حراك الريف وانهيار الثقة في المؤسسات
عبد الله حتوس//
تعتبر الثقة في المؤسسات، شرطا أساسيا للإستقرار وضمانا لمتانة النسيج الإجتماعي ومحفزا كبيرا للنشاط الإقتصادي، وأساسا لجودة حياة المواطنين وعاملا مهما لإنتاج الرفاه وحسن توزيعه. فالثقة في المؤسسات ( النظام السياسي، المؤسسات التمثيلية، الشرطة، الجيش، الأحزاب…) تزداد كلما تقلصت الهوة بينها وبين المواطن، وكلما تملكها المواطنون بالشكل الذي يجعل منها ومنهم وحدة متكاملة.
فحينما يكون رصيد ثقة المواطنين في المؤسسات وفي القواعد الإجتماعية والقوانين عاليا، تزداد مناعة المجتمع وتتحسن جودة العيش المشترك، وحينما تهتز تلك الثقة ويضعف رصيدها يتحول ولاء المواطن للمؤسسات إلى نقمة وتمرد عليها. لذلك نجد بأن الأزمات الكبرى بما فيها الأزمات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية غالبا ما تجد تفسيرها في فقدان الثقة في المؤسسات.
في الديمقراطيات الغربية، يعم القلق الأوساط السياسية وتضطرب أسواق الأسهم بمجرد صدور استطلاع للرأي يفيد تقلص منسوب الثقة في الحكومة كمؤسسة محورية، بل ينقلب المشهد السياسي رأسا على عقب وترتبك بورصة الأعمال بمجرد تسريب الصحافة لمعطيات تفيد كذب مسؤول حكومي على المواطنين أوخيانة أمانتهم، ولنا في ما يقع في أمريكا وفرنسا خير مثال.
أما في المغرب فيصر عقل السلطة على هدر القليل المتوفر من رصيد الثقة في مؤسسات الدولة، بل يحاول تعويض الثقة بالولاء القسري أو المدفوع الثمن. ونعني بالولاء القسري تخويف المواطنين من الفتنة والفوضى كلما تعالت أصوات المنادين بالحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية، وتأليب المواطنين على بعضهم البعض حتى يضطر الجميع للإحتماء بالمؤسسات ليس بسبب جودة خدماتها وفعاليتها، بل بسبب ما يمكن أن توفره من حماية للممتلكات والأرواح في مناخ مليء بالأحقاد والعلاقات المتوترة. أما الولاء المدفوع الثمن، فنعني به ذاك الذي يكون ثمنه الريع والإمتيازات المقدمة “لخدام الدولة”، يضاف إليه الفتات الذي يصل بعض الفئات الأخرى التي تخرج تحت الطلب في استعراضات “الوطنية المؤدى عنها” سواء للإعتداء على المناهضين للفساد التواقين لمغرب أفضل، أو لتلطيخ سمعة الوطن كما جرى في مسيرة ولد زروال بالدارالبيضاء يوم 18 شتنبر 2016 .
ويعتبر تدبير نظامنا السياسي لأزمة الإحتجاجات بالريف، التي دخلت شهرها التاسع، نموذجا للعبث بثقة المواطنين في المؤسسات. فالحكومة تركت الأوضاع تتأزم منذ طحن المواطن محسن فكري يوم 28 أكتوبر 2016 ، قبل أن تحاول خداع الشعب المغربي بتصريحات زعماء الأغلبية يوم 11 ماي الماضي حول النزعة الانفصالية بالريف.
لقد كان الهدف من حكاية الإنفصال، حسم الملف أمنيا وبالقوة لما يشكله من تهديد للوحدة الوطنية حسب رواية الحكومة. لكنها فشلت في ذلك لأسباب ثلاث؛ أولها، قوة رد الحراك يوم 18 ماي وحجم التفاف جماهير الريف حول قيادته في شكل احتجاجي سلمي راقي سيحتفظ به التاريخ؛ ثانيها، يقظة الآلاف من المتعاطفين مع الحراك عبر ربوع الوطن؛ ثالثها، إدراك الحكومة لاستحالة خداع كل الناس كل الوقت في زمن الشبكات الإجتماعية والإعلام الجديد.
تراجعت الحكومة مجبرة عن اتهاماتها للحراك بالإنفصال وخدمة أجندات خارجية، لتعلن بذلك انهيار الثقة بينها وبين المواطنين. ولم يتوقف الأمر عند إعلان إنهيارالثقة، بل أصرت الحكومة على تخريب ما تبقى منها، من خلال اتخاذها للكثير من الإجراءات نذكر من بينها :
أولا : بعد تراجع الحكومة مجبرة عن اتهاماتها لحراك الريف، كان المغاربة جميعا ينتظرون منها تغيير المقاربة المعتمدة في تدبيرها للأزمة، غير أن العكس تماما حصل، فقد أحكمت القبضة الأمنية على مدينة الحسيمة وحل فريق من الوزراء بالمدينة يوم 22 ماي، ليس من أجل الجلوس إلى مائدة الحوار والتفاوض مع قيادة الإحتجاج، بل لعقد اجتماعات شبيهة بجلسات العلاقات العامة مع “فاعلين” تنقصهم ثقة وتفاعل آلاف المحتجين معهم، فهم كانوا يمثلون أنفسهم ولا يمثلون الحراك، والحكومة كانت تدرك ذلك. وكأن الأمر مبرمج سلفا، أعلنت الحكومة على لسان وزير الداخلية، بعد جلسات العلاقات العامة تلك، بأن الدولة لا تبتز (بضم التاء)، لتغلق باب الحوار الذي لم يفتح أصلا وفق القواعد المتعارف عليها في عمليات التفاوض من أجل فض النزاعات. بوفاة الثقة في مؤسسة الحكومة، أدرك المحتجون وقيادتهم بأن لا شيء يمكن انتظاره منها، ليعلنوا بأنهم يتوجهون مباشرة بملفهم المطلبي إلى رئيس الدولة.
ثانيا : نقلت الحكومة معركتها من ساحات الإحتجاج إلى منابر المساجد، ففي يوم الجمعة 26 ماي، حاولت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية توظيف المنابر وقدسية المساجد لتحقيق اختراق في ملف سياسي نسبي حله بيد السياسي وليس في خطبة الفقيه. فشل الإختراق السياسي، لكن الحكومة نجحت في تحقيق اختراق أمني، بعد رد فعل “ناصر الزفزافي”، قائد الحراك، داخل المسجد وتوقيف صلاة الجمعة.
لقد وظفت واقعة المسجد من طرف الأجهزة الأمنية لشن سلسلة اعتقالات في حق نشطاء الريف، كان من أبرز حلقاتها اعتقال قائد الحراك يوم الإثنين 29 ماي وما واكبه من تسريب هوليودي لعملية الإعتقال، اعتبره الحقوقيون عملية ترهيب، لم ترهب جماهير الحراك، لكنها أتت على يابس وأخضر التجربة المغربية للإنصاف والمصالحة والعدالة الإنتقالية.
بعد حادث خطبة الهجوم على الحراك من فوق منبر المسجد والإعتقال الهوليودي لناصر الزفزافي، تعرضت ثقة الناس في حرمة المساجد لهزة كبيرة جسدتها الدعوة لمقاطعتها، كما تحول الزفزافي من مجرد عضو بارز في قيادة حراك الريف، يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا أخرى، إلى فكرة للنضال ضد المخزن والفساد والإستبداد، فكرة تجاوزت حدود الريف ليعانقها آلاف المغاربة الذين يرددون في كل مظاهرة احتجاج “كلنا الزفزافي”.
ثالثا : حولت الحكومة مؤسسة الإعلام الرسمي إلى إعلام يضاهي إعلام الدول الفاشية، كما أشار إلى ذلك البرلماني اليساري عمر بلفريج في سؤال موجه إلى وزير الثقافة والإتصال. فلإقناع المغاربة بجدوى المقاربة الأمنية وبمشروعية الإعتقالات، وسعيا من الحكومة إلى تخويف الناس من التفكير في كل ما من شأنه إزعاج الفساد والإستبداد، قدم الإعلام العمومي صورا قديمة لأحداث شغب بين جمهور فريقين رياضيين على أنها صور حديثة توثق لشغب وفوضى من فعل جماهير حراك الريف. لقد كان من نتائج هذا التضليل والخداع الإعلاميين، استنفاذ كل رصيد ثقة المغاربة في الإعلام الرسمي لبلادهم، وانصرافهم إلى أرض الله الإعلامية الواسعة والبث الحر المباشر للأحداث باستعمال التقنيات الحديثة والشبكات الإجتماعية للتواصل.
رابعا : منذ بداية الإعتقالات إلى اليوم، وصل عدد المعتقلين من نشطاء الحراك الريفي إلى 71 معتقلا، ورغم ذلك يصر وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان على الامتناع عن الكلام بدعوى عدم توفره على المعطيات!. كما تعرضت الحكومة لانتقادات المنظمات الحقوقية التي اعتبرت موجة الإعتقالات منافية للقانون وتعسفية، وخرق سافر للدستور ولالتزامات الدولة المغربية في مجال حقوق الإنسان. لقد كشفت المقاربات والتدابير المعتمدة في مواجهة حراك الريف، بأن السلط في المغرب امتداد لبعضها البعض، ولا تحد الواحدة الأخرى ضمانا للواجبات وصونا للحقوق. فما يحدث في الريف من انتهاك للدستور والقانون ومن اغتيال لثقة المواطنين في المؤسسات، علامة من علامات الطغيان الذي قال عنه جون لوك، بأنه يبدأ عندما تنتهي سلطة القانون، أي عند انتهاك القانون وإلحاق الأذى بالآخرين.
ختاما نقول، بأنه وقبل حراك الريف، لم تكن ثقة المغاربة في مؤسسات بلادهم على ما يرام، ويكفي الرجوع إلى التقارير الرسمية والدولية للوقوف على ذلك. لكن كل ما يحدث بالبلاد منذ شهر أكتوبر 2016 إلى اليوم، أجهز بالكامل على ثقة قسم كبير من المواطنين في مؤسسات بلادهم. أصوات المحتجين تنادي بالتغيير، والكثير من النخب تطالب بعقد اجتماعي حقيقي يؤسس لدولة الحق والقانون…وفي انتظار جواب من يهمه الأمر، يتضرع المغاربة إلى العلي القدير أن يحفظ بلادهم من كل مكروه.
التعليقات مغلقة.