في وداع دييغو مارادونا: الملهم.(4).

أزول بريس – د.محمد همام //
أعتقد أنني وضحت بما يكفي أن مارادونا لم يكن لاعب كرة وحسب، بل كان مكافحا داخل الميادين وخارجها. كان أيقونة بالفعل، بل قديسا عند عشاقه ومحبيه؛ لذلك سموا كنيسة باسمه في نابولي وفي بوينس أيرس. كان جمعا في صيغة مفرد. قاد منتخبا أرجنتينيا 1986، محدود الإمكانيات، وبكادر شبابي غير متمرس جدا. وكان قائدا قادرا على بث روح جديدة في المجموعة. وكان وراءه جمهور أرجنتيني حديث التخلص من حكم العسكر، ويبحث عن عنوان للتحول السياسي، فكان العنوان: دييغو أرموندو مارادونا. وأعتقد أن بحث زملائنا في العلوم السياسية في هذه المرحلة من التاريخ السياسي للأرجنتين سيفيدنا كثيرا، خصوصا في رصد أدوار الرموز الرياضية في دعم حراك الجماهير. والحقيقة أن الرياضة، وكرة القدم على الخصوص، كانت أداة صراع سياسي ومازالت، على النفوذ وعلى المجالات الحيوية السياسية، بين حركة الجماهير والقوى السياسية، اليسارية على الخصوص، و بين سلطة الأنظمة الديكتاتورية، في عموم أمريكا اللاتينية. تشرب مارادونا في هذا السياق حب كرة القدم، وهي التي كانت خبزا للفقراء؛ فيها يروون عطشهم، ويحققون وجودهم، ويكسبون الثقة في أنفسهم، في ضواحي مدينة بوينس أيرس، مدينة التناقضات الطبقية والاجتماعية الفاحشة. وكانت كرة القدم، في أمريكا اللاتينية عموما، ومازالت صيحة الفقراء، وتحديهم لكل التفاوتات، ولكل ممارسات الاستبعاد الاجتماعي التي تتعرض لها طبقاتهم وأسرهم ومحيطهم. لذلك كان الفرح عند الانتصار بلاحدود، والحزن والألم والبكاء بلاحدود عند الهزيمة. وبالمناسبة كان دييغو شديد الفرح والاحتفال عند النصر، وكان بكاء رقيقا عند الهزيمة، ولو كان هو رجل المقابلة.( Man of Match). لقد علم مارادونا الشباب الاتقان في العمل، والمسؤولية في الأداء، والاستغراق في المبدأ. إن ممارسة الكرة عند دييغو عبادة، تقتضي التركيز والتدقيق والخشوع. لقد استطاع مارادونا تركيب كيمياء جديدة في لعب كرة القدم، تقوم على التوليد والإبداع، خارج النمط الميكانيكي لخطط التدريب. وقد حكى مدربه في المنتخب الأرجنتيني ( بلاردو) أن مارادونا لم يكن يحتاج إلى كثير كلام، أو إلى كثير تعليمات. ولم يكن بيلاردو قادرا على توقع مجريات المباراة، لأن مارادونا كان قادرا على التعامل مع كل لحظاتها بطرق مناسبة، مهما كانت الظروف صعبة؛ أنظروا مثلا إلى طريقة تصرفه بعد تسجيل المهاجم الألماني (فولير) هدف التعادل في المباراة النهائية لكأس العالم1986، مع وجود مارادونا، تحت حراسة لصيقة من النجم الألماني ماتيوس كما ذكرنا سلفا. ولكن المقابلة حسمت لفائدة الأرجنتين بقدم مارادونا عبر تمريرة سحرية ، لم يراها أحد، في اتجاه النجم الأرجنتيني (بوروشاغا) فأهدى الكأس للأرجنتين في اللحظات الأخيرة من المباراة.
إن ممارسة كرة القدم عند مارادونا أسست لمدرسة جديدة، هي امتداد لمدرسة الصامبا البرازيلية، قبل أن يفسدها المال والتلاعبات والاحتراف في أوروبا، من خلال تفكيك البعد الهوياتي والثقافي للاعبين، ودمجهم داخل فريق على شكل معمل، كما عبر عنه الفنان الكوميدي الإنجليزي ( تشارلي تشابلن) Charlie Chaplin (1889-1977)، في فيلم ( الأزمنة الحديثة) Modern Times، سنة 1936 . مدرسة مارادونا جمعت بين المتعة وبين الجدية، وكأني به استفاد من أخطاء فريق البرازيل 1982؛ فريق اجتمعت فيه مواهب كبيرة: زيكو، وسقراطيس، وجونيور، وسيرجينيو، وإيدير، وخوليو سيزار، وإزيدورو… وقد لقب بأحسن فريق في تاريخ نهائيات كأس العالم لم يفز بالبطولة!! هذه المتعة هي التي كافح من أجلها مارادونا في مسيرته الاحترافية في أوروبا. ورفض عمليات ( تسليع) اللاعبين المحترفين، وعارض بنمط لعبه نموذج ( اللاعب الٱلي) الذي تريده النوادي الأوروبية، ذات الأهداف التجارية والتسويقية، وكان مارادونا، على العكس من ذلك، يمثل نموذج ( اللاعب النقدي)، صاحب الموقف، وصاحب حرية التصرف داخل الملعب، وصاحب حق اللاعب في الإبداع والتوليد أثناء المقابلة. ووقف في وجه الرشاوى التي عرفت بها بعض المقابلات في الدوري الإيطالي. ولم يفرط في روحه الجنوبية الأصلية، وهو يلعب في جنوب إيطاليا. وكان بالفعل صوتا للجنوب الايطالي، عبر فريق نابولي، جنوب إيطالي مهمش وفقير. كما لم يفرط في تقنياته الكروية التي استصحبها معه من أحياء بوينس أيرس، ولم يفرط في العلاقات الحميمية الإنسانية بين اللاعبين. وكان صوتا مدافعا عن اللاعبين المحترفين من خارج أوروبا.
أدخل مارادونا إلى ملاعب أوروبا مايسمى ب( الأسلوب الحر) (Free Style) في اللعب؛ وفيه يبرز الجانب الإبداعي للاعب. لذا مع مارادونا أصبحنا نرى لاعبا واحدا يراوغ فريقا بكامله، و يسجل بأشكال متعددة، ويمرر بطرق مختلفة. هذا الأسلوب الحر لمارادونا، مع امتلاكه لرجل يسرى لم تعرفها ميادين أوروبا، عرضه لعنف شديد من اللاعبين الأوروبيين!! وكان ضحية عنف لفظي وجسدي في جل المقابلات. وكل هذا يثبت أن لاعبي العالم الثالث جاؤوا إلى أوروبا بفنياتهم وإبداعهم، وقوبلوا بالعنف من اللاعبين الأوروبيين، ومن الجمهور أيضا. وقد كان الروائي والناقد والصحفي الإنجليزي جورج اورويل George Orwell ( 1903-1950)، صريحا في مقالته الشهيرة: (الروح الرياضية) The Sporting Spirit، عندما اعتبر ممارسة كرة القدم في أوروبا مجالا لإنتاج مشاعر الحسد والكراهية، خصوصا ضد الخارجين عن النمط الرأسمالي؛ أي المنحدرين من المعسكر الشرقي، في خضم الحرب الباردة. فقد كتب جورج أورويل مقالته سنة 1945، عن زيارة فريق دينمو موسكو لبريطانيا، وإجرائه لعدة مقابلات مع الفرق الإنجليزية: أرسنال، وكارديف سيتي، ورينجرز، وتشيلسي، أمام أكثر من ربع مليون متفرج. ولاحظ جورج اورويل، من موقع الصحفي والناقد الرياضي، أنه بالرغم من الأداء القوي للفريق ( السوفياتي)، وانتصاراته الكبيرة، خصوصا أمام أرسنال (وهو من الفرق التي تمثل الهوية الإنجليزية!)، ثم لم ينهزم دينمو موسكو في أية مباراة، بالرغم من كل ذلك تعرض لصيحات الجماهير الإنحليزية، وتعرض لاعبوه لاعتداءات، ووقعت احتكاكات بين الجماهير. يستنتج اورويل من هذا أن كرة القدم نشأت في سياق حرب باردة، وفي سياق عنيف تشكلت معالمه الأولى في أوروبا الرأسمالية. وظل الفضاء الرياضي الرأسمالي الأوروبي غير متسامح مع لاعبين يفكرون من خارج نسقه الفكري. ولايتم الاحتفاء إلا بلاعبيين ٱليين لاهوية لهم. لذلك حرم مارادونا من جوائز كثيرة، وتعرض لإهانات كثيرة. ولما تأكد الوسط الرياضي الرأسمالي من نزعاته اليسارية، من خلال علاقاته برموز اليسار في العالم، وخاصة القوى السياسية في امريكا الاتينية؛ في كوبا، وفي فنزويلا، وفي بولوفيا، واستحضاره شخصية مواطنه تشي غيفارة(1928-1967)، ومن خلال تعاطفه الإنساني مع قضايا الشعوب المضطهدة والمحتلة، وخاصة الشعب الفلسطيني، ومعارضته الحرب على العراق، ونزوله إلى الشوارع في الأرجنتين مع حركات اليسار لمعارضة زيارة جورج بوش للأرجنتين، ومعارضة السياسة الأمريكية؛ جعلها الإعلام الرأسمالي صكوك اتهام في حق مارادونا، ينبغي أن يؤدي ثمنها، بتلويث سمعته، وتصيد سلوكاته الشخصية، وترويج الإشاعات حوله، حتى لايتذكر الشباب الذين لم يروه في الملاعب، إلا مدمنا ضخم الجثة!!! نعم مارادونا قد يكون خالف القانون، هنا وهناك، كما قال الأستاذ محمد الإبراهيمي في مقالته: Maradona, The True Iconoclast، ولكن الأكيد أنه وافق التاريخ، وكان إلى جانب المستضعفين.
رحمه الله وتجاوز عنه، وإنا لله وإنا إليه راجعون
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد