من الوطن إلى الأمة

اوريد

حسن أوريد

ما الذي استحثّ رعيلا من مشارب مختلفة أثناء الاستعمار ليطالب بالاستقلال ؟ هل كان الوعي بالوطن كما نفهمه الآن، ونجسده عمليا من خلال خريطة وعلم ونشيد وطني، راسخا لديهم، أم أن الحركة الوطنية هي مزيج من الرابطة الإسلامية والوشائج القبيلة ؟ هل كان هناك شعور بالانتماء للوطن قبل الحماية، أم أن الوطن نتيجة للحركة الوطنية، والحركة الوطنية نتاج للحماية ورد فعل لها ؟جرى النقاش مع صديق حول هذه القضايا، ولم أجد بدا من الاسترشاد بنموذجين يأتيان من مضارب مختلفة انصهرا في الوطن، من أجل التخلص أولا من نَيْر الاستعمار، وثانيا في معركة الوحدة التي تجسدها قضية الصحراء، وهما المرحوم محمد باهي الآتي من فيافي شنقيط، والمرحوم فريد النعميي الوافد من عمق سوس..كيف لهذين النموذجين أن ينصهرا في بوتقة واحدة، هي الوطن، وينافحان عنه ويدافعان عنه، ويؤديان الثمن من أجل ذلك ؟ ومن الصعب، لمن عرف الشخصين أن يفسر نضالهما بدوافع دينية، أو لدعاوى جهوية أو قبيلة، لأنهما كانا تماما معارضين لكل ما يمت بالارتباط القبلي أو العرقي.

ليس من قبيل المجازفة أن نقول إن الوطن كان سابقا على الحركة الوطنية، وأن الحركة الوطنية إنْ هي إلا تعبير عن هذا المعطى، ولم يكن يعزب على رواد الحركة الوطنية ذلك فضمّنوه في وثيقة المطالبة بالاستقلال عن الكيان المغربي الراسخ…

ومن الصعب أن نجعل فكرة المغرب، أو الوطن، تنبثق عن المخزن. المخزن كان تعبيرا عن الوطن، وليس العكس. ليست هي السلطة التي صنعت شعورا بالانتماء، بطريقة قسرية أحيانا، كما يَرِد الأمر في الأدبيات الاستعمارية، بل كان هناك شعور بالانتماء بشكل هلامي أحيانا يختلف التعبير عنه من منطقة لأخرى، من دون شك أن الجغرافية وسمته، ومن دون شك أن التاريخ رسّخه..ثم وجد تعبيره في ثقافة تختلف لحمتها ولا يختلف سداها.. كان لهذا الشعور أن يتبلور حين تهددته المطامع، و كانت إحدى المحطات الفاصلة هي تلك التي رسمها السلطان أحمد المنصور الذهبي، أمام أطماع الامبراطورية العثمانية. أرسى نظامَ المخزن، والذي كان في جانب كبير، تعبيرا عن هوية، هوية ترفض التذويب وتأبى التطويع..اقترن المخزن، مع أحمد المنصور، بالشخصية المغربية. أصبح معبرا عنها، ودرءا ضد مطامع العثمانيين..وظل ذلك الشعور متأرجحا بين الظهور والضمور. واعتراها ما يتعرى كل كيان حسب القاعدة الخلدونية، نشأة وشموخ ثم اضمحلال. لم يزد أقطاب الحركة الوطنية سوى أن نفخوا في جذوة شيء موجود أصلا. أغلب الملاحظين الأجانب والموضوعيين يُقرون بشخصية راسخة للمغرب.

لكن الوطن، أو أرض الأجداد، أو الوفاء لإرث، لا يصنع أمة بالضرورة..الأمة بناء. يمكن أن يعتمد هذا البناء عناصر موضوعية، كما عند الجرمان : لغة، عرق، تاريخ، ويمكن أن يعتمد عناصر ذاتية، كما في تعريف الفرنسي إرنست رينان بجعل الأمة هي الإرادة في العيش المشترك. العناصر المادية ليست المحدد الحاسم وفق هذا التعريف. الأمة هي الروح بالنسبة لوطن، وهي الرابط بين عناصره. نعم قد تكون بطريقة إرادية، من خلال مفكرين وأدباء فرجالات دولة (فيخته وبسمارك)، وقد تعتمد عناصر موضوعية، كما ذاكرة مشتركة وتقاليد راسخة…ولكن العنصر الحاسم في بناء الأمة، هو العيش المشترك، هو الإيمان بقيم المساواة والتضامن. والغاية، مثلما يقول إرنست رينان، هي صنع أشياء عظمية من خلال التلاحم. بدت معالم الأمة المغربية في التشكل مع المسيرة الخضراء. وليس من قبيل الصدفة أن أقطاب الحركة الوطنية، بانخراطهم في الوحدة، كانوا يسعون في تجسيد الزمن الثاني، من الوطن إلى الأمة..لقد ألمعت إلى شخصيتي كل من محمد باهي وفريد النعيمي، ودفاعهما المستميت عن الوحدة…ليس النضال من أجل الوحدة إلا تعبيرٌ(بالضم وليس بالفتح) عن بناء الأمة..يمكن أن أضيف شخصية ثالثة، انخرطت في هذين اللحظتين عن وعي، وهو عبد الله العروي. شهادته عن المسيرة، وهو يرى طفلا يحمل علما يكبره، وعن التأثر الذي استشعره في أجواء رباطات المشاركين، يفوق ما استشعره لحظة الاستقلال. ولا شك أن رابط الأمة أقوى من رابط الوطن. ولا غرو أن تكون لحظة المسيرة، في وجدان متتبع حصيف، أقوى أثرا من الاستقلال.. ولكننا تخلفنا عن بناء الأمة، تخلفنا، لأننا لم نركز على القيم الحاملة للأمة، وهي المساواة والتضامن، وتخلفنا لأن الأداتين التي من شأنهما أن تضطلع بذلك، وهي الدولة والمدرسة، أخفقتا..وتخلفنا لأننا، وما أبرّيء نفسي، أغرتنا خطابات الهويات واستغوت فريقا منا، سواء أكانت ذات طبيعة عرقية أو عقدية.. بل ذهبنا أبعد من ذلك، حين أودعنا النص الأساسي التمايزات الثقافية، وكان يكفي أن نعبر عن ذلك بالأمة المغربية، الحاملة ضمنيا لكل المكونات، ونشفع ذلك بقيم المساواة والتضامن والعيش المشترك..

نعرف أن التاريخ لا يسير بالضرورة نحو الأحسن. ومن واجب من يشتغل في الأفكار، أن يجعل التاريخ يسير نحو الأحسن. لا أستحب كلمة مثقف، ولا مفكر، لما تحمله من حذلقة، ولكن من واجب من يشتغلون بالأفكار وعليها، أن يدقوا ناقوس الخطر، شأنهم شأن الربيئة الذي يقبع في حصن يرقب الأخطار المحدقة. نعرف أن التاريخ قد يتكرر..وقد يبدأ ملهاة، وينتهي تراجيديا، كما يبدأ تراجيديا وينتهي ملهاة.. أسئلة تلح علينا…هل نفرط في الوطن وقد تحدد معالمه في رفض التبعية في الوقوع في تبعية من نوع جديد ؟ هل نعبث بالأمة ونقبل بالتمايزات الثقافية ؟ هل نجعل الدولة أداة فئوية أو غنيمة ؟ هل نقبل أن تبقى المدرسة حقل تجارب، بوصفات تقنية، لا تحمل تصورا ولا طموحا جماعيا..؟ هل يجوز لمن يعانق الأفكار أن يلتزم الصمت أو يميل للحذر، و يلتزم التقية ؟ أسئلة تضج في ذهني ولا إخال أني لوحدي مَن تساوره في هذه الفترة الدقيقة التي أصبحنا فيها قاب قوسين أو أدنى من كل شيء.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد