//عبدالله بوشطارت
نُشِر مقالٌ في المجلة العلمية “هيسبريس تامودا”، موسومٌ بعنوان ” البْلدِي – الرُّومِي: مفهومٌ مغربي للإنتاج المحلي: نموذج آيت باعمران في منطقة افني”. وهو مقال كتب باللغة الفرنسية عدد XLV- مجلد فريد 2010، من الصفحة 167 إلى الصفحة 175. من منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، جامعة محمد الخامس- أكدال. كتبه الباحث الفرنسي “رومان سيمنيل” Romain Simenel وهو اثنولوجي مهتم بالبحث الميداني في جنوب المغرب وخاصة منطقة آيت باعمران، نشر عدة مقالات في مجلات علمية مختلفة حول قضايا متعددة لها ارتباط بمنطقة افني. ونظرا للأهمية العلمية والانثروبولوجية لهذا المقال الرصين، ارتأيت تقديم قراءة موجزة بشأنه من أجل تعميم الفائدة أولاً، وتنبيه الباحثين إلى كتابات هذا الباحث الفرنسي المجد الذي قدم الكثير للبحث الميداني في منطقة ايت باعمران.
يضم المقال خمسة عناوين فرعية إضافة إلى مقدمة مركزة: وجاءت العناوين كالتالي:
- من تملك الأرض إلى إنتاج موارد فلاحية: والمرجعية الغربية؛
- بلدي- رومي : المنتجات المحلية في مرآة الغرب؛
- الثقافة الشمولية كبديل سيئ للثقافة المحلية الزراعية؛
- البلدي هو الآخر جاء من بعيد؛
- البلدي كوسط بين الثقافة المسيحية وثقافة “الجنون”؛
هكذا؛ وينطلق المقال من سؤال جوهري هو، كيف يمكن مقاربة أصالة الإنتاج الغذائي الناتج عن استغلال الأرض مقارنة بإنتاج الفلاحة العصرية المصنعة في مجتمعات إسلامية بالمجتمع القروي المغربي؟ ويطرح الباحث هذا السؤال في وقت كثر فيه الحديث عن مفهوم الرستاق كأداة للتنمية المستدامة. المقال؛ يكشف بصورة واضحة ثنائية بلدي- رومي باعتبارها تصنيفا قائما على أساس وجود إنتاج محلي صرف تدل عليه كلمة بْلْدِي- أَبْلْدِي، أي نسبة إلى البلاد، يقابله إنتاج يأتي من الغرب وتدل عنه كلمة الرُّومِي- أَرُومِي أي النصراني- المسيحي.
في أول الأمر يرى “رومان سيمنيل” أن هذه الثنائية أبلدي – أرومي كانت محصورة في البداية فقط في الخضر والفواكه كالطماطم والفلفل واللفت والجزر، ماطشيا تابلديت وماطيشا تاروميت، خيزو أبلدي- خيزو أرومي؛ تفلفلت تابلديت تيفلفلت تاروميت…
وكانت هذه المنتوجات المحلية- تابلديت، تزرع كلها في الحقول الصغيرة المجاورة للدواوير. أما تلك التي يطلق عليها “تاروميت” فكانت تباع في بعض الأسواق خاصة في تيزنيت. وبعد ذلك يرصد الباحث انتقال هذه الثنائية من عالم الخضر والفواكه إلى عالم الدواجن والألبان فأصبح الناس يصنفون الدجاج والبيض والحليب والزبدة والزيت وغيرها، مثلا؛ أفلوس أبلدي- افلوس أرومي، تيكلاي تبلداي – تيكلاي تيروميين، توديت تابلديت توديت تاروميت، الزيت تابلديت – الزيت تاروميت….
في مناطق ايت باعمران، يرى الباحث الفرنسي، أن مفهوم -الرومي- يدل على استعمال الآلات الحديثة والمواد الكيماوية في إنتاج هذه المواد المصنعة التي تباع في الأسواق والمحلات التجارية، وتشكل بديلا للمنتوجات المحلية-الزراعية التي تنتج داخل المنازل وبقرب منها في الحقول. فهذه الثنائية تطلق على نفس المنتوج- المادة- لكنه مختلف في طريقة الإنتاج والمنبث وكذلك في التسويق. ومن خلال التسمية والمفهوم – الرومي- فهذه المواد المصنعة البديلة لها ارتباط وثيق بالاستعمار، ولكن بالرغم من ذلك، تصبح بعض المنتوجات رومية غربية – مسيحية- بالرغم من صنعها وإنتاجها داخل المغرب.
تطور استعمال هذه المواد المصنعة- الرومية- واكتساحها للأسواق، نتج عنه تمثلات وتصورات ذهنية لصيقة بالثقافة اليومية. حيث الناس في ايت باعمران يرون أن المنتوج الرومي برمته، يعتبر اقل جودة من البلدي، ويفتقد للذوق، وأعطى الباحث عدة أمثلة عن الفلفل البلدي الذي يفضله الناس بالرغم من صغر حجمه حيث يعطي نكهة خاصة في الكسكس بذل الفلفل الرومي. ونفس الشي بالنسبة للدجاج الرومي والبلدي، فالجميع متفق على أن الدجاج البلدي أفضل بكثير من الرومي. والسر في ذلك راجع بالأساس إلى منظومة الإنتاج وطريقته، واستعمال الأسمدة الكيماوية والأدوية في إنتاج الخضر والفواكه وتغذية خاصة بالنسبة للدواجن وتسمينها واستعمال الآلات والمعدات العصرية لتحضير الزيوت وغيرها… وحتى زيت أركان الذي يتم إنتاجه في التعاونيات المستحدثة يصنف ضمن ما هو رومي يختلف عن أركان البلدي الذي يتم تحضيره وإنتاجه بطرق تقليدية صرفة داخل البيوت.
هكذا، واستخلص “رومان سينميل” من بحثه الميداني أن استهلاك هذه المواد الرومية يتسبب في أضرار كثيرة لجسم الإنسان وتجعله عرضة لعدة أمراض نتيجة توفرها على بعض المواد “السامة”،(السم) عكس المنتوجات “البلدية” التي تساعد على رشاقة الجسم وصحته، وعادة ما يفسر الناس بعض الأمراض بانتشار واستهلاك هذه المواد، كتساقط الشعر وضعف البصر والشيخوخة المبكرة… واستنتج كذلك من خلال مقابلاته مع السكان، أن كل المنتوجات التي يطلق عليها “الرومية” ليست ابتكارا أو مواد جديدة، وإنما هي فقط استنساخ سيئ ورديء لكل ما هو بلدي، تم إعادة إنتاجه بطرق حديثة. ويرى عموم الناس أن هذه المنظومة الجديدة أصبحت هي المستحوذة والمحتكرة للثقافة الغذائية للمجتمع، وأمست بديلة للمنظومة المحلية الأصلية التي لها فوائد كثيرة للصحة الإنسان، كما تحافظ كذلك على التوازن الايكولوجي.
ويذهب صاحب المقال بعيدا في تحليله لهذه الثنائية، ويستخلص أن المنتوجات “الرومية” لا تفسد الأجسام فقط وإنما تفسد كذاك الروابط الاجتماعية بين الناس، وتقتل فيهم قيم الهوية والارتباط بالأرض والموطن الأصلي. في إشارة إلى الأطفال الذين يتم إرضاعهم بغير حليب الأم الطبيعي، واستهلاكهم للمواد الغذائية المصنعة- الرومية، وبالتالي يكبر الطفل بدون أي ارتباط بالعائلة ولا بالمحيط البيئي.
هذه قراءة تركيبية لما جاء في المقال، المشار إلى مصدره أعلاه، تم اختياره لأنه يرصد ملامح التحول في مجتمعنا الذي دخل عوالم الحداثة المعطوبة. وأصبح تائها في ظلماتها، فاقدا للبوصلة. وهو تحول نحاول اليوم بقدر الإمكان استبيان بعض من مخاطره، في الثقافة، والهوية، والدين-التدين، والسلوك…
تعجبني كتابات “رومان سيمنيل” وآخرون الذين ينتقلون من البحث الميداني، أي المحلي، ومن المجتمع السفلي، لتفكيك منظومات عالمية- معولمة، شمولية كاسحة وهدامة.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.