أزول بريس – حسن السحاقي //
ذات صباح استيقظ ابني متورِّمَ الوجه، وكعادتنا لم نُعِرِ الأمرَ كبيرَ اهتمام، لأنه منذ صغره يتعايش مع حساسيّةٍ لموادَّ مختلفةٍ وحساسيّةٍ للَسعات بعض الحشرات، ولهذا فانتفاخُ كاملِ الوجه يكون نتيجةً لهذه الحساسيّة في أغلب الأحيان. أصبحنا معتادين على حالته؛ فكل الأدوية لم تفلح في تخليصه منها مما جعله يتعايش معها.
بعد يومين زال الانتفاخ، لكنّه شعر بنقصان حاسّة الشمّ والذوق، وفي اليوم الثالث المُوالي فَقَد تماما القدرةَ على الشمّ والتذوق، فما كان عليه إلّا أن يزورَ الطبيب الذي أحاله على ضرورة إجراء الفحص المختبري للكشف عن فيروس كورونا.
كانت نتيجةُ الفحصِ إيجابيّةً. أُصِبْنا بالذُّعر وتمكّن منّا الخوف، خاصة الخوف على حماتي المُسِنّة التي تجاوزت عَقْدها الثامن، والمصابة بداء السكري، وتعاني من مرض القلب. وقد كنا أحضرناها لزيارة طبيبها من أجل المراقبة الشهرية لحالتها الصحية.
ابني لم يستوعب الأمرَ من هَوْل الصدمة، ورفض أن يصدق نتيجة الفحص، واعتبره كاذبا. وفي الغد بعد أن زال روعُه وهدأت نفسُه توجّه إلى مركز الفحص الخاص بمرض كوفيد، حيث أُجْرِي له تخطيط القلب الكهربائي (ECG)، ثم تسَلَّم الدواءين الأساسيين (أزيميسين والكلوروكين) واشترى الباقي من الصيدلية.
أمّا نحن فقد عزمْنا على التوجه في الغد إلى المستشفى باعتبارنا من المخالطين. بعد يومين كانت صدمتنا كبيرة، زوجتي وحماتي وحفيدُها جميعُهُم مصابون، أما بالنسبة لي فكانت النتيجة سلبية.
كيف حصل هذا؟! لقد اتخذنا كل الإجراءات الصحية والتدابير الوقائية، خاصة زوجتي التي أصبحت مهووسة بتعقيم كل شيء جاء من خارج البيت، وتعقيم الأحذية، وأفرطتْ في استعمال “جافيل” لغسل الأواني وتنظيف سطوح الأشياء إلى حدّ أن يديْها تقرَّحت مما أجبرها على استعمال قفازات الغسيل … وابنتي من شدة خوْفِها عَلَيَّ تحاصرُني أمام الباب عند عودتي من السوق وتنزِع عنّي حذائي وتجِدُّ في تعقيمه، ثم تدفعني دفعاً، توّاً إلى الحمام لأغتسل، وتأخذ ملابسي وتضعها في الغسالة…
ارتأت شقيقة زوجتي أن يُمرَّض ابْني في بيتها. أخذتْه إلى بيتها وعزلتْه في غرفة وفَّرت فيها كل شروط الراحة حتى لا يخرج منها إلّا للضرورة، وأشرفت على مناولته الدواء في موعده، وتهييئ وتقديم الأغذية المُقَوية للمناعة ضد كورونا، وأضافت إلى عملها كأستاذة في المعهد العالي للمهن التمريضية وتقنيات الصحة، عمل تمْريض ابن أختها.
انعزل المرضى في جانب، وانعزلتُ في جانب آخر من بيتنا، وحُرِّم عليهم دخولُ المطبخ الذي أصبحت أنا سيِّدَه. وحِرْصاً على منْع انتشار العدوى أصبح ارتداءُ القناع (الكمامة) ضرورةً ومسؤوليةَ الجميع، والالتزامُ بتناول الدواء بناء على وصفة الطبيب وتوجيهاته شرطاً.
لم تظهرْ عليهم من أعراض الوباء إلا حالةُ العياء المستمر والرغبةُ الكبيرة في النوم، خصوصا حماتي التي أصبحت عاجزة عن الحركة إلا بمساعدة زوجتي، الأمر الذي جعلنا في أعلى درجات التوتر والخوف من أن يستفحل المرض فتزداد معاناتها أو … لا سيما أنّ شهيّتها للطعام انعدمت، حيث لا يتعدى أكْلها لقيمتين تثيران غثيانها أو جرعتين من حساء.
بدأ ينتابني بعضُ التّعب، آلام في الظهر، ووجع في الرأس، وأرق يزيدني إرهاقا.. ما هذا الذي يحدث لي؟ هل كانت نتيجةُ التحليل المختبري السلبية خاطئة؟ هل العدوى انتقلت إليّ؟
كنت أتَحامَلُ الوقوف في المطبخ لأغسلَ الأواني، أو لأحضِّرَ بعض الطعام الذي لا يُؤْكَل منه إلا النّزرُ القليل. لقد تجاهلتُ هذه الأعراضَ بدعوى أن نتيجة التحليل المختبري السابقة كانت سلبيّة، وأنها فقط أعراض زكام مصحوب بسيلان الأنف.
بعد خمسة أيام، بدأت الوضعية الصحية لأفراد أسرتي تتحسّن، وبدأ الخروج رويداً رويداً من المنطقة الحمراء، وتباشيرُ الشفاء من هذا الوباء اللعين تنمو وتزداد. بعد عشرة أيام عَلَتِ الابتسامةُ الوجوه، وبدأت الحركة تَدِبّ في البيت إيذانا بالانتصار على الوباء، بينما بدأت مخالب كوفيد تُنشِب أظافرها في جسمي، وتأكد لي ذلك بالتنفس السريع المتكرر (النّهْجَة) عندما أقوم بمجهود بسيط.
أعدْت إجراء التحليل المختبري وكانت نتيجتُه إيجابيّة. سرى في أعطافي خوف عظيم ليس خوفا من الموت، ولكن خوفا من مضاعفات المرض وآلامه التنفسية …
جاء الدور على زوجتي، وكان هذا من حسن حظي، لتعتنيَ بي. لقد كانت حريصة جدّا على أن أتناول الأدوية في وقتها، وحريصة على تحضير كل الأطعمة ذات الفائدة الصحية المقاوِمة لهذا الوباء اللعين … ومشددة على التباعد وارتداء القناع، وهي العارفة بشؤون التمريض باعتبارها ممرضة سابقة تقاعدت عن العمل مبكرا.
كانت خطورة هذا الوباء تتعدى إصابة الجسم إلى إصابة النفس؛ معاناة نفسية قاسية يغذيها التشاؤمُ والقلق والتوتر والانفعال، معاناة مريرة استمرت طيلة الانعزال القسري داخل مساحات محدَّدة في البيت، وكل المرضى وغير المرضى مُقنَّعين.
بقدر ما كان القناع ضرورةً خوفا على بعضنا البعض من العدوى وحرصا على سلامة كل منا، بقدر ما كان مؤلما، ذلك أنني لم أعد أستطيع استحضار ملامح وجوههم كما يحدث لي في أحلامي مع الموتى من الأشخاص الذين أحبهم خصوصا أبي وأمي رحمهما الله، أحسّ بوجودهما لكن لا أراهما ولا يمكنهما التحدث إلي.
بين التقارب والتباعد كنت أشْوَق ما أكون إلى التَّمَلّي بمُحيّاهم، وإلى عناقٍ لأتنفّس حبّ الزوجة نِصْفي الجميل، وأتدفّأَ بحنان الأم الرؤوم وأجدّدَ صلةَ الأب بالابن الصديق، عوْنا لي على تحمّل الخَلْوة القسرية المُرّة وآلام المرض الشديدة.
بعد أسبوعين تماثلتُ للشفاء واسترجعت قواي ونشاطي وحيويتي، واسترددت بعض حياتي، لأن أشياء كثيرة تركتها خلفي خلال هذه التجربة. تعمقت نظرتي أكثر إلى العلاقات الأسرية بما هي وحدة متآلفة لا يفسدها اختلاف بين أعضائها، وتَكَرَّس أكثر الإحساس بالمسؤولية والانخراط في تقاسم الأعمال المنزلية. أصبح ابني مهْتمّا بطهي “الشهيوات” والمساعدة في غسل الأواني. واسترجعنا العادات الجميلة، نتحلق حول مائدة الطعام، أو نشاهد برناماجا أو شريطا تعْقُبه مناقشة.
وازداد إيماني بأن الرابطة الزوجية أساسها المودة التي تؤدي إلى الألفة ثم الحبّ بما هو احترام وتقدير الزوجين بعضهما البعض. تحضرني علاقة أمي وأبي رحمهما الله علاقة حبّ كبيرة تجسّدت في طيب المعاملة. كانت أمّي مصابة بمرض مزمن ظل يصاحبها إلى أن غادرت إلى دار البقاء، وكان كلما اشتد المرض عليها، نقلها أبي على وجه السرعة إلى عيادة الطبيب، وإذا لم يكن معه مال اقترضه، المهمّ أنه لا يمكن أن يتركها تتألم، وقد أُجرِيت لها عمليات متعددة. لم يحدث مرة واحدة أن سمعتُ أبي يتَسخَّط أو يشكو من ضيق اليد حتى يتهرّب من علاجها. كان عندما يشتد عليها الألم فيرتفع أنينها، تكسو وجهه مسحة عظيمة من الحزن، ويحتشد الدمع في عينيه.
كانت أجمل اللحظات حينما تسترجع أمي بعض عافيتها، يخرجان معا ويداهما متشابكتان إلى مقهى باريز أو إلى مقهى إكسيلسيور المشرعتين على ساحة محمد الخامس مركز الدار البيضاء. كانت أمي تعشق القهوة عشقا كبيرا، لهذا كان أبي يأخذها إلى هناك ويطلب لها فنجان قهوة كأنما يهديها وردة. تشربها على مهْل، تتلذذ بمذاقها، وتنتشي بعطرها كأنما «يسطع منها المِسك والعَنبر».*
كما توطّدت مع أصدقائي أواصِرُ الصداقة التي هي كنز لا يفنى والتي أصبحت نادرة في وقتنا الحالي. خلال هذه المحنة لم يتوقف دعمهم. أعتبر نفسي محظوظا جدا حيث كان لي أصدقاء، ب. حسن وع. محمد وط. أحمد؛ مازالت صداقتهم مستمرة لأكثر من أربعين سنة. نشأت وترعرعت خلال أيام الدراسة، كنا أربعة ونادرا ما كنا نفترق، حتى إننا كنا ننام ليلا في بيت أحدنا في أكثر الأحيان، وانتقلتْ صداقتنا إلى أسرنا وأصبحنا أهلا. أذكر في أواسط السبعينيات من القرن الماضي وكنا ندرس بالمستوى السادس الثانوي أننا خططنا لتنظيم سفر إلى جنوب المغرب وحددنا الميزانية المطلوبة والتي يفترض أن يشارك كلّ واحد بحصته، لكن حدث طارئ مادي لأسرتي منعنى من مرافقتهم، لكنهم أصروا على أن أرافقهم و”تْفارْضُو” أي جمعوا حصتي لتكتمل سبعة حصص المشكلّة للميزانية. لم أشعر أبدا خلال الرحلة بأنهم يمنّوا عليّ عطاءهم رغم ما كان يحدث من خلافات … لقد وطدت هذه الرحلة صداقتنا وعرّفت معدِن كل واحد منا والدليل أنها مازالت مستمرة كما ذكرت في فقرة سابقة لأزيد من أربعة عقود.
وتعززت مع بعض جيراني أواصر الجيرة التي تَرجمتْ فعليا مقولة ” الجار قبل الدار” التي ذكرتني بماضي الجيرة في الحومة أو الدرب، حيث كان الجار أقرب نفعا لجاره. أتذَكَّر وأنا طفل في بداية السبعينيات تكسرت ذراعي على إثر عثْرة أثناء اللعب مع أقراني، كان والدي في العمل ووالدتي وحدها بالبيت، فتكفل بي جارنا بوجمعة رحمه الله ونقلني على متن سيارته نحو عين السبع إلى دار ”الجَبّار” وهو طبيب تقليدي ثم أرجعني إلى البيت بعد ”تجبير” ذراعي بتثبيت العظم المكسور بعيدان من القصب لُفّت بقطعة قماش. تربينا نحن أبناء الدرب على هذه القيم. كنا نتعاون في الدراسة ضمن مجموعات، فكان أفضلنا في مادة من المواد يتكلف بمهمة المراجعة والتدريس، محمد (خ) بمادتي الرياضيات والفيزياء، وعبد الله (و)، والعربي (س) بمادة الرياضيات، بينما تكلفتُ بمادة الفرنسية، وآخرون بمواد أخرى. كانت اجتماعاتنا في رأس الدرب لا تخلو أبدا من محاولات جماعية لحل معادلات رياضية، في جو يطبعه التعاون والتنافس معا والتشجيع بعضنا للبعض. وكان الافتخار بالأوائل بيننا في المدرسة أمرا عاديا، بحيث لم يكن بيننا مجال للحسد والغيرة.
هؤلاء الجيران والأصدقاء جميعهم ساندونا خلال هذه المحنة معنويا وعمليا، إنهم يعكسون الشخصية الحقيقية لأغلبية المغاربة، الذين تجِدُهم في وقت الشدة يفيضون طيبة ويسترخصون كل غال من أجل إخراج أصدقائهم وجيرانهم وأهاليهم من محنهم.
وها نحن ننتظر دورنا في التلقيح لعلّنا نحقق المناعة الجماعية. لقد مرت عدّة شهور على انتشار “كورونا” التي تستمر في نشر عدواها وحصد الأرواح، وتزداد خطورتها بانبعاث سلالات متحورة جديدة من هذا الفيروس الذي يعتبر أشد فتكا وأسرع انتشارا. ربّما قد يعيد هذا اللقاح حياتنا إلى مجراها الطبيعي لاسترجاع حرّيّة عرفْنا قيمتها خلال الصراع مع هذا الوباء.
27 يناير 2021
* وقَهوَةٍ كَوكَبُها يَزهَرُ يَسطَعُ مِنها المِسكُ وَالعَنبَرُ (أبو تمام)
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.