في وداع الأستاذ محمد وقيدي // الجيل الفريد: من ضيق الأيديولوجيا إلى سعة الإبستمولوجيا (4)

د. محمد هُمام – أستاذ بجامعة ابن زهر/ أكادير//

لقد لعب الأستاذ وقيدي دورا أساسيا في نقل النقاش الإبستمولوجي في الجامعات الأوروبية، فرنسا أولا، وألمانيا ثانيا، إلى أروقة الجامعة المغربية؛ مثل قضايا المنهج والميتافيزيقا، عبر بوابة المتن الباشلاري. مع سبق في الانفتاح على المتن الكانطي في قضايا: العقل، والمعرفة، والفهم. فقد لخص في كتابه نظرية المعرفة عند كانط، والعلاقة بينها وبين النظرية الديكارتية، ثم قدم الخطوط العامة للمشروع المعرفي عند كانط، وهو مشروع يتمحور حول العلم والميتافيزيقا على أرضية العقل الإنساني. لذلك كان العمل النقدي لكانط متجها رأسا إلى العقل؛ هذا العقل الذي نجح على مستوى العلم، لكنه مازال يتخبط على مستوى الميتافيزيقا. (لقد اعتمد الأستاذ وقيدي على الطبعة الفرنسية لكتاب كانط: نقد العقل الخالص) وقد سار على نهج عموم الأساتذة الباحثين المغاربة في الإبستمولوجيا، وهو التعرف على الفكر الفلسفي الألماني عبر (البوابة الفرنسية)، وهو في حد ذاته إشكال معرفي ومنهجي، بل وإبستمولوجي، وعائق إبستمولوجي، خصوصا من الوجهة اللغوية،
أو ما يسميه باشلار نفسه ب: (العائق اللغوي). على أي، كان المتن الكانطي رافدا جديدا في الدرس الإبستمولوجي بالجامعة المغربية؛ فقد أتاح الفرصة للدرس الجامعي المغربي للبحث في مصادر المعرفة، وقابلية الفكر للتلقي، أي الحساسية الفكرية؛ أي القدرة على تلقي التمثلات، أو (قابلية الانطباعات)، ثم القدرة على التفكير في موضوع ما بواسطة هذه التمثلات، أي: (تلقائية التصورات). وعلاقة الحواس بالزمان والمكان، في إطار ما يسميه كانط ب: (الظاهرة)، وقضايا (الفهم) من حيث وظيفته، ودور التصورات القبلية الخالصة في إنتاج الفهم، وعلاقة المقولات بموضوعات التجربة، وحدود المعرفة البشرية. وعقد الأستاذ وقيدي مقارنة دقيقة بين الإبستمولوجيا الكنطية والإبستمولوجيا المعاصرة. وبرغم إقراره بأهمية المجهود الكانطي، وهو الذي كان هدفه الأكبر هو الرغبة في ايجاد حل لمسألة المعرفة وحسم الخلاف فيها، فقد كان يريد إقامة نظرية عامة عن المعرفة، وهو ما يجعل هذا المجهود مختلفا عما تسعى إلى إنجازه الإبستمولوجيا، ضمن مهامها الأساسية، بنظر الأستاذ وقيدي. وهذا التوجه الكانطي هو الذي سار فيه الأستاذ الجابري، كما سيظهر في كتبه اللاحقة، خصوصا في الكتاب الأول من موسوعة (نقد العقل العربي)؛ أي كتاب: تكوين العقل العربي، والذي يعارضه الأستاذ وقيدي. لذلك انتقد نظرية المعرفة عند كانط، وهو بنظرنا يتبنى النسق الفلسفي الفرنسي، مع باشلار خصوصا. من هنا يرى الأستاذ وقيدي أن الإبستمولوجيا لا تكون نظرية للمعرفة، من منظور كانطي بالطبع، إلا في الحالة التي يكون فيها التحليل الإبستمولوجي للمعرفة العلمية على وعي تام بإطاره النسبي؛ أي المرحلة التاريخية المحددة التي يحللها من تاريخ العلوم، وإلا سيسقط ذلك التحليل في إضفاء صفة الإطلاق على استنتاجاته وعلى مفاهيمه. ودرس الأستاذ وقيدي، في سياق نقده لكانط، علاقة نظرية النسبية والمبادئ التركيبية القبلية في فلسفة كانط. وخلص إلى أن تطور العلم قد حدث بقدر ابتعاده عن الميتافيزيقا الكانطية. فقد حدث نوع من (التفسخ التدريجي) للتركيب القبلي كما وضعه كانط على مستوى الأفكار، وهذا ما ساعدت فيه نسبية إنشتين، بمضمونها التجريبي المخالف لتجريبية فرانسيس بيكون (1561-1626)، وجون ستوارت ميل (1806-1873). لقد استمد إنشتين تجريبيته من الفيزياء النظرية الحديثة، والتي تشكل الرياضيات أساسها، وهي التي قوضت، بنظر الأستاذ وقيدي، أهم قواعد العقل الخالص واكتشافاته مع كانط! كما عرض الاستاذ وقيدي للأبستمولوجيا الوضعية عند أوغست كونت، من خلال كتابه: ” دروس في الفلسفة الوضعية”، وهو، بنظر الأستاذ وقيدي، أقوى ممهد للإبستمولوجيا في صورتها المعاصرة، من خلال تحديد معنى العلم، وهو التحديد الذي ظل مهيمنا إلى اليوم، كما حدد العلاقة الجديدة بين الفلسفة وبين العلوم. كما حدد مهمة الفيلسوف وهي: التفكير في العلوم من حيث تطورها ومناهجها ونتائجها. كما قدم تصنيفا للعلوم بناء على دراسة وافية لتاريخ العلوم، وصنفها إلى ستة؛ هي: العلوم الرياضية، وعلم الفلك، والعلم الفيزيائي، والعلم الكيميائي، والبيولوجيا، والفيزياء الاجتماعية أو علم الاجتماع. وقد توجه نقد عنيف لتصنيف كونت، من حيث عدم ذكره لعلوم أخرى؛ مثل: بعض العلوم التقنية، وبعض العلوم النظرية؛ مثل: علم النفس، والتاريخ، واللسانيات… وبرر كونت ذلك بأن الظواهر التي تدرسها علوم التاريخ والاقتصاد واللسانيات ظواهر مجتمعية من اختصاص علم الاجتماع. وأظهر الأستاذ وقيدي حماسا كبيرا للمعنى الوضعي للعلم! والذي يقوم على التقسيم المنظم للمعارف إلى جملة من الاختصاصات، وهو نقيض الأطروحة السابقة في تصنيف العلوم، من منظور فلسفي، وهي (تداخل العلوم). هذا التقسيم الذي سمح بنمو أسرع للمعرفة، بنظر الأستاذ وقيدي، وهو أثر ايجابي، في مقابل أثر سلبي، جعل العلماء، بالمضي في اختصاص معين وبالإمعان فيه، لا يهتمون إلا بعلم واحد، مع إهمال ربط نتائجهم العلمية بمجموع المعرفة الوضعية، وهو ما يشكل خطرا على المعرفة الإنسانية برمتها. ولتجاوز هذا الخطر لا يدعو الأستاذ وقيدي إلى الرجوع إلى مرحلة التداخل أو ما يسميه ب: (الخلط)، بل يقترح، للحد من الإمعان في التخصص، إلى جعل دراسة العموميات تخصصا بذاته، والعمل على إحداث فئة جديدة من العلماء مهيأة بفضل تكوين ملائم، تهتم بمختلف العلوم الوضعية، وتحدد بشكل مضبوط روح كل علم، وتكشف عن علاقات العلوم، وترابطاتها، وتلخص قواعدها في أقل عدد ممكن من المبادئ العامة، إذا اقتضى الأمر ذلك، من دون تناقض مع الإطار المنهجي الوضعي. كما يلزم علماء التخصص الإلمام بمجهودات هؤلاء العلماء الموهوبين لدراسة العموميات، وأن يصححوا في ضوئها نتائجهم العلمية.
لم يتحمس الأستاذ وقيدي للفلسفة الوضعية كما قدمها أوغست كونت وطورها غاستون باشلار إلا لأنها، بنظره، تعيد النظر في نظام المعرفة باعتباره الوسيلة التي تعيد النظام على صعيد الفكر، كما أنها السبيل الأمثل، بنظر أوغست كونت، لاستعادة النظام الأخلاقي والاجتماعي!
وأورد الأستاذ وقيدي، على غرار الجابري، في نهاية تحليله نصوصا لرواد هذه النزعة الوضعية؛ مثل: روبير بلانشي في العقلانية الرياضية، وهنري بوانكري في النزعة الإصلاحية في الإبستمولوجيا، وأوغست كونت في الفلسفة الوضعية وفلسفة العلوم. وكل هذا يزيد يؤكد هاجس كتاب الجابري الذي كان يسكن الأستاذ وقيدي وهو يجيب عن سؤال: ماهي الإبستمولوجيا؟

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد