عمر بوم … مثقف “دولوزي” مغربي في قلب أمريكا!

عبد الله الحلوي احد المبادرين لتأسيس الحزب الجديد
عبد الله الحلوي احد المبادرين لتأسيس الحزب الجديد

عبدالله الحلوي//

الهدف من هذا المقال أن أعرف بنوع من المثقف أسميه ب”المثقف الدولوزي”، وأن أعطي مثالا واضحا عن هذا النوع من المثقف: ابن الجنوب الشرقي المغربي، العالم الأنتروپولوجي المغربي – الأمريكي عمر بوم.

المثقف؟

مما يُلاحظ على معظم الكُتّاب الذين يناقشون دور المثقف في مجتمعنا المغربي المعاصر ويحلّلونه أنهم، كلما فعلوا ذلك، يلجؤون إلى صِنافاتٍ تقليدية، كتلك التي تُنسب لغرامشي والتي تميّز بين ما يُسمى ب”المثقف العضوي” و”الموظف الأيديولوجي”، وتلك التي تؤكّد على أهمية “الوعي الطبقي” أو “الوعي الجندري” أو غيرهما من أشكال الوعي في تشكيل رؤية المثقف للعالم. إلا أن جيل دولوز لاحظ في حوار له مع ميشيل فوكو في 4 مارس 1972 أن نظرتنا للمثقف عادة ما تتأثر بتصورنا لعلاقة المعرفة بالواقع. فإذا كنا، مثلا، نؤمن بأن النظرية ينبغي أن “تستثمر” في الواقع، كما نستثمر علم الرياضيات في إحصاء السكان، فسنكون أَمْيَلَ إلى الإعتقاد بأن المثقف نوع من التيكنوقراط يطبق ما يكتسبه من معارف في ممارسته السياسية أو النقدية أو التدبيرية.

لذلك فإن دولوز يؤكّد أن العلاقة بين النظرية والواقع تكون دائما جزئية وغير مكتملة ولا تشابه فيها، ضرورةً، بين النظرية والواقع، . كما يؤكّد أن المثقف الحقيقي عادة ما ينطلق من مجال تخصصي بعينه، فيجد نفسه أمام عوائق وأسوار وحواجز كثيرة تضطرّه اضطرارا إلى تحويل خطابه التخصصي إلى نوع آخرمن الخطاب أوسع وأرحب، فيستمر في توسيعه الخِطابي هذا من أفق إلى أفق أشمل كلما اعترضه المزيد من العوائق والأسوار والحواجز.

لنسمّ هذا النوع من المثقف الماـ بعدـ حداثي ب”المثقف الدولوزي”.

الهدف الأساسي لهذا المقال أن أعرف القارئ الكريم على نموذج من المثقفين “الدولوزيين” الذين انطلقوا من مجال تخصصي دقيق، فاضطرتهم “الأسوار” التي اعترضتهم إلى الإنفتاح على آفاق أوسع وأشمل، فصاروا بفضل انفتاحهم حمّالين لرؤية فكرية متميزة يجيبون بها ومن خلالها على الأسئلة الحساسة التي يطرحها واقعهم.

المثال الذي الذي أقترحه لتوضيح هذا النوع هو ابن الجنوب الشرقي المغربي، العالم الأنتروپولوجي المغربي الأمريكي عمر بوم.

عمر بوم؟

الدكتور عمر بوم، ابن الجنوب الشرقي المغربي، عالم أنتروپولوجي شاب وواحد من المثقفين المغاربة ـ الأمريكيين الجدد الذين انخرطوا في فهمٍ دولوزي “ما بعد حداثي” لممارسة وظيفة المثقف. يدرّس بوم حاليا بجامعة كاليفورنيا الأمريكية وله إصدارات كثيرة منها كتاب Memories of Absence: How Muslims remember Jews in Morocco (“ذكريات الغياب: كيف يتذكر المسلمون اليهودَ في المغرب”) صدر سنة 2013 عن دار نشر جامعة ستانفرد الأمريكية، واحتفت به مؤخرا كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس بالرباط في إطار يوم دراسي علمي. ترجم الكتاب إلى العربية الدكتور خالد الصغير تحت عنوان:”يهود المغرب وحديث الذاكرة”، وحصلت الصيغة المترجمة على جائزة المغرب للكتاب، صنف الترجمة.

توجه بوم الدولوزي جعله يهتم اهتماما تخصصيا دقيقا بكل ما هو هامشي ومقصي في الثقافة المغربية … الوجود اليهودي، تاريخ العبيد والسود، الثقافة الأمازيغية، الهجرة، مشاكل نُدرة الماء في المناطق المهمشة … من كتاباته أيضا “معجم تاريخي للمغرب”، ألفه بمعية ت. پارك سنة 2006، وكتاب “تاريخ موجز للشرق الأوسط” بمعية أ. ڭولدسميدث سنة 2015.

“يهود المغرب وحديث الذاكرة”

كتاب “يهود المغرب وحديث الذاكرة”، الذي حصدت صيغته المترجمة إلى العربية جائزة المغرب للكتاب، نموذج جيد لعمل المثقف الدولوزي الذي ينطلق من تخصص بعينه دقيق (الأنتروپولوجيا، في حالة بوم)، ليدفع بخطابه، بعد ذلك، بفعل التحدي الذي تطرحه “العراقيل والأسوار”، نحو آفاق أوسع وأرحب. لذلك فإن هذا الكتاب ليس مجرد حفر إثنوغرافي في الوجود اليهودي بالمغرب من خلال ما يتذكره المسلمون المغاربة عن هذا الوجود، بل هو أيضا نموذج للمنهج العلمي الذي يسعى إلى فهم ثقافة الأقليات بالمغرب فهما علميا يتحرّر من الحساسيات الأيديولوجية من خلال الوعي بها والإعتراف بآثارها. و من خصائص هذا المنهج “البومي” ما يلي:

أولاـ أنه يعترف بأن الحقيقة المطلقة في مثل هذه المواضيع الحساسة صعبة بل مستحيلة، لكنه يؤكّد في نفس الوقت أن التدقيق الإثنوغرافي يحرّرنا من الجهل المتعمّد (ص 4) ومما يسميه المغاربة ب”التّمْياك” (ص 110) أي الميل المذموم إلى غض النظر عن جانب من جوانب الثقافة والتاريخ المغربيين.

ثانياـ أنه لا يصدر أحكاما، بل يراكم جمعه للمصادر الأولية الجديدة كشهادات الرحالة، والوثائق القانونية، والجرائد ا لقديمة، واستجواب أجيال مختلفة من المغاربة لاستجماع ما تحتفظ به ذاكرتهم عن الوجود اليهودي بالمغرب.

ثالثاـ أنه يوازن ويقارن ويرجّح بين مصادره ليستخرج منها ما تُجمع عليه وما تختلف فيه، ما يرجُح منها عقلا وينسجم منطقا، وما ينخره التناقض والإختلاف الكثير. من ذلك مثلا أنه يستجوب أربعة أجيال من المغاربة: جيل آباء الأجداد ممن عاش في عهد الحماية بين 1912 و1956، وجيل الأجداد ممن عاش بين 1940 و1943، وجيل الآباء ممن عاش بين 1967 و1973، وجيل “الأبناء” ممن عاش حدث “الإنتفاضة” (1987) واتفاق أوسلو (1993)، وما تلاهما من أحداث. مما يميز الجيل الأخير مثلا أن معظمهم لم يعيشوا مع اليهود ولم يتعاملوا معهم بل لم يلتقوا بهم في يوم من الأيام. ومن ميزات جيل الآباء أنهم خَبِروا حربي 1967 و1973 وتأثروا ببنتائجهما نفسيا وأيديولوجيا.

أي منهج في البحث؟

من مظاهر منهج بوم المُتّزن أنه لا يكتفي بشهادات الرحالة الأجانب (كشهادات ميشيل دوفوكو ورفيقه مردخاي أبي سرور)، التي ينتقدها دون تبخيس قيمتها، بل إنه يقارنها بشهادات جيل آباء الأجداد (أي الجيل الأول) وبما توفره لنا العقود القانونية التي جمع الباحث الكثير منها في رحلته من أجل التنقيب عن المصادر والوثائق داخل المغرب وخارجه.

لقد كان ميشيل فوكو، حسب دولوز، مثقفا من النوع الذي نتحدث عنه هنا، لأنه عندما بحث في “تاريخ الجنون” مثلا لم يبحث فيه بمعالجة الوثائق التي تتحدث عن “المجانين” فقط، بل اجتهد أن يتجاوز “سور” الأحكام المسبقة التي يفرضها “العقلاء” ويفرضون سلطتهم وهيمنتهم الإجتماعية بواسطتها إلى مستوى السماح لمجموعات من “المجانين المسجونين” أن يحكوا وجهة نظرهم بصفة مباشرة و بدون وسائط … المثقف الدولوزي لا “يتحدث” عن الواقع فقط، بل يسعى دائما أن “يأتي بالواقع” إلى قارئه!

رابعاـ أنه ركّز البحث في تنقيبه عن آثار الوجود اليهودي بالمغرب على المناطق الصحراوية البعيدة (قرية “عقا” تحديدا) حيث لم يلعب الإعلام بعد دورا كبيرا في تغيير نظرة الساكنة لجيل آباء الأجداد لليهود المغاربة ولم يشوّه ملامح ذاكرتهم عن هذه الأقلية.

أية آفاق؟

كانت استراتيجية عمر بوم في عرض معلوماته الغزيرة عن الوجود اليهودي بالمغرب أنه بدأ بوجودهم الإجتماعي خارج “الملاح” وتفاعلهم اليومي مع المسلمين، وذلك من خلال تحليل عقود المرابحة والبيع والرهن وغيرها من العقود التي كان القضاة المسلمون يحررونها لضبط تعامل المسلمين مع التجار والصيارفة اليهود ( الفصل الثاني، 43ـ55). لينتقل بعد ذلك إلى وجودهم الإجتماعي داخل “الملاح”، مركزا على دور “المجامع اليهودية” synagogues والإتلاف الإسرائلي الدولي Alliance Israélite Universelle في إدخال التربية والتكوين المعاصرين إلى الملاحات المغربية.

النتائج التي خرج بها بوم من بحثه المكثف مثيرة ومن شأنها، إذا انتشرت في أوساط المثقفين المغاربة، أن تؤهلنا إلى مستوى فهم عالِمٍ مُتَحَرِّرٍ إلى حد كبير من الإسقاطات الأيديولوجية لطبيعة وأهمية ما يقرره الدستور المغربي من كون البعد البعد العبري رافدا من روافد الثقافة المغربية. من هذه النتائج:

أولاـ أن اليهود المغاربة استثمروا ما سماه الكاتب ب”التعدد التشريعي” legal syncretism للتخفيف من أعباء ما فرض عليه من جزية، وقلق وجودي نتيجة لعدم استقرار علاقتهم بكيانات سياسية مختلفة كبعض السلاطين والقبائل والقياد. فكانوا دائما يلجؤون إلى القضاء مستعملين بشكل پراڭماتي ما يكون في صالحهم مما تسمح به الشريعة الإسلامية ومختلف القوانين العرفية الأمازيغية.

ثانياـ أن الوجود اليهودي في المغرب لم يكن مجرد وجود ثقافي بل كان وجودا اقتصاديا وازنا. فبينما كان عوام المسلمين في الصحراء يتجهون للفلاحة، كانوا اليهود يمارسون التجارة والصناعة التقليدية، مما مكنهم من استجماع الثروة وفرض دينامية اجتماعية استفاد منها على الأقل الموسرون منهم. فقد كان بعض السلاطين يثقون في أدائهم التجاري إلى درجة أنهم كانوا يستودعون أموالهم عندهم من أجل استثمارها بشكل كان يعود على هؤلاء السلاطين بالريع الشهري الوفير.

ثالثاـ أن نظرة جيل آباء الأجداد (الجيل الأول) من اليهود المغاربة كان إيجابية ونوستالجية، بينما أصبحت نظرة الجيل الجديد الجيل الرابع (جيل الأبناء)، بفعل عوامل كصراع الشرق الأوسط وتأثير الإعلام، سلبيا وعدائيا.

رابعاـ أن من بين العناصر الحاسمة في هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل قلق اليهود من مستقبلهم في مغرب ما بعد الإستقلال ـ هذا القلق الذي أجّجه حزب الإستقلال وخطابه العدائي. مما جعل عمر بوم يحمل المسؤولية جزئيا ل”الحركة الوطنية” لفشلها في إدماج اليهود في إطار وطن متعدد و دفع هذه الأقلية للتأثر بالأيديولوجية الصهيونية الدولية ا لتي مارست جاذبيتها السياسية/الدينية على يهود العام.

ملاحظات ختامية

لم تكن مهمة عمر في جمع الوثائق والشاهادات سهلة. فالبحث في موضوع الأقليات في المغرب عمل حساس جدا، ويزداد حساسية عندما يتعلق الأمر بتاريخ الأقلية اليهودية .. فبشرته السوداء كانت تجعل اليهود يتوجسون منه معتقدين أنه من يهود الفلاشا الذين كانوا يحاولون التسلل إلى الجماعات اليهودية الأصيلة. والأجيال المتأخرة من المسلمين المغاربة كانوا يتشككون في نواياه، وفي تحمسه للمعرفة عن اليهود، حتى إن أحد الشباب المغاربة واجهه يوما “متهما” إياه باليهودية، لأن ”اليهود هم وحدهم الذين يهتمون بدراسة تاريخ اليهود!“

إلا أن دولوزية بوم لم تسمح له بالتراجع إلى موقع دفاعي. لقد كان يكتفي بتسجيل ردود الأفعال على مسعاه العلمي بكثير من الدقة والعناية، ويبتسم لها، ويتقدّم أماما نحو خطاب أوسع وأرحب. فقد مكنه الفهم الدقيق للوجود اليهودي بالمغرب من فتح ملفات لم يكن يعلم بأنها ستنتفتح يوما … ملف الأصول التاريخية للريع، وعلاقة السود (الحراطين بالمخزن)، وأسرار تأسيس الأحزاب المغربية “العتيدة” … لذلك فعندما تُجالس عمر بوم وتحادثه عن تاريخ المغرب فإنك تكتشف بأن تاريخ المغرب تواريخ كثيرة لا نعرف عنها إلا القليل القليل، وأن معظم ما يُروى مجرد تشكلات أيديولوجية تحتاج للنقد والتحقيق العلمي ولإعادة القراءة من وجهة نظر الأقليات.

المثقف الدولوزي صوت مزعج .. وفهم جديد لعلاقة النظرية بالواقع.

اترك رد

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد