هكذا كتب الدكتور عبد السلام فزازي عن الذاكرة: ” تعبان بن تعبان..” في رواية “صهيل الذاكرة “….

متابعة سعيد الهياق

” للأحلام عيون وللحقيقة ظل أيها الشيخ”…

عندما تعتريك أحلام الطفولة يا تعبان بن تعبان، وتخدش فيك الحقيقة، ما الذي يشدك إلى تلابيب شعاب الريف، وتخوم أقبيتها الناعسة خلف الجفون الساهرة…؟ أتكون إذن شامة حب عندما تقطب الحاجبين على ضفاف النكور، لتلفظك أمواجه إلى الزاوية الجاثمة في نايا سرة « بني ورياغ ». أم تراك من سلالة لمشردين الذين أووا إلى حضن من يعصمهم وذويهم من نفايات بشرية؟. هكذا قالت قارئة الفنجان، يوم أفل النجم الثاقب، وتزوجته مهنة الوطنية… فكان يوم ذاك من دخل ديار شيخ الزاوية آمنا. تلك تراتيل قديمة / جديدة تعزفها قيثارات غجرية طالعة من مفاصل الأعشاب البرية… لماذا يا تعبان بن تعبان الصغير عمر الأحلام قصير ومتاريس الحب أرخبيلات تعانق أرخبيلات… ! هناك… هناك أيها الحالم العابر ! ستعانق في الأحداق ميلاد من ماتوا قبل الأوان، وعمر أزهار تبحث عن أريجها، وسط ذاك المدى المعتوه الذي تناسلت منه كيمياء الغضب الممتد إلى حيث قبة شيخك الوقور…

أحقا أيها الشيخ النائم في تخوم ضريحك الموحش، مت إلى الأبد وطويت صحفك؟ أم تراك تستريح الآن استراحة المحارب…؟ أنت الذي أمدوك بزخرف الدنيا مقابل الوطن فابيت مرددا قوله تعالى:
« أتمدونني بمال، فما آتاني الله خير مما آتاكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون… !. أنت الذي أسلم العدل أمامك خشية إشارة بنان، فكنت أبا سلالة من رسموك شامة على جبين عندليب الفلوات، وكنت دير من عافته شعاب الريف الكبير… أنت وحدك كنت سيد الكينونة الخرساء، ووحدنا كنا يوم ذاك نعتمر داخل سراديب أرواحنا النخرة… ماذا لو عادت الأزهار إلى بذورها، والعصافير إلى أعشاشها، والفراشات إلى رقصاتها البدائية… ! ماذا يا تعبان الصغير، لو أخرجت الأرض أحجارها والأنهار أوحالها، وتطهر الرجس من رجسه، والإنسان من بطشه وغيه، ماذا لو… لو… ! لكن ماذا تفيد « لو » يا تعبان بن تعبان ! في زمن تنكر فيه سيبويه لكتابه؟. آه ! لو كنت تعلم يا شيخنا كم نحن من الغربة غرباء، ومن الحضارة بلهاء… ! نحن الذين تزوجوا في حضرتك، وطلقوا في غيابك. نحن الذين شيدوا قصورا لأعدائهم، وشيدوا لنا قبورا جماعية… بالأمس كنت ملاذ المقهورين يوم آويت المجاهدين من حمى « لاليجو » وخرج اليوم المقهورون من سترتك فراعنة على شكل جراد آدمي يكره السقاية والرفادة، وينتعش بدم الأحرار… قالت قارئة الفنجان:
-دع جثة شيخك يا تعبان! تستريح ولا تنهشها، بربك في زمنكم الاسمنتي. فللماضي صولة وللحاضر إقبار… رتل، إن شئت تواشيح مغانيك خارج ضريح شيخك، فربما اغتال الآذان صخب ياجوج وماجوج… تمثل، إن شئت صورة شيخك في أحداق سلالته، فربما ما زال الغصن لم يغادر بعد جذعه، ولا الظل ظله…!
قال تعبان:
-دونك الفنجان؛ هيا اسألي عن أناس ذهبوا وما عادوا، لست أدري أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا؟…أنا المتيم بالبياض.. بالكفن المرصع برذاذ ملائكة الرحمان… فماذا يا قارئة الفنجان، لا تحاولي استحضار فضاء شيخي المدجج بأناشيد الرعاة؟ المسكون بخبايا عهد ولى وراح…؟ لماذا فنجانك يغتال في عيون الأخبار، ويزنر شراهة السؤال…؟
-أخبار شيخك يا تعبان ، ماتت في الأحداق. أحداق من عاشوها، واستحالت أسطورة ترويها الجدات للأحفاد. وعادت صيحة يرددها صدى الأودية المسكونة بجن سليمان… كل شيء مات في الأحداق، إلاك أيها الباحث عن الحقيقة المشعة في زحمة الظلام. عد لماضيك القريب ترى كل شيء زبدا… فتش عن أحلامك الصغيرة والكبيرة في سراديب هذا المدى الممتد عبر الذاكرة الموشومة… أنت، يا صغيري، مشنوق على حبل غسيل غيرك. فلا تسكن جثة من هجرك… هذا شيخك أراه يقرأ عليك وصاياه العشر، ويشهد عليك تضاريس الريف المنهكة… فلا تدخل محراب السامري بعد أن تبين لك الغي من الرشد… إليك عني يا قارئة الفنجان… فها أنذا أعلن لك انهزامي، فانتصري لمتيم أضناه الرحيل عبر خطوط التماس… أما آن لهذا الغائب الحاضر أن يأخذني إلى حيث عرائس المروج… ! هناك، هناك، عند حضرة قبته الخضراء لأقدم له القرابين والنياشين. فأنا مدين له في الحياة قبل الممات. وأنا مدين لصولة فيه علمتني أن لا أبيع دم وجهي، وأن لا أنهش لحم عدو… وحده يا قارئة الفنجان كان رسولا في نام ليوقظني من زلات راودتني وراودتها… كان وحده فانوس عشق أبلاه المد والجزر… ووحدي كنت أعانق سحابة عاقرة، زجتني في غياهب الماضي البعيد، لتحيلني إلى صمغ وصلصال… قالت قارئة الفنجان:
– اسمع أيها الشاكي وما بك داء! يا تعبان!… دعني بربك الآن من الفنجان وخباياه. وخبرني فيك عن بطل مات جسدا ولم يفارقك روحا وفكرة. عن ماض تحفه فضاءات البياض، وحاضر يجهضه ميلاد السواد، عن هذا الذي تصبو إليه جاثيا وتحبه حبا وثنيا، بينما أراه على شكل زئبق لا يطاوعك البتة. فماذا لو أدخلتني وفنجاني قبة شيخك الوقور هذا، لأستريح من عناء مغازلة أسرار الفنجان؟ ! ماذا لو استطعت القبض بأصابعي العشر على أهداب كفن شيخك؟قد أكون من سلالتكم… من يدري..؟ ما دام فنجاني قد استسلم هو الآخر لهذا الحلم / الرؤيا الطالعين من جوف « النكور ».. وأعدك يا تعبان أني لن أكشف عن ساقي، ولن أحسب قبته لجة ولا صرحا ممردا من قوارير… أحقا يا… ! رويدك أيها المتيم، فأنا لم أعد منذ الآن قارئة فنجان. ولك أن تسميني الآن، الحقيقة الضائعة، المعرفة الصامتة، اللوعة الباسمة… بشراك إذن أيتها الحقيقة، ولنعتمر سويا داخل أبراج « الزاوية ». ولترعنا خيوط العنكبوت من ذئاب الفلوات، كما رعتنا يوما ما من صخب « لاليجو »، ومن عهر « الجراد الآدمي »… ! تقول إذن إن الزاوية آوتكم واعتصمتم بها يوم ذاك؟.. أجل أيتها الحقيقة ! ولك أن تسألي براريها وجبالها وأوديتها الناطقة الصامتة… هيا اسألي عرائس الزاوية وديارها ودمنها، فإنها الآن خجولة من ضيافة وليدها تعبان الذي غزا الشيب تضاريس محياه… اسألي الحقيقة أيتها الباحثة عن الحقيقة ! . إنها هنا وهناك، وليكن دخولنا إلى القبة اعتمارا ! سيدي آه سيدي ! ها نحن نجيئك كمتسول شريد، يخور عند أبواب الغرباء، كموجة عاتية تدرك أنها عندما تعانق الساحل، تتلاشى إلى حيث لا رجعة.. بشراك سيدي، تنام في رمسك قرير العين، وألف شمعة عند رأسك تحترق لتذكر الزوار بالنهاية… من جديد أعود إليك أيها الشيخ، أتشرب دعواتك التي حرمت منها طويلا…أنام في محرابك كي تلتئم جروحي المكلومة.. من أجلك أيها الشيخ جئت أعلن صرختي البيضاء… صرخة سوف تبقى عالية تكلل هامة حياتي المطوقة بالسراب.. أعود إليك مرة أخرى لأجدك في ضيافة ضريحك، أتسنم بخشوع في جوارك الحب، وأشم فيك رائحة ودعتها وودعتني وصلبتها في صدري طويلا…طويلا… ها قارئة الفنجان سيدي، دخلت قبتك وأسلمت في حضرتك، وكفرت بشطط الفنجان. فمن أعلاك هبة ووقارا غير بياض قلبك؟ ومن هدانا إليك زلفى غير ولعنا بهذا الذي يقودنا الآن إلى مضجعك لافظين الدنيا الكفيفة الساقطة…؟
-تذكر يا تعبان الصغير / الكبير ! أنك أصبحت تبتلع الرعب مع الرغبات، تعيش حداد المدن وعويل جيل كنسته أحلام هستيرية.. أنت الآن أراك تشكو بثك وحزنك لجسد ملفوف تحت هذه القبة الخضراء، فدعني أصارحك الآن ! إنك تريد بدورك أن تصارح الموتى بعبثية الأقدار، لكنك سوف تضيع يا تعبان ! بين حربين، حرب ماض تمزق أشتاتا لا تدعيه، وحرب حلم يراوغ ويشاكس ولا يدعيك… فأين أنت من هذا الزمان / الحرباء؟.. أنت الوجع الصعب.. وأنت الذكريات البعيدة تشتاق إلى أن تفتح عبر تخوم شيخك في الغيب ثقبا تنير هذه البرية… قال تعبان:
-والله إني أرى غيما كثيفا يعانق قبرشيخنا؛ فهما قليل سيمطر حبا وعشقا وسيتسع فضاء قوس قزح.. وأبقى أنا – تعبان – أبدا، عاشق دورة الأرض عند اكتمال الفصول الأربعة… هكذا إذن كانت الدقائق والثواني تعتصر منا الحقائق، وتشدنا إلى صمت قبر منسي وسط شجر اللبلاب، وكأننا بالفضاء يعيد سيرته الأولى، يخدش سحر عمر ولى وراح. ساعتها سمعت مناد يناديني من وراء دثار الضريح حيث الصمت العميق.. وإذا بالقبر ينشق وإذا بالشيخ جالسا القرفصاء، رافعا يده، مرحبا ! بعد أن تفرس ارتباكنا، رغم أن عينيه كانتا ترقان بطيبة وسماحة. وببساطته المعهودة منذ أن تفرس ارتباكنا ! استقبلنا لاجئين فارين من غطرسة الاستعمار الفرنسي… ابتسم الشيخ في حياء ووقار ابتسامة الطفل الرضيع قائلا لصديقتي الحقيقة:
-أجل بنيتي ! كل ما سمعته من تعبان الصغير هو عين الحقيقة، فكلمات رفيقك ما زالت أوضح وأعمق من كل ما يمكن أن يقال… كلماته.. أشد من أن تمحى. أراها قد حفرت الآن في الأعماق بقوة وبألم مخيف، ولكن لم يقرأها، ولم ينتبه إليها أحد.
هكذا، وكلمح البصر، غادر الشيخ مكانه مخلفا وراءه كلمات من غبار، ودموعا من غبار.. فنحن يا قارئة الفنجان – يقول الشيخ – معشر الأموات نسمعكم ولا نقوى على مخاطبة من فارقناهم. نحن نعيش مفارقتكم وبعضا من خبايا أسراركم، لكن حياتكم الفانية تشبه عندنا مسرحية تنتهي بانتهاء فصولها. قد نستمتع بمشاهدتها، وقد تبكيكم بواكينا.. نحن أقرب إليكم من حبل الوريد. وأنتم معشر الأحياء أموات قبل الأوان.. أجل ! مات فيكم الأمل، وغيرت الأخلاق سترتها البالية في سوق النخاسة.. كل شيء فيكم لبس ثوب الحداد، ولم يكتف بعدة واحدة، لأن الفجيعة تناسلت منها أعماركم المشيعة صوب خطوط التماس.. فيا أبناء الجيل الآتي ! لن ينضج جرح حضارتكم الساقطة، دون ألم أراه يطاردكم. فها أنتم تسلكون كل فجاج الآثام، والفتنة ماكرة يا أبنائي المتعبين حتى بعد مضي العمر؛ ولو أنكم أصبحتم ترونها على شكل الصفصاف… وها أنا أقسم لكم بطهر الحزن، أنكم دخلتم الغثيان دخولا رسميا، وما أقسى أن تنسيكم التخمة بالجوع، فتكفروا بعمة الله.. ! وها أنا أرى الأعوام والسنين بذاكرتي تتساقط، وتهرب من تخوم جمجمتي… ما قيمة الحياة وسط الظلام؟.. ما الفرق بين ساكن الزنازين وساكن الكهوف إذا ما حفت لحظة اليأس التام من عدم رؤية بارقة النور؟.. الصلصال هو الصلصال يا أبنائي المتعبين والرائحة تختلف، لعلكم نسيتم أن نهاية الإنسان هي التحول إلى جثة مرمية في أي مكان.. ! فما سر الاختلاف إذن حول سبب النهاية وأنتم تعلمون أكثر من غيركم أن مصيركم يختزل إلى جثة فوقها ذباب..؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد