قمع الأساتذة المتدربين والتَمَسْرُحُ الشعبوي للمدافعين عن الحكومة

 رشيد بن بيه
رشيد بن بيه

يعتقد رئيس الحكومة، وباقي وزرائه الرافضين الاستجابة لمطالب الأساتذة المتدربين بأن مشروعهم القائم على فصل التكوين عن التوظيف، المفصول أصلا، لأن الحصول على التكوين الجامعي واجازات التكوين المهني، لا يضمن التوظيف نتاج وعي وعمل مدروس للرفع من جودة التعليم، غير أن قراراتهم، كما سأبين ذلك، ليست سوى تصريف للاوعي سياسي واجتماعي حول فئة رجال ونساء التعليم بشكل خاص وباقي الفئات المتوسطة بشكل عام. فرجل السياسة، ليس سوى إنسان عادي Homme ordinaire مثله مثل باقي الفئات الاجتماعية، يجهل أسباب قراراته العميقة، و يشكل كل ما يعلن عنه، نظام تبريرات تخفي مصالح ومواقف تبين حقيقة العلاقات الاجتماعية الموضوعية السائدة داخل مجتمع متفاوت. وباعتباره، كذلك؛ أي إنسانا عاديا، يمكن أن نفهم لماذا يرفض رئيس الحكومة الاستجابة لمطالب الأساتذة المتدربين. ليست مشكلة فصل التكوين عن التوظيف من القضايا الصعبة، التي تحتاج أكثر من ثلاثة أشهر دون حل. فواقع قطاع التربية الوطنية يبين الحاجة ليس فقط إلى عشرة آلاف مدرس، بل إلى أكثر من ذلك بحكم ارتفاع عدد المحالين على التقاعد، سنة بعد أخرى وحاجيات القطاع الحقيقية التي يكشفها الاكتظاظ الذي تعاني منه جل المؤسسات التعليمية في كل المدن المغربية. ويبين تدبير هذا الملف، نظرة الحكومة المستهينة بجزء أساسي من المجتمع، فهي تعتبر الأساتذة غير ذي نفع انتخابي بالنظر لعدم مشاركة غالبيتهم في الانتخابات كما باقي الطبقات المتوسطة.

وبالتالي لا يمكن أن يؤثروا في تركيبة الكتلة الناخبة على حزب العدالة والتنمية، التي تضل ثابتة بفعل تواجد فئات أناس عاديين داخلهاHommes ordinaires، يفسر ارتباطهم بالحزب بمساهمة هذا الأخير في تحريك أحقادهم الطبقية ضد باقي فئات المجتمع خاصة الطبقة المتوسطة ؛ فبدل أن يقوم هذا الحزب بإدماجها في الطبقة الوسطى عن طريق توفير الشغل والعيش الكريم، يدغدغ أوهامها بأحلام الإصلاح، وانتظار الخير.

لهذا استهدفت الحكومة نضالات الطبقات المتوسطة بعنف وتشدد غير مسبوقين مفتخرة في كل لحظة، وفي كل سياق ومقام بالشرعية الانتخابية، والأغلبية الموهومة، فيما لو علمنا أن نصف الكتلة الناخبة لم تشارك في الانتخابات. إن من عيوب الديمقراطية أن نصوت على حزب، وكأننا وقعنا له شيكا على بياض لكي يقرر ويدبر كما يشاء. لذا يتم رفض هذا النوع من الديمقراطية الكلاسيكية التي لم تنتج سوى الدكتاتورية كما الشأن بالنسبة للانتخابات التي أوصلت هتلر للحكم. في مقابل ذلك، اقترحت الديمقراطية التشاركية، بما تعنيه، من عودة دائمة للشعب أثناء اتخاذ القرارات الاستراتيجية، أو المؤثرة في وضع الأفراد. وبالقياس لهذا النوع من الدمقراطية، نجد أن الحكومة، تتخذ قرارات، فردية، ديكتاتورية، وتفرض الأمر الواقع دون العودة للقواعد التي صوتت عليها؛ أي أنها تطبق دمقراطية الشيك الموقع على بياض الذي يسمح للحاصل عليه، بتقرير ما يشاء مدة انتدابه لتدبير الشأن العام، دون أي اعتبار لردود الأفعال. غير أن قضية الأساتذة المتدربين تكشف في نفس الوقت عن زيف الدمقراطية الداخلية التي يتغنى بها الحزب وتعددية الآراء داخله.

يتكون هذا الحزب من ثلاث طبقات الأولى يشكل بنكيران ومقربوه محورها، والثانية من الذين تربوا في طاعة جمعيتهم الدعوية، والأخرى من باقي المنخرطين في الحزب. وتمارس الطبقة الأولى هيمنتها على جميع قطاعات الحزب، و لا يملك أفرادها سوى التماهي مع ما يقوله بنكيران وطبقته، بالرغم من عدم اتفاق العديد من هؤلاء مع تدبير الحزب في عدة قضايا، فهم يخشون الإحراج، وسلوكات التموقف السلبي تجاههم من قبل الطبقتين الأوليتين من الحزب. لا يسمح إلا لفئة قليلة من أعضاء الحزب، بممارسة التمسرح La théâtralisation لوقف آثار الصدمات التي يسببها الحزب للشعب، ويتخذ هذا التمسرح أشكالا شعبوية من قبيل : تدخل الأعداء، ومحاربة الحكومة، وفبركة الملفات، والرغبة في الاستقالة، والتظاهر بالأكل مما يأكل منه الشعب … لقد ضمن هذا التمسرح تعاطف العديدين معه، وسيبقون كذلك، لأن الشعب المغربي مازال يسحر بالكلام، والوعود، ولو كانت كاذبة. لقد بينت مشكلة الأساتذة المتدربين من جهة تعاطف مناضلين من هذا الحزب مع القضية، وعجزهم في نفس الوقت عن التعبير عن ذلك في أجهزة الحزب، بشكل يكشف، بلا ريبة، هيمنة الطبقة الأولى من الحزب على باقي قطاعات هذا الحزب لأن من شرط استمرار وضعية الهيمنة، قبول المهيمن عليه بالوضع السائد. ويصرف هؤلاء موقفهم بشكل مرضي من قبيل اتهام وزير التربية الوطنية، علما إن إصدار المراسيم من اختصاص الوزير الأول فقط، أو التنديد بتعنيف المخزن للأساتذة، ونحن نعرف أن وزير الداخلية عضو في الحكومة، وكل ما يصيب الأساتذة تقع مسؤوليته على الوزير الأول. ينفرد بنكيران، لوحده، بتدبير هذا المشكل، ويكرر باقي وزراء الحكومة كلامه، بل يتجاوز، هو و وزيره في الاتصال اختصاصاته السياسية ليتحدث عن أمور بيداغوجية وديدكتيكية مثل الجودة، ومدة التكوين التي يجب أن تكون سنتين بدل سنة واحدة. وهي القضايا التي يجب، أن ينظر فيها خبراء التربية والتعليم الذين يزخر المغرب بنماذج كثيرة منهم، استفادت من خبرتهم بلدان عربية تعتبر نماذجها التعليمية متقدمة على النموذج المغربي. غالبا، ما تستند الحكومات في تدبير القرارات على مصادر معلومات تنتجها مؤسسات متخصصة، وتقدمها دراسات الباحثين، وتتخذ قرارات مستقبلية وفق توصياتها. لو قامت الحكومة بذلك، لاكتشفت أن حاجياتها من المدرسين تفوق عشرة الأف، وأن التعليم العمومي هو أساس مواصلة التحول والتغير الذي يحتاجه المغرب (تراجع دراسات المندوبية السامية للتخطيط). لكن استجابت الحكومة للأسف للضغوط الناعمة للقطاع الخاص المستثمر في التعليم، التي يتقاسم معه بنكيران نفس الثقافة. كما أن الحكومة، لا تستند لبناء قراراتها إلا على ما تنقله لها شبيبة الحزب، المسخرة لجمع المعلومات ونشر صورة ملمعة في مواقع التواصل الاجتماعي. يظن رئيس الحكومة، أن الأساتذة والأستاذات المتدربون يمكن أن يأتمرو بكلامه، مثلما تقوم بذلك شبيبته. لهذا ما انفك يأمرهم بالعودة للأقسام؛ وهو يتجاهل أن الأمر يتعلق بجيل جديد من الشعب المغرب، ولد في فترة الانفراج السياسي، وتشبع بثقافة حقوق الإنسان وقيم المواطنة والمحاسبة. وقد فوجئ الجميع بهذا الجيل من الأساتذة، وعموم موظفي الدولة الذي تمكن من خلق ثقافة جديدة، تقطع مع الأساليب المعهودة في التحكم والاحتقار. إن مشكلة هذا الجيل هو أنه ولد في مرحلة انتقالية بين ثقافة طاعة سائدة، وتدبير الشأن العام بالتهديد وغيرها من الأساليب الرثة والبالية، وثقافة جديدة تأمن بالمساواة، وتسائل القرارات، وتفحص مشروعية وشرعية ما يحدث ويجري من الأمور. لكن ستتجاوز، بلا شك، آثار ما سيترتب عن المواجهة المفتوحة بين الأساتذة المتدربين، ومن قبلهم الطلبة الأطباء، والحكومة، إسقاط المرسومين، وضمان التوظيف بعد التكوين، وستطال كل المشروع الحكومي الذي تحركه ثقة مفرطة في إمكانية إحداث التغيير دون أي اعتبار لرود أفعال التي يعبر عنها المجتمع.

لقد نجحت الحكومة بالفعل، في فرض زيادات في الأسعار، والاقتطاع من الأجرة بسبب الإضراب، وتوصيم الموظفين دون أية ردود فعل قوية. وحاولت أن تقدم ما أنجزته على أنه محاربة للفساد، وإصلاح للوضع، حتى بدت مثل هذه الإجراءات مألوفة، بل مهمة بالنسبة لفئة من الشعب المغربي الذي صوت، مجددا لصالح الحزب في الانتخابات الجماعية. مع انطلاق احتجاجات الأساتذة، بدأ الإنسان العادي L’Homme ordinaire الذي لم يكن مدركا لرهانات ما يجري، -كما هو شأن هؤلاء الأساتذة أنفسهم من قبل- يكتشف أن ما يحصل اغتصاب للحقوق المكتسبة. وقد ساهم الأساتذة المتدربون في بناء وعي جديد لدى المجتمع بحقيقة التدبير الحكومي. إن الصراع مع رجال التعليم عموما هو صراع مع المجتمع ككل. وقد نجحت الدولة، من ذي قبل في تأليب المجتمع على هذه الفئة. واعتقد، حاليا، بأن علاقة جديدة بين هذين العنصرين في طور التأسيس، تعيد للمدرسين، عموما، مكانتهم.

اترك رد

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد