عندما يكون استقلال القضاء خطرا على العدالة!
من المعروف أن الشرط الأول لوجود نظام حكم ديموقراطي حقيقي، هو وجود استقلال حقيقي للقضاء كمكوّن جوهري لهذا النظام الديموقراطي. وليس هذا الاستقلال للقضاء ضمانة للديموقراطية لأنه فقط ضمانة لإقامة العدل في المعاملات والمنازعات بين الأفراد، وصوْن حقوقهم وحمايتهم من الظلم الذي يمكن أن يمارسه بعضهم على بعضهم الآخر. فهذا الهدف، رغم أهميته، هو ثانوي بالنسبة للخطورة الحقيقية لاستقلال القضاء. فهذا الاستقلال هو ضمانة للديموقراطية لأنه يحمي الأفراد ـ ليس من ظلم نظرائهم الأفراد ـ من طغيان وظلم وحش العصر الحديث، القاسي الفظ البارد العديم الرحمة والرأفة، والذي هو الدولة كما يسمّيها ويصفها “نيتشه” Nietzche. ولهذا فاستقلال القضاء لا يعني فقط استقلاله عن تأثير أي شخص أو جماعة أو حزب أو مال أو نفوذ أو مكانة أو قرابة أو نسب…، على أحكامه وقراراته. وإنما يعني، أولا وقبل أي شيء آخر، استقلاله عن تأثير “الوحش”، بما يملكه من سلطة وقوة، ويتوفر عليه من وسائل القهر والإكراه والترهيب والترغيب. ولهذا فالديموقراطية الحقيقية ليست فقط تلك التي يضمن لك قضاؤها أن تستردّ حقوقك من شخص سلبها منك، وإنما، هي أولا وقبل أي شيء آخر، تلك التي يحميك قضاؤها من اعتداءات “الوحش” على حقوقك وحريتك في الحدود التي يُقرّها القانون. وهو ما يعني أنك عندما تشعر أنك ضحية لطغيان “الوحش” تلجأ إلى القضاء وأنت مطمئن أنه سيُنصفك في دعواك ضد هذا “الوحش”.
ولأن استقلال القضاء مرتبط أساسا باستقلاله عن الوحش/الدولة، فإن هذا الاستقلال لا يتحقق دائما بمجرد أن تعلن الدولة أن قضاءها مستقل. فمحكّ هذا الاستقلال ليس هو القضايا العادية التي تكون الدولة طرفا فيها، مثل قضايا نزع الملكية أو القرارات الإدارية الجائرة…، وإنما محكّه هو القضايا التي تدّعي الدولة أنها تمسّ بأمنها الداخلي أو بالمصلحة العليا للوطن، تأويلا منها وفهما خاصا لها لهذا الأمن، الذي قد لا يكون إلا أمن الطبقة النافذة والحاكمة، ولهذه المصلحة التي قد لا تكون إلا مصلحة هذه الطبقة النافذة والحاكمة. ففي محاكمات 1936 بموسكو لمعارضي “ستالين”، والتي تدخل في إطار ما يُعرف بـ”التطهيرات الكبرى” Grandes Purges، حوكم هؤلاء المعارضون بتهمة المس بأمن الدولة، الذي لم يكن يعني إلا المس بديكتاتورية ستالين. والأهم في هذه المحاكمات أن النظام الذي حاكمهم لم يسبق أن أعلن أن قضاءه تابع له وينفّذ تعليماته وتوجيهاته، بل كان يدّعي أن القضاء الذي حاكم هؤلاء “الخونة” قضاء مستقل ونزيه. ففي مثل هذه الحالات، يكون استقلال القضاء خطرا على العدالة. لماذا؟ لأن باسم هذا الاستقلال المزعوم تُسكت وتُعاقب الأنظمة الحاكمة، غير الديموقراطية، الأصواتَ الحرة التي تعارض وتفضح استبدادها وفسادها، وتُزعجها بمطالبها المتكررة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والديموقراطية. فيصبح هذا القضاء “المستقل” أخطر من ممارسات الأجهزة السرّية التي تختطف المعارضين أو تغتالهم أو تحتجزهم في أماكن مجهولة. لماذا هو أخطر؟ لأن هذه الممارسات للأجهزة السرية تجري خارج القانون وخارج القضاء. ولذلك تُعتبر جنايات في قوانين كل الدول والمجتمعات. أما عندما يكون الاختطاف والاحتجاز والاغتيال قرارا قضائيا (الأمر بالاعتقال، الحكم بالحبس والسجن، الحكم بالإعدام…) لخدمة السلطة السياسية وبتوجيه منها، فإن ذلك يأخذ شكل ممارسة قانونية ومشروعة. وهذا ما وجدت فيه الأنظمة الاستبدادية أداة ناجعة وفعّالة لممارسة عنفها على المعارضين المناهضين لاستبدادها وفسادها قصد “تأديبهم” وعقابهم والانتقام منهم. لكن هذا العنف يُمارسه القضاء نيابة عن السلطة السياسية ليبدو كمجرد إعمال للقانون كما يجري العمل بذلك في الدولة ذات الديموقراطية الحقيقية، والتي يتمتّع فيها القضاء باستقلال حقيقي. وقد نبّه “مونتيسكيو” Montesquieu في القرن الثامن عشر أن هذا العنف القضائي، أي العنف الذي تمارسه الدولة باسم القضاء، يمثّل أقصى درجات الديكتاتورية والاستبداد، الذي قال عنه: «ليس هناك استبداد أسوأ من ذلك الذي يُمارس باسم القانون وتحت غطاء العدالة». ولأن القضاء هو الملاذ الأخير للمواطنين، الذي يُفترض أنه يحميهم من افتراس “الوحش” لهم، فلذلك فهو يشكّل، عندما لا يكون مستقلا، فعلا وممارسة، عن تعليمات “الوحش”، حلقة مفرغة تتحرك انطلاقا من الظلم لتعود إلى الظلم. ففي هذه الحالة، يكون اللاجئ إلى القصاء طلبا لوقف شطط الوحش/الدولة في حقه، كمن يلجأ إلى “الوحش” يلتمس إنقاذه من براثن نفس الوحش. وهذا ما يعرفه “الوحش” جيدا. ولهذا فهو يكرّر دائما، على لسان مسؤوليه، أن من يرى أن الدولة ظلمته وغمطت حقه، فما عليه إلا اللجوء إلى القضاء لإنصافه.
وتُعتبر الدولة المغربية، أي الوحش/المخزن بتعبير “نيتشه”، من الدول القلائل التي اعترفت، ولو بشكل ضمني، أن قضاءها لم يكن مستقلا ولا نزيها عندما حكم، في فترة ما يُعرف بسنوات الرصاص، بالسجن على المئات من الأبرياء الذين كانوا ضحايا محاكمات ظالمة وسياسية وانتقامية، لا علاقة لها بتطبيق العدالة ولا بإعمال للقانون. ونعني هنا قصدا المدانين في محاكمات علنية وطبقا للمساطر القضائية الجاري بها العمل، والذين لا علاقة لهم بالمغتالين أو المختطفين مجهولي المصير أو الذين كانوا محتجزين بأماكن اعتقال سرية. وهذا الاعتراف، مع ما يشمله من اعتراف بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، هو الذي كان وراء إنشاء “هيئة الإنصاف والمصالحة” في يناير 2004، والتي كان من بين مهامّها منح تعويضات مالية لضحايا سنوات الرصاص، وضمنهم طبعا الأبرياء ضحايا قضاء ظالم أدانهم باعتبارهم جناة ومجرمين. والذي يهمنا في هذا التذكير باعتراف الدولة المخزنية، أي الوحش/المخزن، بأن قضاءها ذلك لم يكن عادلا ولا مستقلا، هو أنه في تلك الفترة التي كانت تصدر فيها تلك الأحكام الظالمة، كان مسؤولو الدولة المخزنية يعلنون جهارا، ردا على من يشكك في موضوعية تلك الأحكام ملمّحا أنها تطبيق للتعليمات وليست تطبيقا للقانون، أن القضاء مستقل ولا يخضع في أحكامه لأية جهة من غير جهة العدل والقانون. أما من كان سيجاهر أن القضاء غير مستقل وغير نزيه ولا موضوعي، فيُتهم بالقذف في المجالس القضائية والمحاكم. وهكذا كان هذا القضاء “المستقل” مشارِكا في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي عرفها المغرب في تلك الفترة، سواء بالفعل، من خلال ما كان يصدره من أحكام ظالمة كما اعترفت بذلك الدولة نفسها في ما بعد، أو بعدم الفعل عندما لم يتدخّل، كما تقتضي وظيفته ويُلزمه بذلك القانون، للتحقيق في قضية المختطفين والمختفين والموقوفين خارج أي قانون أو أمر قضائي، والمعتقلات السرية، وحالات التعرض للضرب والتعذيب…
من يضمن اليوم أن ما يجري من اعتقالات ومحاكمات لحراكيي الريف لن يكون نسخة مكرّرة لاعتقالات ومحاكمات ضحايا قضاء سنوات الرصاص الذي اعترفت الدولة ضمنيا، من خلال إنشائها لهيئة “الإنصاف والمصالحة”، أنه كان ذراعها القانوني للقمع والبطش والظلم؟ لماذا هذا التخوّف من تكرار نفس الممارسات في ظل قضاء يقال إنه مستقل؟ لأن ذلك القضاء، الذي شارك في قمع المعارضين بالزج بهم في غياهب السجون بتهم ملفقة وأحكام ظالمة، مع سكوته عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي كان يتفرج على ارتكابها دون أن يحرّك ساكنا، فعل كل ذلك رغم توفّر كل الضمانات الدستورية، أولا، لاستقلاله إذ نصت جميع الدساتير (دساتير 1962، 1970، 1992) لما قبل دستور 2011 على أن «القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية»، وثانيا، لمنع أية ممارسة تمسّ بحرية المواطنين خارج القانون إذ تنصّ نفس هذه الدساتير على أنه «لا يلقي القبض على أحد ولا يحبس ولا يعاقب إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون». ولا يختلف دستور 2011، بخصوص هذه الضمانات، عن الدساتير السابقة إلا في استعمال ألفاظ أخرى دون أن يمسّ ذلك بمعنى وجوهر هذه الضمانات. فهو يكرّر في الفصل 107 ما جاء في هذه الدساتير حيث ينصّ أن «السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية» (استعمل عبارة “السلطة القضائية” بدل الاكتفاء بلفظ “القضاء” كما في الدساتير السابقة). ويكرّر كذلك في الفصل 23، ولو بألفاظ مختلفة، ما جاء في تلك الدساتير حيث ينصّ على أنه «لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون». وهذه المقارنة بين دستور 2011 والدساتير السابقة، في ما يتعلق باستقلال القضاء وحماية المواطنين من أية ممارسة مخالفة للقانون، تطرح علينا السؤال التالي: إذا كان القضاء لم يلتزم بتلك المبادئ التي أكدتها ونصّت عليها الدساتير السابقة، فما الذي سيضمن أنه سيلتزم بها تطبيقا لدستور 2011 الذي أكدها ونصّ عليها كما فعلت تلك الدساتير نفسها؟ لأن إذا كان القضاء قد تجاهل تلك القواعد الدستورية، فكيف سنلومه إذا ما تجاهل القواعد القانونية الأدنى مرتبة من الدستور مثل قواعد المسطرة الجنائية، مثلا، التي تمنع أي مس بحرية الأشخاص خارج القانون؟
نطرح هذه الأسئلة لأن الاعتقالات العشوائية، وبدوافع تأديبية وانتقامية، لمن اعتُبروا مشاركين في حراك الريف، وما تصبّ فيه من محاكمات بخلفيات سياسية تستند إلى محاضر مفبركة وبتهم سريالية، تقدّم الدليل القوي على أن تاريخ انتهاكات حقوق الإنسان واستعمال السلطة لسلطة القضاء للبطش بمن تعتبرهم معارضيها وخصوما لها، يعيد نفسه بشكل علني لا يخفى على أحد. ويكفي الاستشهاد على ذلك بأن مزاعم تعرّض المعتقلين للتعذيب لم يُفتح فيها تحقيق جدّي يُفضي إلى النتائج التي يرتّبها القانون مثل إبطال محاضر البحث التمهيدي، وبأن الذين صوّروا الصنديد الزفزافي ـ عقدة المخزن وغصته ـ شبه عارٍ ونشروا ذلك على شبكة الأنترنيت لم يُتخذ في حقهم أي إجراء، وبأن التحقيق في مقتل الشهيد عماد العتابي ذهب بالفعل «إلى أبعد مدى»، حسب العبارة التي استعملها بلاغ الوكيل العام للحسيمة، إلى درجة أنه اختفى ولم يرجع لطول البعد والمسافة عن الحقيقة. أما استقلال القضاء، فكما استعمل في السابق لتبرير انتهاكات حقوق الإنسان بمواجهة من يدعي تلك الانتهاكات بحقه في اللجوء إلى القضاء لإنصافه، فهو قد يُستعمل مجدّدا لمعاقبة الخارجين عن محجّة المخزن، أي المطالبين بالحرية والكرامة العدالة الاجتماعية. وهنا يكون استقلال القضاء ـ كما سبقت الإشارة ـ شعارا تستعمله الدولة لإضفاء طابع قانوني على عنفها بجعله عنفا قضائيا ومشروعا. وهذه هي خطورة رفع شعار استقلال القضاء عندما لا يكون مستقلا فعلا وحقيقة عن سياسة الدولة واختياراتها ووساوسها الأمنية.
ثم هل القضاء بالمغرب مستقل قانونا حتى نقول إنه مستقل فعلا وممارسة؟ ففي مقال له بعنوان “في أن السّلطة القضائية بالمغرب غير مُستقلّة”، منشور بـ”هسبريس” في مارس 2015، بيّن الأستاذ عبد الرحيم العلام أن الدستور يقول إن «السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية»، ولكن لا يقول إنها مستقلة عن سلطة المؤسسة الملكية. وإذا عرفنا أن الملكية بالمغرب هي ذات وظيفة تنفيذية وليست سيادية فقط، فيصحّ التساؤل عن مدى استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، وخصوصا أن الدستور يقول في الفصل 115: « يرأس الملك المجلس الأعلى للسلطة القضائية». في الحقيقة هذا النقاش، رغم أهميته النظرية، فهو غير مفيد للجزم في ما إذا كان القضاء المغربي مستقلا عن السلطة السياسية أم لا. لماذا؟ لأن المشكلة ليست في غياب النصوص الدستورية والقانونية، بل في مدى تطبيق الموجود منها. وقد رأينا كيف ارتُكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في عهد الراحل الحسن الثاني رغم الترسانة القانونية التي كانت تحمي هذه الحقوق وتمنع هذه الانتهاكات وتعاقب مرتكبيها. ولهذا إذا كانت النيابة العامة بالمغرب لم تعد تابعة لوزارة العدل، في حين لا تزال تابعة لها بفرنسا، فلا يعني ذلك أن القضاء بهذا البلد أقل استقلالا وعدلا من نظيره بالمغرب، أو أن القضاء المغربي أكثر استقلالا وعدلا من القضاء الفرنسي. فالممارسة هي مِحكّ استقلال القضاء عن الوحش/الدولة، وليس دائما النصوص القانونية المؤسسة لهذا الاستقلال.
الخلاصة أن استقلال القضاء، وما يعنيه من توفر شروط أكثر للعدل، هو مثل الانتخابات التي تمارسها تقريبا كل الدول، ديموقراطية كانت أو غير ديموقراطية: لكن عندما تجري هذه الانتخابات في دولة ديموقراطية فهي تقوّي هذه الديموقراطية وترسّخها. أما عندما تجري في دولة استبدادية فهي تقوّي استبدادها وتكرّسه بما تضفيه من شرعية زائفة على ذلك الاستبداد. والقضاء المستقل، عندما يُنصّ عليه في قوانين دولة ديموقراطية، يكون ذلك ضمانة للعدل وصونا للحقوق وحماية للحريات من انتهاكها من طرف الوحش/الدولة. أما عندما تنص عليه قوانين دولة غير ديموقراطية، فيكون ذلك من أجل انتهاك “الوحش” لهذه الحقوق والحريات باسم القضاء، حتى يظهر ذلك الانتهاك كممارسة قانونية مشروعة لأنها صادرة عن جهة مستقلة ومحايدة وهي القضاء “المستقل”. ولهذا فليس هناك قضاء مستقل عن السلطة الحقيقية للدولة إلا إذا كانت هذه الأخيرة هي التي تريد ذلك الاستقلال وتعمل من أجل تحقيقه. أما إذا لم ترد ذلك فلن يكون هناك قضاء مستقل عنها رغم عشرات النصوص الدستورية والقانونية التي تؤكد عليه. فاستقلال القضاء هو سيف ذو حدّين: يقطع الظلم ويحدّ من بطش الوحش/الدولة إذا كانت هذه الدولة ديموقراطية، أو يقطع العدل و”يغوّل” الوحش/الدولة إذا كانت هذه الأخيرة استبدادية.
التعليقات مغلقة.