يكاد الحدث أن يذكِّر بما عرفته الحدود التركية اليونانية قبل شهور وسعي مهاجرين للعبور، وإن كان ينبغي أن يسجل أن حدة الأمن الإسباني لم تبلغ اليوناني بالتعامل مع المهاجرين غير الشرعيين، بل روج الإعلام الإسباني لصور “إنسانية” لرجل أمن يحمل رضيعاً، ولمسعفة تحتضن مهاجراً من جنوب الصحراء، لكن الحقيقة شيء آخر، إذ استعملت السلطات الإسبانية العنف من قنابل الغاز والهراوات وألقت بالمهاجرين في البحر، في صور يُكشف عنها مؤخراً، كما أسفر عن ذلك تحقيق لجريدة ليبراسيون الفرنسية وتقارير منظمات حقوقية دولية.

لم تعرف العلاقات المغربية-الإسبانية أزمة دبلوماسية مع حملة إعلامية شرسة كتلك التي أعقبت اقتحام الجيب المحتل. حرَّكت الأزمة الكوامن المستترة من سوء فهم تاريخي بين البلدين.

ظاهر الأزمة استياء المغرب من استقبال إسبانيا لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي بهوية مزورة للاستشفاء والمطالبة بمحاكمته من جانب المغرب. وكردٍّ لما يعتبره المغرب تصرُّفاً غير ودي يرفض المغرب دور الدركي، وأن تُختزل علاقاته مع جاره الشمالي بالقضايا الأمنية دون أخذ مصالحه الاستراتيجية بعين الاعتبار.

الأزمة الحالية ليست إلا الشجرة التي تخفي الغابة، فليست أول مرة يحل زعيم جبهة البوليساريو بإسبانيا أو قياديون من الجبهة بها بعلم المخابرات المغربية، والمتغير هو السياق، وهو تلكُّؤ إسبانيا بدعم ما تعتبره الرباط قضية وجودية وهو وحدته الترابية.

يعيب المغرب على إسبانيا موقفها من قضية الصحراء على خلاف الطرفين الغربيين اللذين لهما دراية بالملف وعمقه التاريخي وتداعياته الجيواستراتيجية فرنسا والولايات المتحدة، ويؤخذ عليها ليس فقط عدم تحمُّسها لاعتراف الإدارة الأمريكية بعهد ترمب بمغربية الصحراء، بل سعيها لإثناء أوربا عن تأييد القرار الأمريكي.

قبل ذلك في 2007 قدّم المغرب مقترح الحكم الذاتي لحل نزاع الصراع، واعتبرت فرنسا والولايات المتحدة الاقتراح جديّاً وواقعياً ومعقولاً. لم تتحمس إسبانيا له وظلت العلاقات تكتنفها ظلال على الرغم من حسن الجوار والتعاون الحثيث بالقضايا الأمنية والهجرة وعلاقات تجارية واقتصادية متميزة، إذ تُعتبر إسبانيا أهم شريك اقتصادي للمغرب، تتجاوز فرنسا.

ويظهر سوء الفهم في شكل هزات كما حدث في 2001 بشأن جزيرة تاورة بالمصطلح المغربي، و”ليلي” بما سرى عنها في الصحافة الغربية وهو تحريف لكلمة جزيرة بالإسبانية، قبالة سبتة المحتلة. ولم يكن النزاع حول الجزيرة حينها إلا تعبيراً عن توتر مستتر مع حكومة أزنار اليمينية ذات المرجعية الصليبية.

يوجد سوء فهم تاريخي بين البلدين حسب دبلوماسي إسباني متمرس هو ألفونسو دي لاسيرنا اشتغل لفترة سفيراً لبلده بالمغرب، في كتابه بعنوان “سوء تفاهم تاريخي”.

تعود جذور سوء الفهم التاريخي إلى الوجود الإسلامي بالجزيرة الإبرية، وحروب الاسترداد، وطرد المسلمين بعد سقوط غرناطة، والمد الصليبي ثم الاستعماري، وهو شكل من أشكال النزوع الصليبي.

تقترن صورة “المور” في المخيال الإسباني بمدلول قدحي، وهو التعبير الذي يستعمله الإسبان للتدليل على مسلمي الغرب الإسلامي سواء من كانوا في الجزيرة الإيبيرية وفي بلاد المغرب، وأصبح حصرياً يطلق على المغاربة بعد طرد الموريسكيين سنة 1609 من إسبانيا.

هزمت إسبانيا المور (المغاربة) وبزغ منذ القرن السادس عشر “العدو” التركي، وخاضت إسبانيا ضده حروباً منها معركة ليبنت Lépante سنة 1571، واحتلت مواطئ أقدام بحلق الوادي بتونس، مما دفع مسلمي بلاد المغرب ليستنجدوا بالأتراك العثمانيين، ومنهم الأخوان عروج.

ولعل ما قد يجهله الكثيرون أن طرد المسلمين ممن يُعرفون بالموريكسيين لتخوُّف إسبانيا أن يكونوا طابوراً خامساً لصالح ما تسميه الأدبيات الغربية “بالتركي الكبير” أي السلطنة العثمانية، ولذلك يعتبر ملف المورسيكيين مغربياً بقدر ما هو عثماني، والحال أن الكثيرين منهم استقروا بتونس والجزائر اللتين كانتا تحت حكم العثمانيين، فضلاً عن فئة استقرت بالآستانة.

في مد صليبي احتلت إسبانيا مواقع بالضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط منها حلق الوادي بتونس والجزائر ووهران، وقبلهما مليلية ثم سبتة وجزر بعرض السواحل المغربية، ولا تزال مليلية وسبتة والجزر بالساحل المغربي محتلة، وتسميه الأدبيات الإسبانية جيوباً كما لو هي قطع ثوب تلصق بقطعة قماش.

وفي سنة 1859 شنت إسبانيا حرباً على المغرب انتهت بهزيمة المغرب وهي المعروفة بحرب تطوان، ورأت فيها إسبانيا صورة مجددة لانتصار المسيحية على الإسلام عاشها الإسبان كما لو هي استعادة لغرناطة وحولوا مساجد إلى كنائس، وعاشتها ساكنة تطوان كما لو هي سقوط غرناطة جديد وانتكاس للإسلام، وعمت مشاعر الأسى مما تطفح به أشعار تُذكِّر بسقوط غرناطة.

لم تبرأ إسبانيا من مخلفات صليبية، اقتطعت أجزاء كبيرة محيطة بسبتة وضمتها إليها وطالبت بمرفأ بعرض المحيط الأطلسي أطلقت عليه اسماً ذا حمولة دينية، سانتا كروس (الصليب المقدس).

وحينما وضعت إسبانيا على الصحراء سنة 1881 في المنطقة التي كانت تعرف بتيرست (وهي كلمة أمازيغية تعني الأرض الرخوة) وسمَّتها بوادي الذهب، في نفحة استعمارية، كما ساحل الذهب وساحل العاج، أقامت مستوطنة أطلقت عليها اسم فيلا سينرسوي أي مدينة سيسنروس.

وليس سيسنروس إلا الأسقف الذي أمر بتنصير المسلمين سنة 1497 بعد سقوط غرناطة وإحراق المخطوطات العربية. ولم تبرأ إسبانيا من الصورة القدحية التي تلصق بالمغربي أو المورو. وتقترن التحولات الكبرى السلبية التي عرفتها إسبانيا بالمغرب، إذ عجلت هزيمة القوات الإسبانية من قبل المجاهد عبد الكريم الخطابي سنة 1921 بسقوط الملكية، واستنجد فرانكو بقوات مغربية لهزيمة الاشتراكيين، وكان أداؤهم حاسماً في هزيمة الجمهوريين. ويرى المغاربة من جهتهم أن إسبانيا لم تبرأ من نزوعها الاستعماري.

ليست الأزمة التي برزت في غضون الأسابيع السابقة إلا صورة لسوء فهم تاريخي لم يفلح البلدان في تجاوزه على الرغم من الإرادة المعلنة.