قضية أعطوش وأساي: لغز الإدانة رغم أدلة البراءة
محمد بودهان
على إثر مقتل طالب من القاعديين في ماي 2007 بمكناس، اعتقلت الشرطة، بتاريخ 22 ماي 2007، الطالبين بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، حميد أعطوش ومصطفى أوساي. بعد سنة من الاعتقال الاحتياطي سيدانان باثنتي عشرة سنة سجنا نافذا، والتي سيخفّضها القرار الاستئنافي إلى عشر.
إدانة أعطوش وأوساي اكتسبت، من الناحية القانونية، قوة الشيء المقضي به. بل تم حتى تنفيذ العقوبة بصفة نهائية بالنسبة لمصطفى أوساي الذي غادر سجن “تولال” بمكناس يوم 22 ماي 2016، ووجد في انتظاره آلاف المتعاطفين والنشطاء الأمازيغيين الذين خصّوا له استقبالا تاريخيا يليق بمكانة الرجل ونضاله وتضحياته من أجل الأمازيغية. وسيغادر نفس السجن، في أقل من عام، رفيقه في الأسر وفي النضال من أجل الأمازيغية، حميد أعطوش. القضاء قال إذن كلمته. ويعتبر الملف، من الناحية القانونية دائما، قد أغلق نهائيا، إلا ما يتعلق بإمكانية فتحه من جديد للمراجعة وإعادة المحاكمة لتدارك خطأ كان وراء إدانة المحكوم عليهما (الفصل 565 من المسطرة الجنائية). لكنه سيبقى دائما مفتوحا من الناحية الحقوقية والإنسانية والاجتماعية، لما يطرحه من أسئلة تخص شروط المحاكمة العادلة وسلامة إجراءات التحقيق الجنائي، ولما رافقه وتسبب فيه من مآسٍ ومعاناة للمحكوم عليهما ولأسرتيهما.
سنفتح هذا الملف إذن من هذه الناحية ـ الحقوقية والإنسانية والاجتماعية ـ بمناسبة مغادرة أحد أطرافه الرئيسيين، وهو مصطفى أوساي، السجن بعد أن استكمل العقوبة التي حُكم بها، والذي أصدر كتابا بعنوان “الطريق إلى تامزغا، مذكرات معتقل رأي أمازيغي”، مطبعة شمس إديسون، الرباط 2016، يحكي فيه قصة الاعتقال والمحاكمة والسجن، رغم براءته من التهمة التي أدين من أجلها براءة الذئب من دم يوسف، كما يوضّح ذلك في الكتاب. والحديث اليوم عن هذا الملف، بعد تنفيذ العقوبة وانقضاء مدتها، يكون بحرية أكبر، لأن هذا الحديث لا يمكن أن يؤثر لا على الحكم ولا على سير التحقيق. فكل شيء قد طُوي وانتهى في ما يخص هذين الجانبين.
“حضر الجميع إلا العدل”:
هذا ما كتبه أوساي (صفحة 39) وهو يصف إحدى جلسات المحاكمة. لكن هذه العبارة هي وصف يسري في الحقيقية على كل الملف من أوله إلى آخره، منذ الاعتقال إلى حين النطق بالحكم. فالمعتقلان تعرّضا، كما يشرح الكتاب، لتعذيب نفسي وبدني وحشي لإجبارهما على التوقيع على محاضر لم يطّلعا عليها. وهي المحاضر التي أنكرا ما جاء فيها أمام الوكيل العام وقاضي والتحقيق وهيئة الحكم، كما طلب محاميهما من قاضي التحقيق عرضهما على الطبيب فرفض. وتجدر الإشارة إلى أنهما تقدما بشكاية إلى وزارة العدل حول ما تعرضا له من تعذيب أثناء التحقيق، مع تحديد أسماء المسؤولين عن ذلك. وقد أحالت الوزارة شكايتهما على الوكيل العام بمكناس الذي استمع إلى مصطفى أوساي في محضر رسمي. لكن يبدو، كما هي العادة في مثل هذه الشكايات التي تتهم الشرطة، أن الشكاية قد حُفّظت، وإلا لاستبعدت تلك المخاضر ولبطل كل ما بُني عليها من خلاصات ومساطر ومقررات، تطبيقا للفصل 293 من المسطرة الجنائية الذي يقول: «لا يعتد بكل اعتراف ثبت انتزاعه بالعنف أو الإكراه».
هذا التذكير بما تعرّض له المعتقلان من تعذيب، كما يسرد الكتاب، من أجل توقيعهما على المحاضر، ضروري لفهم المسلسل الذي ستنتهي حلقته الأخيرة بإدانتهما. ذلك أن الإدانة بنيت على هذه المحاضر رغم أن القاضي ليس ملزما، في الجنايات، بتصديق ما تتضمنه محاضر الشرطة القضائية (الفصلان 290 و291 من المسطرة الجنائية).
أما الشهود فأدلوا جميعهم بما يبرئ المتهميْن إلا “شاهدة” واحدة. والعديد من هؤلاء الشهود، لما سئلوا عن فحوى شهاداتهم التي تورّط أعطوش وأوساي، والمدوّنة في محاضر الشرطة التي سبق أن استمعت إلى أولئك الشهود، أنكروا ما جاء في تلك المحاضر وكذّبوها، مصرحين أمام المحكمة بما يخالفها ويبرئ المتهميْن. وحتى الشهود من الطلبة القاعديين، الذين ينتمي إلى تيارهم الضحية، شهدوا لصالح المتهميْن. أما “شاهدة” الإثبات الوحيدة، ففضلا على أنها ذات سوابق قضائية، فإن الإدلاء بشهادتها عرف خرقا سافرا للقانون، ذلك أن الرئيس عندما نادى على الشهود وطلب منهم مغادرة الجلسة للاختلاء بقاعة أخرى حتى لا يستمعوا للمناقشات، إعمالا للفصل 328 من المسطرة الجنائية، اندست تلك “الشاهدة” بين الحضور ولم تستجب للمناداة عليها، كما لو أنها متغيبة. لكن بمجرد انتهاء الشاهد السابع من الإدلاء بشهادته، ستظهر تلك “الشاهدة”، التي لم تغادر الجلسة وتابعت المناقشات خرقا للفصل المذكور. وهو ما احتجت عليه هيئة الدفاع وتوقفت بسببه الجلسة حوالي ساعة. يضاف إلى ذلك أن شهادتها كلها تناقض في تناقض، كما وقف على ذلك محامو الدفاع: فما قالته عند الشرطة، حسب محضر هذه الأخيرة، شيء، وما قالته أمام قاضي التحقيق شيء آخر، وما قالته أمام هيئة الحكم شيء ثالث. يضاف إلى ذلك اعترافها أنها تساعد البوليس كلما طلبوا منها ذاك. ومع ذلك فستستبعد شهادة 15 شاهد نفي ويحتفظ بـ”شهادة” تلك المرأة كشهادة إثبات وحيدة في الملف.
العلم يبرئ أعطوش وأوساي بشكل يقيني ونهائي:
في الحقيقة، حتى لو كانت محاضر الشرطة القضائية سليمة، وكانت شهادة تلك المرأة صحيحة، فكل ذلك لا يساوي شيئا أمام “محضر” و”شهادة” العلم، الذي أثبت، وبشكل يقنيني ونهائي ومؤكد، براءة أعطوش وأوساي مما نسب إليهما. فرغم أن البراءة هي الأصل، وبالتالي لا تحتاج إلى إثبات، وإنما ارتكاب الجرم هو ما يجب إثباته، إلا أنه في قضية أعطوش وأوساي، ليس أن سلطة الاتهام لم تستطع تقديم دليل مادي واحد على ثبوت التهمة، وإنما أثبت العلم، كما قلت، براءة المتهميْن بشكل قاطع، ونفى علاقتهما بتلك التهم نفيا باتا ونهائيا باعتماد تقنية الحمض النووي ADN. ومعروف، اليوم، أن هذه التقنية هي أهم وسيلة يستعملها التحقيق الجنائي لإثبات العلاقة بين الجريمة والمتهم، أو نفي تلك العلاقة. وقد ساهمت تقنية الحمض النووي في تبرئة العشرات من المحكومين بالسجن المؤبد في جرائم الاغتصاب والقتل بالولايات المتحدة بعد أن قضوا مدة طويلة في السجن، والذين أدينوا في تسعينيات القرن الماضي بناء فقط على أقوال الشهود، عندما لم تكن تقنية تحليل الحمض النووي متوفرة بعدُ. المغرب يتوفر على مختبر للشرطة العلمية يقوم بمثل هذه التحاليل التي تخص القضايا الجنائية. وقد أحالت عليه استئنافية مكناس في 2007 قضية أعطوش وأوساي طالبة منه أمرين اثنين:
ـ تحليل مسرح الجريمة لمعرفة هل توجد به بصمات ADN للظنينيْن أعطوش وأوساي، مما قد يكون دليلا على تواجدهما بمكان الجريمة، وهو ما سيكذّب تصريحهما بأنهما لا يعرفان حتى ذلك المكان الذي وقعت فيه الجريمة.
ـ تحليل ملابس أوساي، التي كانت تحمل بقعا من الدم، لمعرفة هل بها بصمات ADN للضحية، مما سيؤكد أن المتهم قد التقى بشكل فيزيقي مباشر مع الضحية عكس تصريحاته التي نفى فيها حتى معرفته بالقتيل.
وقد جاء جواب المختبر، كما في تقريره الأصلي المحرر بالفرنسية، كالتالي:
ـ في ما يخص السؤال الأول:
أ ـ يوجد حمض نووي للضحية (شيء بديهي)
ب ـ لا يوجد أي حمض نووي للظنينيْن أعطوش وأوساي.
وتجدر الإشارة إلى أنه حتى لو عُثر على الحمض النووي للمتهم، فهذا لا يعني بالضرورة أنه الفاعل، لكن ذلك سيكون قرينة قوية على تورّطه، ما لم يقدم هو نفسه الدليل المقنع عن تواجد حمضه النووي بمسرح الجريمة دون أن يكون لذلك التواجد علاقة بتلك الجريمة.
ج ـ أما الضربة “القاضية” على كل شك في براءة المتهميْن فهي العثور على حمض نووي ثالث، أي ليس للضحية ولا للمتهميْن، وإنما هو لمجهول. فالمفترض إذن أن صاحب هذا الحمض النووي هو القاتل، إلا إذا أثبت هو نفسه أن حمضه النووي الموجود بمسرح الجريمة لا علاقة له بتلك الجريمة.
ـ في ما يخص السؤال الثاني، جاء الجواب كما يلي:
لا توجد بأغراض وملابس أوساي أية بصمة للحمض النووي للضحية. وهو ما يؤكد تصريحات الأول بأنه لا يعرف الضحية ولم يلتق به.
خطأ أم خطيئة؟
بعد هذه الأدلة العلمية القاطعة، التي تنفي وجود أية علاقة بين المتهميْن والجريمة، كان المنتظر أن يصدر قرار بعدم المتابعة ودون إحالة القضية أصلا على غرفة الجنايات. أما إدانتهما، انتهائيا، بعشر سنوات سجنا نافذا، فهو شيء يتجاوز الخطأ القضائي ليصبح خطيئة في حق العدل والقانون أولا، قبل المتهميْن أعطوش وأوساي.
ولا يجب أن يُفهم من هذا الكلام أن مثل هذه الأخطاء أو الخطايا هي خاصة بالمغرب، أو فقط بالدول التي تغيب فيها الديموقراطية وتنتهك بها حقوق الإنسان. فسجّل القضاء في أعتى الدول الديموقراطية لا يخلو من انتهاك لمبادئ العدل والقانون. فقضية الضابط في الجيش الفرنسي، “ألفريد دريفوس”Alfred Dreyfus، الذي حوكم في 1894 بتهمة الخيانة العظمي لأسباب عنصرية مرتبطة بالعداء للسامية باعتباره فرنسيا يهوديا، معروفة كإحدى النقط السوداء في أرشيف القضاء الفرنسي. وقضية المغربي عمر الردّاد المتهم في 1991 يقتل مشغلته غزلان مارشال، والذي أدانته محكمة فرنسية بـ18 سنة سجنا نافذا قبل أن يستفيد من عفو الرئيس الفرنسي شيراك في 1998، يعتبرها رجال القانون الفرنسيون الذين تابعوا هذا الملف، وصمة عار للقضاء الفرنسي، وتشكّل مجزرة حقيقية في حق العدل والقانون، لانتفاء أبسط شروط التحقيق النزيه والمحاكمة العادلة. ورغم كل هذا الذي يرتكبه القضاء الفرنسي، من حين للآخر، من أخطاء قاتلة، وما يصدره من أحكام ظالمة، فلا يمكن الحكم عليه بأنه فاسد وغير نزيه وغير مستقل. أما في الولايات المتحدة فحدث ولا حرج عما يرتكب في حق العدل والقانون من انتهاكات وخروقات تنتج عنها أحكام قضائية جائرة، تتمثل في إدانة أبرياء بسنوات تصل إلى المؤبد، قبل أن يُبرأ المحظوظون منهم بظهور أدلة جديدة لصالهم، أو إلقاء القبض صدفة على الجاني الحقيقي. هذا الانتهاك المتواتر لمبادئ العدل والقانون، في الولايات المتحدة، كان وراء تأسيس مجموعة من المحامين، في 1992، لمنظمة “مشروع براءة” (innocence project) الذي يدافع عن ضحايا الأخطاء القضائية. ورغم كثرة هذه الأخطاء القضائية التي تدين أبرياء، فلا أحد يقول إن الولايات المتحدة ليست بلدا ديموقراطيا، أو أنها تنتهك حقوق الإنسان وتقمع حرية الرأي والتعبير.
ذكّرنا بهذه المعطيات حتى لا يؤول كلامنا حول ما تعرّض له أعطوش وأوساي من ظلم العدل بأنه انتقاص من القضاء المغربي وتحقير له. وقد سبق للدولة نفسها أن اعترفت ضمنيا أن القضاء المغربي أدخل العديد من الأبرياء إلى السجن، عندما دفعت تعويضات لضحايا سنوات الرصاص ممن حوكموا بملفات مفبركة وتهم ملفقة، كما في إدانة المفكر الأمازيغي المرحوم علي صدقي أزايكو في 1982، ومعتقلي فاتح ماي 1994 من النشطاء الأمازيغيين لجمعية “تيليلي” بكولميمة. فهؤلاء حوكموا وصدرت في حقهم إدانة بالحبس. ولو تجرأ صحفي وكتب في ذلك الوقت بأن القضاة الذين حكموا على هؤلاء كانوا ظالمين لهم، ربما لتوبع بتهمة القذف في المجالس القضائية. لكن بعد أن اعترفت الدولة، من خلال دفعها تعويضات، بانتهاكها لحقوق هؤلاء المدافعين عن الأمازيغية بسجنهم عبر محاكمات مسرحية كان الهدف منها محاكمة الأمازيغية وإسكات المدافعين عنها، فإنها تعترف ضمنيا أن القضاء الذي حاكم هؤلاء كان قضاء غير نزيه وغير موضوعي وغير مستقل. ويمكن أن نتصور أنه سيأتي وقت تعترف فيه الدولة نفسها، على غرار ما فعلت مع المرحوم أزايكو ومعتقلي “تيليلي”، بأن إدانة أعطوش وأوساي بنيت على ملف مفبرك كانت تحرّكه خلفيات أمازيغوفوبية، وستمنح لهما تعويضات اعترافا منها بخطأ محاكمتهما وسجنهما. وبذلك ستطعن ضمنيا في القضاء الذي حكم عليهما كما سبق أن طعنت ضمنيا في القضاء الذي حكم على أزايكو ومعتقلي “تيليلي” عندما اعترفت، من خلال ما صرفته لهم من تعويضات مالية، أن محاكمتهم كانت ظلما وشططا.
فما حصل في هذا الملف ـ لأعطوش وأوساي ـ هو أن التحقيق سار منذ البداية، وبإصرار وتصميم، في اتجاه توريط المتهميْن. فلم يكن الهدف هو الكشف عن الحقيقة والوصول إلى الجاني الحقيقي، وإنما كان الهدف هو إدانة أعطوش وأوساي. وهذا ما يعرف بالتحقيق الاتهامي Instruction à charge. ولهذا سار هذا التحقيق كما قررته وأرادته ورسمته محاضر الشرطة القضائية، التي صرّح المتهمان بأنهما أجبرا على التوقيع عليها تحت التعذيب، والتمسا من الوكيل العام وقاضي التحقيق عرضهما على الطبيب لإثبات واقعة التعذيب فرفضا، كما قدّما في ما بعد شكاية رسمية إلى وزارة العدل بخصوص هذا التعذيب، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وكل الإجراءات التي تلت محاضر الشرطة كانت لتأكيد تلك المحاضر، وبناء كل الملف عليها. ولهذا تحوّلت النيابة العامة، كما وصفها بحق مصطفى أوساي (صفحة 31)، إلى نيابة خاصة لها مهمة خاصة ولا تنوب عن الحق العام، حق الجميع. فكانت النتيجة ظلما بيّنا للعدل المنتظر منه رفع الظلم، قبل أن يكون ذلك ظلما للضحية، ولأعطوش وأوساي اللذيْن قضيا أهم مرحلة من شبابهما وراء القضبان من أجل جرم لم يقترفاه، كما أثبتت التحليلات العلمية لمسرح الجريمة. وهذا ما يطرح أسئلة مربكة عن خلفية هذه الإدانة، ولمصلحة من تمّ الزج بهما في السجن.
التعليقات مغلقة.