عبد القادر عبابو.. معلمنا جميعا

أزول بريس – محمد بقوح //

الزمان، ثمانينات القرن الماضي.
وصلت متأخرا. بين الدشيرة و الباطوار مسافات العطش الطويل الذي لا تكفيه حافلة مرقعة رقم 6 لإطفاء لهيبه الأبدي. انتظار في المحطة، و ازدحام حتى النخاع في جوفها، و النصر المبين لمن نجح في الهبوط منها سالما كما صعد إليها. بعدها، تجد نفسك تائها في أمكنة معشوقة الصديق أطرحوت.. الباطوار العظيم. الشمس حارة، و الناس حزينون.. قلة موزعون اعتباطا في دوائر المكان الأحمر. مكان الحافلات. أقتني جريدة أنوال عند الكتبي بجاور مقهى تيرمنيس. أتصفح الجريدة. ألقي نظرة على عناوين الجريدة. تستقر عيوني على تتمة الدراسة النقدية الطويلة للمعتقل السياسي عبد السلام الموذن الموجودة في الملحق الثقافي للجريدة، التي كانت حول كتاب (تكوين العقل العربي) الصادر مؤخرا- حينئذ- لمحمد عابد الجابري.
اخترت المسلك الأقرب فى اتجاه دار الشباب الحي الحسنى. موعد الساعة الرابعة بعد الزوال يقترب. قرأت المقال في الطريق. وصلت متأخرا إلى القاعة التي وجدتها غاصة بالطلبة و الشباب.. إلى درجة أنني لم أستطع الدخول من بابها الضيق. كان صوت عبد القادر عبابو يصلني صادحا مخترقا أجواء المكان. يفجر صمت الكائن و الممكن تفجيرا. طلبت من بعض الشباب السماح لي بالتقدم إلى عمق القاعة. الواقفون أكثر من الجالسين على الكراسي الخشبية اليتيمة في الداخل. تنفست الصعداء حين وصلت إلى حد الجدار. بدا لي السي عبد القادر بلحيته الحرة الطليقة كتشي جيفارا، مستمتعا كالعادة، طائرا كالنسر الثمل حتى الجنون. من يقرأ الجمال لا خوف عليه.. كان يقرأ إحدى النصوص الشعرية الرفيعة المقاومة للمبدع الكبير محمود درويش..
بعدها، و بعد شراب كأس الماء الأنيق، يعاود القراءة الجريئة من جديد.. يتلو الشعر هذه المرة في أجواء التصفيق الذي لا ينتهي إلا ببدء صوته الشجي.. بنص طويل للشاعر معين بسيسو العظيم.. صوته يزلزل المكان، ويفجر معنى الكلام الشعري صعودا و هبوطا. كان يقرأ الشعر.. يقرأ مواقف الحياة بدمه وجسده. عيونه الباحثة دوما في ما تقرأ، و يداه الصلبتان تتحركان يمينا ويسارا وفق أمواج حياة معنى القصيدة. منه تعلمت كيف يكون الشعر رصاصات في فوهة بندقية حياة المهمشين في هذا العالم غير العادل.
عبد القادر عبابو كان صديقا لجميع شباب مرحلتي وجيلي الستيني. كان مدرسة قائمة الذات، تعطي دون انتظار الأخذ في الحياة. رأسماله الوحيد عشقه لمدينته وحب الناس إليه. عبابو ، معلمنا الوحيد الذي علمنا، بشعره ومسرحه ونقده ومواقفه في الحياة ما لم نتعلم في مدارس الدولة الرسمية، بأبوابها المصقولة والمقوسة، و مناهجها العلمية المستوردة..!!
بعد القراءة و الشعر و اللقاء.. يهدأ الحصان و يتوقف صهيله.. حتى الزمن الثقافي اللاحق غير المسمى.. لتجد الرجل هرما لا حدود لقامته القصيرة. أجده بالقرب مني إنسانا في كامل تواضعه الكبير.. أتمنى أن لا ينقضي ولا ينتهي النهار ونحن الشباب حوله كأزهار في حقل الحياة.. بعدها، أعود ممتلئا عبر حافلتي المهترئة إلى الدشيرة حيث مسقط رأسي.. لأجد و أسمع و أرى أمامي وحولي قصائد عبد القادر عبابو تمشي و تأكل وتشرب وتنام و تعيش معي كما قرأها الإبن الوفي لمدينة أكادير دون أن تنبته تربتها الأصيلة.. كما كان يقرأها و يكتبها ويحياها عاشق الإبداع، و المحب الأصيل لمدينة الإنبعاث – أكادير : عبد القادر عبابو.
لترقد روحه في سلام دائم.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد