المغاربة بين هاجس الخوف وضبابية الغد

حسن أوريد//

ما ميّز خطابات النخبة المغربية من مختلف المشارب، هو هاجس الخوف من المستقبل، وهو الأمر الذي استفحل مع ما سمي «حراك الريف»، ولذلك تركزت الأنظار بشكل غير مسبوق على خطاب الجلوس الذي دأب الملك محمد السادس على إلقائه بمناسبة توليه العرش.
في الدول المتقدمة، يؤثّر العامل الاقتصادي على مفاصل الحياة العامة، أما في الدول التي هي في طور النمو، فالعامل السياسي يظل هو المؤثر. ويمكن أن نلحظ كيف أن المشهد السياسي تغير، منذ أن أعلن المرحوم الملك الحسن الثاني عن خطر السكتة القلبية سنة 1995، والأمل الذي تمخض عن حكومة التناوب. تغير المشهد السياسي إثرها وانعكس ذلك إيجابيا على الوضع الاقتصادي، وشاع الأمل بعد أن كان الخوف جاثما على القلوب، واستوى مع ما سمي بالعهد الجديد، الذي اقترن بتولي الملك محمد السادس مقاليد الحكم.
يعيش المغرب لحظة مفصلية تتقاطع مع الفترة الممتدة من 1999 إلى الآن. برزت معطيات جديدة، منها تلك المرتبطة ببنية المجتمع المغربي، وأخرى بالثقافة السياسية السارية، وفشل الخيارات الليبرالية الجديدة، وبمعطى دولي وإقليمي جديد. وهو ما يفترض رُؤى جديدة ومقاربات مغايرة غير تلك التي سادت.
بناء الجديد يفترض تمحيص القائم، ويمكن إجمال الأدواء التي يعيشها الجسم السياسي في المغرب في سوء الحكامة ويتبدى ذلك بشكل جلي في ثقل الإدارة وبيروقراطيتها وانسلاخها عن الواقع. مثلما يشكو المغرب من طبقة سياسية متمرسة على توسل صوت الناخب، ولعبة التحالفات بلا منطق سياسي، وهي طبقة غير قادرة على تقديم رؤى، ولا هي تتمتع بالشجاعة، وهو الأمر الذي برز جليا مع حراك الريف.
نجاعة العلاج تعتمد على حُسن التشخيص.. الإنجازات الكبرى التي تحققت على مستوى البنيات الأساسية لم يوازها الارتقاء بأوضاع المواطنين. لقد خلّفت وفاة الطفلة إيديا الأمازيغية، جراء انعدام التجهيزات الضرورية بمستشفى عمومي، صدمة وجرحا غائرين في نفوس الفاعلين والناشطين، وعرّت واقعا غير واقع المهرجانات والملتقيات الدولية الكبرى التي كان المغرب محجا لها. توزيع الثروة يظل مشكلا بنيويا استفحل مع الأزمة الاقتصادية، وفشل المقاربات النيوليبرالية، ما تمثل في إفلاس شركات أجنبية أو فشل عمليات خصخصة. ومشكل توزيع الثروة لا يُحل بنوايا أخلاقية ولا بمبادرات إحسانية، ولكن بميكانيزمات. لم تختلف المقاربة التي انتهجها المغرب عن تلك التي أرستها منظومة «بروتسن وودس»، وهي أولا تلك المعروفة بالانسياب، أو التداعيات، أي أن خلق الثروة ينعكس إيجابا على كافة الشرائح، والثانية المتن الداعي لمحاربة الفقر عن طريق برامج للتنمية البشرية. لم يعد أحد يتورع منذ أزمة 2008 عن اعتبار نظرية الانسياب عبارة عن أمنيات وليست نظرية صائبة، وتبدت اختلالات التنمية البشرية في برامج هي عبارة عن مراهم أكثر منها علاجا.. وسواء بالنسبة لما كان يسمى بتوافق واشنطن، الداعي للتحرير الاقتصادي أو التنمية البشرية، فإن الأدوات التفعيلية هم تكنوقراط يعرفون ما يجري في العواصم الغربية، أكثر مما يعرفون واقع بلادهم، واعتبروا أنه بوصفات وتقنيات ومبادرات يمكنهم أن يضعوا الاقتصاد على السكة الصحيحة، ويعالجوا اختلالات المجتمع.
مفتاح التربية أن تَعرف المتعلم أكثر من مادة التعليم، أو كما يقول الأمريكيون، «إن أردت أن تُعلم اللاتينية لدجون فليس ضروريا أن تعرف اللاتينية ولكن يتعين أن تعرف دجون». ولم يكن كثير من تكنوقراطيينا يجهلون الواقع فقط، بل يتبجحون بذلك. ومما أذكر بأسى أني صحبت وزير داخلية سابق لمنطقة أمازيغية معزولة بأنفكو، وأنا إذاك أشغل منصب والٍ، وأسررت لواحد من مساعدي الوزير أن يكلم هذا الأخير الساكنة بالدارجة، وأتكفل بالترجمة إلى الأمازيغية. وأبى الوزير إلا أن يقرأ خطابا باللغة العربية لم يفهمه أحد، ولا أحسن تلاوته، لأنه يجهل اللغة العربية أصلا، لأن المهم بالنسبة للوزير ليس ما قد يقوله للساكنة أو تقوله له، ولكن ما تحمله عنه تقارير الأجهزة، مما قد يتلوه من خطاب كتبه بيروقراطيون حذرون، ما يجعله في منأى من أي «خطأ» أو زيغ أو سوء تأويل يكلفه منصبه، بل مساره. نهض خلال ذلك اللقاء مواطن محدثا بالأمازيغية الوفد الرسمي قائلا: «أود أن أعرف هل تفهمون عنا». ومثله وفد رسمي لم يشارك المصلين صلاتهم يوم الجمعة بمدينة لعيون، وهي منطقة لها خصوصية ثقافية وسياسية، ولم ينسحب الوفد، واكتفى بالنظر إلى المصلين إلى أن فرغوا من الصلاة. ومسألة الصلاة هنا تنصرف إلى مرجعية قيمية وتحيل إلى رابط البيعة.
وكرديف للتكنوقراط، وجدت المقاربة الأمنية مسوغها مع سياق 11 سبتمبر وخطر الإرهاب. ولم تتورع في حالات من خلال امتدادات لها، عن تسريبات وعن صحافة مأجورة وتلفيق واختلاق ونصف حقائق، أو حقائق مجتثة من سياقها. ومن الجائز إنكار ذلك أو تجاهله، ولكن كيف لمن تلظى به؟ وإذا كان الكلمات قد تؤذي، فإن الواقع الذي تحيل إليه الكلمات أو مدلولها، أكثر إيلاما. طبيعة الدولة الديمقراطية هي فصل المهام وعدم تداخلها ومطابقة الوظائف والاعضاء الذين يضطلعون بها. وما يميز الدول غير الديمقراطية هو انعدام الفصل وعدم تطابق العضو والوظيفة، والزعم بما ينافي الحس السليم، وإنكار ما يبدو واضحا للعيان، ومحو الذاكرة أو الالتفاف عليها، والجهر بنصف الحقائق والركون إلى تمرين الإقناع الذاتي.
إن المجتمعات لا تتطور بتقنيات، على أهميتها، ولا تنضبط بالأدوات الزجرية، على ضرورتها، ولكن من خلال تصور تبلوره نخبة، تنطلق من نقطة واقع تحمله وجدانيا، وتعرفه موضوعيا، إذ الإحساس الوجداني لا يكفي، ولها تصور إلى ما تصبو إليه. ليس السؤال الذي يطرحه المثقف «ماذا نريد» عبثا ولا هو حذلقة، لأنه هو الذي يحدد الوجهة، ومن ثمة يؤثر على تعبئة المواطنين. وهؤلاء لا يُعبّأون بتقنيات، ولا ببث هواجس الخوف، ولكن ببث شعور الأمل وصياغة حلم جماعي، ومسؤولية السياسي هي بالدرجة الأولى أن يبعث الأمل من خلال رؤية وتصور.. لا أحد من الطبقة السياسية استطاع أن يرتقي، كي يحمل طموحا جماعيا أو يصوغ رؤية. واقتصر دور المثقفين بالتلويح بالأخطار، والمبادرات الإعلانية والأماني، عوض تفكيك بنية الواقع وفهم ما يجري وصياغة هدف جماعي. فالفهم سابق على الفعل، والفعل غير منفصل عن طموح جماعي ورؤية مستقبلية، وهو الأمر الذي يَعزّ في ظرفية حازبة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد