الأولى كلغة تخاطب وتداول يومي، عكس اللغة الصينية الأولى التي كانت مقطوعة الصلة بالحياة بحكم أنها لا تستعمل في الكلام ولا في التخاطب والتداول.
فالحالة التي كان يمكن مقارنتها في المغرب بحالة “الماندرين”، ليست إذن حالة اللغة العربية، التي تشبه حالة اللغة الصينية الأولى، العتيقة والتراثية والجامدة والخاصة بالكتابة، ولا علاقة لها بـ”الماندرين”، وإنما هي الحالة التي تُفرض فيها دارجة وجدة أو مراكش أو جبالة، مثلا، على جميع المغاربة، كلغة موحّدة وجامعة تُستعمل في الكتابة والتعليم والمدرسة والإدارة، أو الحالة التي تُفرض فيها، مثلا، أمازيغية سوس أو الريف أو فيكيك أو آبت يزناسن على جميع المغاربة كلغة موحّدة وجامعة تُستعمل في الكتابة والتعليم والمدرسة والإدارة…
هل تستقيم ثورة ثقافية من غير ثورة لغوية؟
كتاب “من أجل ثورة ثقافية بالمغرب” يتناول، كما يدل على ذلك عنوانه، شروط تحقيق ثورة في الثقافة، والتي تعني في الكتاب معناها الضيق المدرسي المعروف، وهو الفكر والمعرفة، كما في قولنا فلان مثقف، أي مفكر ومتعلم. فالثورة الثقافية، حسب مدلولها في الكتاب، هي إذن ثورة في الفكر والمعرفة. ولأن أداة التعبير عن الفكر والمعرفة هي اللغة، فإن ثورة ثقافية ما، أي ثورة في الفكر والمعرفة، لا بد أن تسبقها، كشرط ووسيلة، ثورة في اللغة. ولا يتعلق الأمر فقط بتطوير اللغة القائمة وتحديثها، أو تبسيطها وتيسير استعمالها، كما يدعو إلى ذلك العديد من المهتمين بشؤون التربية والتعليم. فهذه إجراءات تدخل في إطار الإصلاحات ولا علاقة لها بالثورة. وهي الإصلاحات التي ينتقدها الكاتب، حيث يقول عنها: «إن الإصلاحات التي تم اعتمادها لم يكن ليرتقي بتعليمنا، وأفضت إلى تفاقم الوضع، واصطدمت بما يسميه الفيلسوف كاستون باشلار بالعوائق الإبستمولوجية. ولا مندوحة من إجراء قطيعة» (صفحة 223).
تطبيقا للمفهوم الباشلاريين، “العائق الإبستمولوجي”، سنلاحظ أن اللغة العربية تشكّل “عائقا إبستمولوجيا” حقيقيا، لأن استعمالها كلغة أولى وأساسية، حتى وإن لم تكن لغة تدريس العلوم، يعيقنا عن:
ـ الوعي بأن هويتنا الجماعية، نحن المغاربة وسكان شمال إفريقيا عامة، ليست عربية، وذلك بسبب كون اللغة العربية، كما سبقت الإشارة، لغة هوياتية لا تنفصل عن العروبة بمفهومها العرقي والهوياتي، مما يجعل وظيفتها تتجاوز، كما فات شرح ذلك، ما هو لغوي لتصبح انتماء عروبيا،
ـ التفكير بطريقة علمية، ليس فقط لأن العربية لا تُنتج علما كما يقول الأستاذ أوريد، وإنما لأنها لغة دين وتراث، تجعل التفكير، نتيجة العلاقة التلازمية بين اللغة والفكر، ينصبّ على مسائل غيبية وموضوعات “ميتة” تنتمي إلى الماضي،
ـ إدراك أن اللغة العربية عائق وإصْر، بسبب ارتباطها بالمقدّس الديني والاعتقاد أنها لغة اختارها الله ليخاطب بها البشر، مما يجعلها، حسب هذا الاعتقاد، أفضل اللغات وأقدسها وأكملها. مما لا يسمح بالتفكير في تجاوزها وعدم استعمالها الافتراضي كلغة أولى وأساسية.
وهنا تكون “القطيعة”، بالمفهوم الباشلاري كذلك، هي القطع مع اللغة العربية، وذلك بالتخلّي عنها كلغة أولى وأساسية، واستبدالها بلغات أخرى. وهي قطيعة تتجاوز مجرد التراجع عن التعريب لتشمل إعادة النظر، عمليا وجذريا، في الوضع اللغوي في المغرب وتمثّلنا لهذا الوضع. ولهذا لا يكفي التدريس باللغات الأجنبية، بدل العربية، لإحداث مثل هذه القطيعة اللغوية. بل ستكون هناك قطيعة عندما تُهيّأُ الأمازيغية والدارجة لتكونا لغتي الهوية والمعرفة والمدرسة. هذا ما يرفضه الأستاذ أوريد بحجة أنه لا يمكن المطابقة بين اللغة العربية واللغة اللاتينية (صفحة 167)، التي استبدلت، منذ القرن السادس عشر، بلغات قومية جديدة وناشئة.
عن سؤال “ماذا نريد؟”، يجيب الأستاذ أوريد: «نريد أن نكون جزءا من التجربة الكونية ونستوعب ما انتهت إليه. ويقصد بذلك الحضارة الغربية، بعقلانيتها وعلومها وديموقراطيتها وحريتها. ويوضح بأنه «لا يكفي أن نلبس مثلهم (يقصد الغربيين) ونستعمل تقنياتهم.. لا يكفي ذلك، لا بد أن تنطبع أذهاننا بنفس ذهنية الغربيين، لا لأنهم غربيون، ولكن لأنهم من يحمل مشعل الحضارة الكونية» (صفحة 25).
إذا كانت هذه هي الغاية من الثورة الثقافية المنشودة في كتاب الأستاذ أوريد، وهي أن نصل، بعد مدة، إلى ما وصل إليه الغربيون من علم وتقدّم وازدهار وحرية وديموقراطية وعدالة…، فليس هناك من وسيلة للوصول إلى ذلك إلا بإحداث نفس القطيعة التي بها مهّد الغربيون الأوروبيون، منذ القرن الخامس عشر، الطريق للوصول إلى ما وصلوا إليه. وتتمثّل هذه القطيعة في التخلّي عن اللاتينية، كلغة أولى وأساسية، واستعمال بدلها لغاتهم الشعبية والقومية، أو إحدى لهجاتها التي عمّموها كلغة قومية ووطنية، ولغة كتابة وتعليم. فالتحرر من اللاتينية كان تحررا من “عائق إبستمولوجي” كان يحول دون التفكير في الطبيعة وفي الإنسان وفي المجتمع وفي الدين بطريقة أخرى وجديدة. إذا كان الغرب الأوروبي قد عرف، مع بداية عصر النهضة، تحولات عميقة، سياسية وفكرية وعلمية واقتصادية، فذلك بفضل تحرير العقل من إصْر وقيد اللغة اللاتينية، الذي كان يسجنها في دائرة الغيب والتراث والمقدّس الديني. النتيجة أنه إذا كنا نريد أن نكون كالغربيين، كما ينشد ذلك الأستاذ أوريد، فلا مندوحة من أن نحذو حذوهم بخصوص القطيعة مع اللغة العربية، التي يشبه وضعها ووظيفتها وقصورها ما كانت عليه اللغة اللاتينية قبل التخلّي عنها وتبنّي اللهجات الحية المحلية، وجعلها لغات وطنية تستعمل في الكتابة والتعليم والتأليف والإدارة.
أما القول بأنه لا يمكن قياس حالة اللغة العربية على حالة اللغة اللاتينية، فهو مثال حي على ما تشكّله العربية من “عائق إبستملوجي”، عندما يصبح مجرد تصوّر أنه يمكن أن تصير الأمازيغية والدارجة لغتي تعليم وفكر ومعرفة وسلطة وإدارة بالمغرب، موضوعا لا يخطر حتى بالبال لأنه خارج “المفكَّر فيه”. حقيقة إن مجرد التفكير في التخلّي عن العربية هو شيء مرفوض، لأننا نفكّر في ذلك بمنطق اللغة العربية نفسها ومن داخلها، أي نفكّر في ذلك انطلاقا من “العائق الإبستمولوجي” للغة العربية، والذي من وظائفه الحيلولة دون مثل هذا التفكير. وإذا كان صحيحا أن التخلّي عن العربية سيشكّل صدمة، فذلك لأن «القطيعة لن تكون إلا عبارة عن صدمة» (صفحة 299)، كما يعترف بذلك الأستاذ أوريد. ويبدو أنه واع برهان اللغة و”بالعائق الإبستمولوجي” الذي تشكّله العربية. لكنه إذا كان جرّيئا وواضحا عندما دعا إلى تدريس العلوم باللغة الأجنبية واختيار تعليم مدني لا مكان فيه للتربية الإسلامية، فإنه، كما يعنّ ذلك، أمسك العصا من الوسط، متقيّدا بما هو “لائق سياسيا” Le politiquement correct، ولم يذهب بالثورة التي يدعو إليها حتى نهايتها لتكون ثورة على اللغة العربية. وهذا ما جعله يعتبرها جزءا منا، ويدعو إلى رعايتها والعناية بها.
التعليقات مغلقة.