قراءة في رواية “كارافان، جوج كلاب وبلان” لعبد الرحيم أولمصطفى.

أزول بريس- امبارك السعداني//
تمهيد
رواية “كارفان، جوج كلاب وبلان” للكاتب المغربي المقيم في الديار الألمانية عبد الرحيم أولمصطفى خريج المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط شعبة فن التشخيص. أكمل دراساته العليا في ألمانيا حيث يعمل حاليا خبيرا مختصا في مجال البيداغوجية الاجتماعية والتربية الفنية، بالإضافة لاهتمامه بالكتابة والترجمة.
تعد هذه الرواية أول عمل مطبوع له. وقد صدرت في طبعتها الأولى في أكتوبر 2020 بالرباط في طبعة أنيقة من حجم كتاب الجيب. وكتب توطئتها الدكتور أحمد بدري. كما تولى الأستاذ المصطفى السهلي مهمة كتابة تقديم لها. والرواية مكتوبة باللغة الدارجة المغربية. وهي تجربة إبداعية، اختارت السباحة خلافا للمعهود والمألوف، فلا غرو أنها ستثير عدة تساؤلات وقضايا للحوار والنقاش.
لقد كانت الفكرة في منطلقها عبارة عن مسامرات فايسبوكية أقصى طموحها حصد بعض علامات الإعجاب فقط. لكنها لما دخلت رياض الأدب من باب الاشتغال على الأنساق اللغوية والتيماتيكية والجمالية من جهة، وباب الطبع والنشر والتوزيع من جهة أخرى، أصبحت مسألة التلقي مطروحة بحدة. إن كتابة الرواية بالدارجة المغربية قلصت من إمكانية الرهان على الجمهور العربي الواسع. خصوصا إذا استحضرنا شكوى عرب المشرق العربي من صعوبة الدارجة المغربية عند احتكاكهم بها في السينما والغناء.. مع العلم بأن الدارجة المغربية، كما هو ملاحظ، من أقرب اللغات الدارجة إلى اللغة العربية الفصيحة.
المتن الحكائي للرواية
تدور احداث الرواية حول شخصية فتيحة\فاتي البالغة من العمر24 عاما. تعيش بين ماربيا وتطوان. ولدت لأم عازبة تخلت عنها خوفا من الفضيحة وتركت معها صورتين كدليل على العلاقة التي تربط بينهما. تربت فتيحة في بيت امرأة واقعية متفتحة (عقلية أروبية) ، أحبتها كأنها من صلبها. ولما بلغت أربعة عشر عاما قررت الذهاب إلى إسبانيا بحثا عن أمها. وضعت الاسبانية ماريا خطة محكمة هربتها بها إلى إسبانيا، وهناك يسرت لها سبل الاندماج في المجتمع الاسباني بمنحها هوية جديدة بأوراق ثبوتية مزورة أصبحت بموجبها فاتي اليستيزار ابنة ماريا. اندمجت فاتي في المجتمع الإسباني، هناك تعرفت على شخصيات ربطتها بهم علاقات العمل ،الحب، الحس الإنساني العميق، والفن(الفلامنكو) …في خضم ذلك تعرفت على حقيقة المجتمع الإسباني وما يعج به من تناقضات سياسية واجتماعية وعرقية… وكانت أينما حلت بذرت الخير والحب والفن والجمال وعمق العلاقات الإنسانية. بهذه القيم النبيلة جمعت حولها جماعة متنوعة الأعراق من مناطق مختلفة من العالم توحدهم الهوية الإنسانية.
الأنساق السيميائية في الرواية :
تهتم السيميائيات بدراسة العلامة لغوية كانت أو غير لغوية، والعلاقات التي تربط بينها لتنتظم على شكل زمر كل زمرة تتعالق في ما بينها لتكون نسقا منه ينبثق المعنى؛ ف” النسق، باعتباره الأساس الذي تسند إليه الدلالة، يمكن وصفه ( وبالتالي مأسسته) على شكل حقول ومحاور جزئية”
– 1- نسق الحطات:
يتكون بناء هذه الرواية من إحدى وثلاثين (حطة) كل واحدة منها تنفرد بعنوانها الخاص. تولدت فكرة الرواية في أحضان وسائل التواصل الاجتماعي انطلاقا من صورة للفنانة المغربية (فريدة البوعزاوي) التي دأبت خلال مرحلة الحجر الصحي على عرض صور لها تمثل شخصيات مختلفة وذلك بتغيير الماكياج واللباس…هذا ما صرح به الروائي . وهوما أكده الأستاذ السهلي المصطفى في تقديمه للرواية، يقول: “إن نسج حكاية مثيرة انطلاقا من صورة جامدة لوجه صامت، من خلال استقراء ملامحه، واستنطاق تفاصيله، وسبر أغوار نفسيته، تقنية تحتاج، بالتأكيد، إلى دربة ومهارة عاليتين، ودراسة معمقة لآليات اشتغال هذه التقنية، وخبرة في الحياة واسعة، ومخيال فاعل يستطيع توليد الحكايات، وبناء الشخصيات، وخلق التفاعل الوجداني بينها، وتحريكها في فضاء يستلهم الواقع، لتكتسب الحكاية فيه مشروعيتها، وتستمد منه مصداقيتها…” . هكذا كان منشأ الرواية من صورة جامدة مغلقة لتتحول إلى قصة متحركة منفتحة على كل الاحتمالات..
-2- الأنساق الدلالية:
تطرح الرواية من حيث القضايا والتيمات عدة أنساق يمكن حصر أهمها في ما يلي:
نسق الهوية:
” إن الموضوع المركزي للرواية هو أزمة الهوية.” تبلور سؤال الهوية على مستوى الأحداث عندما بلغت فتيحة أربع عشرة سنة فسألت “شكون أنا.. وشكون هما واليديا؟” (ص15). من أنا ومن هما والداي؟. هذا السؤال بدأ بسيطا من خلال بحث الشخصية الرئيسية عن أمها، وهو الحافز الذي انطلقت منه أحداث الرواية، لكنه اتخذ أبعادا أعمق حين تحولت الشخصية الرئيسية إلى محيط وبيئة مختلفين تغير فيهما مفهوم الهوية، فهي ليست أوراق ثبوتية تحمل اسما ومعلومات معينة تحدد الاسم ومسقط الرأس…فقد أحرقت أوراقا واستبدلت بها أخرى. فالهوية ليست تلك الأوراق بالرغم من أهميتها. فقد سمحت لها تلك الأوراق بالعيش مطمئنة في وسط جديد. بيد أنها اكتشفت أن الهوية المنغلقة التي هاجرت باحثة عنها ليست هي جوهر الهوية، فأضحى البحث عن حقيقة الذات هو المبتغى ” فاش خرجت من تطوان بغيت نعرف ماما شكون..ودابا بغيت نلقى شكون أنا..”(ص60). هذا السؤال العميق ينم عن تطور في وعي الذات بعمق الوجود الإنساني، وليست الهوية هي انتماء لمكان أو سلالة،” الانتماء هو فين كانلقاو راسنا ” (ص73). هذا الفهم الموسع للهوية سيحرر طاقاتها وتقبل بالتعايش مع الآخر في سلام تحت شعار هوية إنسانية ملؤها الحب والخير والجمال ” ولينا عائلة كبيرة ومنساجمة…” (ص 104). هذا الفهم العميق للهوية سيجسده ثيو الذي تخلى عن أفكاره المتطرفة وارتبط بفاتي الإنسانة ” أنا فتيحة وفاتي وكل السميات .. أنا الخيطانو والجبلية ومن كل الجهات ..” (ص 140). بهذا الفهم المنفتح للهوية يحفظ الإنسان كرامته ويصبح مصيره بين يديه ” والأرض أرض وحدة هيا.. ماكاينش فرق بين اللي راسنا فيها انزل، ولا اللي مكتابنا بينا ليها رحل.. حنا سياد راسنا..ومكتابنا إلا عواج بيدينا يتعدل..” (ص 149). هكذا تمكنت الشخصية المحورية من الانفلات من شرنقة هوية محدودة منغلقة، متقوقعة حول الذات إلى هوية منفتحة تسع الجميع أساسها الإنسان وقيمها الخير والحب والجمال.
نسق العلاقة بين الشرق و الغرب:
من القضايا الإشكالية التي طرحت في الفكر العربي علاقة الشرق بالغرب، وقد تمظهرت في أسئلة لخصها سؤال إشكالي هو، لماذا تقدم الغرب وتخلفنا؟ اختلفت المقاربات وتعددت الأجوبة… “هذه العلاقة التي طالما أقلقت الكتاب منذ أن طرحها توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق»، وسهيل إدريس في «الحي اللاتيني»، والطيب صالح في «موسم الهجرة للشمال».. وغيرها من الروايات ” ، ظلت تحكمها ثنائية (الشر ق # الغرب) وما ينتج عنها من صراع وتصادم، كرس ظهور نسق من الثنائيات التي تعكس العلاقة المضطربة بين الطرفين:
(الأنا # الآخر-الأصالة # المعاصرة- التخلف # التقدم – المقدس # المدنس – السماء# الأرض) هذه الثنائيات أفرزت مواقف من الغرب يمكن تلخيصها في ما يلي:
– الرفض المطلق للغرب واعتباره عدوا ومن ثم رفض حضارته والانكفاء إلى الماضي والتقوقع حول الذات واعتبار حل مشاكل التخلف هو إعادة إنتاج الماضي…
– الانفتاح على الغرب واستنساخ نموذجه الحضاري وقطع الصلة بالماضي باعتباره سببا في التخلف…
– التوفيق بين الموقفين السابقين والجمع بين الأصالة والمعاصرة…
هذه الرواية لا تنظر إلى العلاقة بين الغرب والشرق من منظار الصراع والتباين. بل لا تطرح الإشكال أصلا. وخير من مثل هذه النظرة الجديدة التي لا تكرس النظرة التقليدية هي شخصية فتيحة التي أضحت فاتي دون أن تتخلى عن ارتباطها بأصلها ( تعيش بين تطوان وماربيا). وهي امتداد للجيل الذي تأثر بالحضارة الغربية وأصبح يسلك في حياته اليومية نهج الغرب. فالمرأة التي تربت في كنفها (عايشة كاورية) (ص17) متشبعة بقيم العصر التي ليست غربية إنما هي امتداد للمشروع الذي بدأ في الأندلس، لكنه لم يكتمل، هو مشروع أساسه التعايش والتساكن، لا فرق فيه بين تطوان وماربيا. ولاأهمية فيه للهوية بمفهومها الضيق المنحصر في أوراق (إحراق فتيحة لأوراق هويتها الأولى ). هذه العلاقة الجديدة التي ليست سوى الامتداد الطبيعي لما كانت ستنتجه حضارة الأندلس لولا طغيان العقلية الإقصائية والاستئصالية . الإنسان هو المهم والباقي وثائق يصنعها الإنسان تفرق أكثر مما تؤلف ” وفاش ساليت لقيت راسي وبلا ما نشعر.. صانعة ليا تاريخ وهوية.. خلقت ليا تعريف من الوثيقة دالمجمع والمركز.. وزدت عليهوم طرف مني أنا.. وواخا عارفاهم كذوب.. صدقتهوم وحسيت براسي مرتاحة.. والسميات والوثائق ما هي إلا حروف وأرقام.. والانتماء هو فين كانلقاو راسنا” (ص73). هكذا تسقط الحدود بين الشرق والغرب المنغلقين، ليحل مكانهما الانتماء إلى مكان ليست له حدود، منفتح أمام إرادة الإنسان يختاره بناء على قناعة ذاتية وليس مفروضا عليه. فالغرب انطلاقا من هذا التصور يشبه الشرق والشرق يشبه الغرب ومقولة (الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا ابدا) لم يعد لها وجود لأن الإنسان هو الأنسان أينما كان، يعيش المشاكل نفسها وله الأحلام ذاتها… توحده مشاهدة مباراة في كرة القدم ، أو لحن موسيقي لرقصة الفلامنكو ،أو مشاعر حزينة على كانيش فارق الحياة، أو عمل مشترك ليس فيه سيد ولا عبد…
لقد تجسد سقوط الحدود الوهمية بين الشرق والغرب في العلاقة بين فاتي أو فتيحة وثيو التي توجت برابط قوي هوالزواج الذي سيسفرعن مولود شرعي يجسد العلاقة الإنسانية الجديدة المبنية، لا على الهوية الضيقة المنغلقة، بل على القيم الإنسانية التي تسع الجميع والمنفتحة على قيم الخير والحب والجمال.
نسق المرأة:
قدمت الرواية المرأة في صور متعددة في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط وفي ضفته الشمالية. وفي كلا المكانين عانت من الاضطهاد الذي يمارسه المجتمع المتسلح بعقلية ذكورية متجبرة تنظر إليها نظرة دونية. إن فتيحة ولدت من علاقة غير شرعية بين طرفين، طرف (ذكر) لا يُعرف عنه أي شيء لأنه غير مسؤول، يبرئه المجتمع ويعتبر ما قام من الهوامش المباحة التي يتيحها له كونه ينتمي لجنس الذكور. وطرف ثان هو المرأة التي تتحمل كل تبعات تلك العلاقة غير الشرعية. وهذا ما جعلها تتخلى عن فلذة كبدها وتهاجر إلى إسبانيا هربا من الفضيحة التي يعاقب عليها المجتمع والقانون. تستمر وضعية اضطهاد المرأة في الضفة الشمالية للمتوسط، حيث تعاني النساء العاملات في القطاع الفلاحي من ظلم رب العمل الذي يستغل وضعيتهن ليفرض عليهن وضعا أقل ما يقال عنه إنه محط بالكرامة ومزر بوضعية الإنسان.
هذه الوضعية لن تستمر لأن المرأة لها من القدرات والطاقات ما يعينها على رفض ذلك الواقع وإظهار ما تختزنه من قيم إنسانية نبيلة تستطيع بواسطتها أن تكون محورا يستقطب كل الناس ليعيشوا تحت مظلة الخير والحب والجمال…وقد تمثل هذا النموذج في شخصية فتيحة التي تمثل جيلا من النساء الواعيات والقادرات على خوض معركة تحدى كل ما يحط من كرامتهن. فهي، بعكس الأخريات اللائي التجأن إلى إسبانيا هربا من الفضيحة، ظلت متحكمة في مشاعرها ولم تسلم نفسها لمن أحبته إلا بعد الزواج.
فتيحة \فاتي “امرأة جديدة” سليلة هوية إنسانية لا تؤمن بالحدود، لا شرقية ولا غربية ، شجرة وارفة الظلال استطاعت أن تجمع حولها نساء ورجالا من جنسيات مختلفة تربط بينهم لحمة القيم الكونية المنفتحة المنسجمة مع اسمها (فتيحة)، بعيدا عن كل تعصب لمعتقد أو انتماء ضيق مغلق، تحب الجميع وتتعاطف مع المضطهدين المظلومين .. ليست ملاكا ولا قديسة تخطئ ككل الناس ولكنها ذات قلب كبير منفتح يسع الجميع. إنها الأم الحنون، التي جاءت تبحث عنها، التي تجمع ولا تفرق بالرغم صغر سنها(24عاما)…”كانو جوج فراقي وأنا الوسط .. لطرف أنا فاتي ولطرف فتيحة… ووخا هكداك حسيت براسي أنا واحدة، وفدات وحدة مجموعة .. أنا اللي كان سعدي في الكنيسة وفرحي فراس الصمعة…”( ص162) .
خاتمة
لقد نجحت هذه الرواية في كسب رهانها الصعب، وذلك بتطويع الدارجة المغربية للتعبير عن قضايا إنسانية عميقة تعكس رؤية جديدة للوجود والإنسان والهوية. وقد تولدت هذه النظر من خلال أفكار جيل جديد لا يتمثل العالم وفق ثنائيات ضدية تكرس الصراع والتنافر، بل يرى العالم مكانا واحدا للتساكن والتعايش يوجد فيه الإنسان بغض النظر عن جنسه ولغته وأصله، يعيش تحت مظلة وارفة تعلي من شأن الإنسان المومن بقيم الخير والحب والجمال كمرتكزات قوية للهوية الإنسانية المنفتحة والمرنة والتي تجمع ولا تفرق وتبني ولا تهدم.
هوامش الموضوع
===========
1- أمبيرطو إيكو :العلامة تحليل المفهوم وتاريخه ،ترجمة سعيد بنكراك ،منشورات المركز الثقافي العربي ط\2.-2010. (ص175)
2- حوار أجرته شيماء با حسين مع عبد الرحيم أولمصطفى على أمواج إذاعة ميدي 1 في برنامج (الثقافة على ميدي 1) يوم26-02-2021
3-عبد الرحيم أولمصطفى رواية (كارافان، جوج كلاب وبلان) ، مطبعة لينا الرباط .الطبعة الأولى 2020(ص09)
4- د .أحمد بدري في توطئته للرواية (ص6)
5- د حفيظة أحمد جريدة الدستور(عمان) (جدلية العلاقة بين الشرق والغرب…) الجمعة 18 مارس 2016
6- ا.د .علي المرهج ( العلاقة بين الشرق والغرب…حوار أم صراع) .صحيفة المثقف(نسخة اليكترونية) .عدد 5320 المصادف الثلاثاء 30 مارس 2021.
تارودانت: 8 مارس 2021

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد