كل عام، وما أن يمر اليوم الأول لعيد الأضحى، حتى تمتلى الساحات الشعبية لعدد من مدن وقرى ومداشر جهة سوس ماسة بأشخاص متنكرين في لباس مصنوع من جلود الماعز والخروف، شباب وشابات يبدعون في ارتداء بذلة بوجلود، أو زي تنكري والانضمام إلى قافلة الكارنفال احتفاءا بمهرجان “بيلماون – بيدماون” أو الهالوين المغربي بنكهته الأمازيغية الضاربة في عمق التاريخ.
ففي ساحات ” أوسايس” بمدينة الدشيرة الجهادية أحد معاقل الإحتفاء بهذا الطقس الأمازيغي، وتحت أنظار الأطفال وجمهور غفير من مختلف الفئات العمرية الذين أتوا لمشاهدة العرض، وغيرهم ممن كانوا راضين عن مشاهدته من نوافذهم، انفتح المهرجان على أشكال أخرى من فن الشارع.
حيث يرتدي المشاركون أقنعة كائنات تبدو وكأنها تخرج مباشرة للشارع العام مع حلول الظلام ويرقصون على إيقاع موسيقى كناوة التقليدية.
– بيلماون-بيدماون
عيد الأضحى بسوس له طعم الخاص، فأبناء المنطقة مازالوا متشبثين بعادات وطقوس أمازيغية ويعضون عليها بالنواجذ، بينما اندثرت في عدد من المدن المغربية الأخرى في شمال المغرب، فأجواء العيد الكبير هناك تنبض بالحياة بشكل غير معهود مقارنة مع مناطق أخرى من ربوع الوطن، فبمختلفة مناطق سوس يرتدي شبان وشابات جلود الخراف والماعز والوجوه مصبوغة بالأسود، والجميع يرقص ويغني على إيقاعات موسيقى طبول وقراقيب فرق ”إيسمكان” الكناوية، في إطار مهرجان “بيلماون – بيدماون”؛ مهرجان يحضر فيه طقس “بوجلود”.
هذا التقليد يتم الاحتفال به بعد ظهر العيد مصحوبًا بممارسات كرنفالية أخرى في شكل تنكري هزلي، بحيث يتسابق العازمون على التنكر أسابيع قبل موعد الأضحى، لتجميع الجلود لإعداد زي بشري شبيه بالخروف أو الماعز، بينما يتم تنظيم المهرجانات عمومًا في الساحات الكبيرة من المناطق الشعبية بمنطقة تسمى بالأمازيغية “أسايس”.
ومع ذلك، فإن شخصية بوجلود هي التي تجسد بشكل أكبر الجانب التاريخي لهذا الطقس الشبيه نوعا ما باحتفالات هالوين لكن بنكهة مغربية أمازيغية صرفة.
– تعدد الأسماء..
ويبقى المعنى واحد ”بوجلود’‘
هذه الطقوس الأمازيغية تختلف أسماءها ونعوتها حسب مناطق المغرب المختلفة: “بلماون” و “بولبطاين” و “بوهيدور” و “هرمه” أو حتى “باشيخ” والعديد من الأسماء الأخرى، وقد تم الحفاظ على هذه الطقوس في منطقة سوس والأطلس الصغير والكبير. ووفقًا للعديد من المؤرخين، فإن هذه العبادة الوثنية هي طقوس قديمة ليست ملكًا لشعب أو منطقة معينة لأن الإغريق والرومان كان لديهم بالفعل في أساطيرهم الآلهة الرعوية مثل بان ولوبركوس، وهما آلهة الخصوبة د، وحماة الرعاة. . الملاحظة هي نفسها بالنسبة للأمازيغ الذين كان لهم آلهة متشابهة مثل عمون وياكوش. وخارج المغرب، توجد ممارسات مماثلة أيضًا في جزر الكناري حيث يحتفل تقليد Carneros de Tigaday بهذه الممارسة خلال شهر فبراير في “الهييرو”، إحدى الجزر الرئيسية في أرخبيل الكناري حيث لا تزال الثقافة الأمازيغية حية. بفضل شعب الغوانش. بالإضافة إلى ذلك، في جزيرة سردينيا، ولا سيما بلدية Mamoiada، يتم تقليد Mamuthones و Issohadores سنويًا، وهم يرتدون جلود الغنم والأقنعة على وجوههم، بينما يتم أيضًا الاحتفال بالتقاليد الأخرى في ألمانيا والنمسا من خلال مسيرات Krampus المكسوة في فراء الأغنام والماعز.
وفي هذا الصدد، يقول الحسين بويعقوبي، أستاذ الأنثروبولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة إبن زهر، “أصبح موضوع إحتفالات بيلماون المنظمة خلال فترة عيد الأضحى تحظى باهتمام بكبير سواء من طرف بعض الباحثين الأكاديميين أو المجتمع المدني وكذا المنتخبون والسلطات المحلية؛ خاصة بجهة سوس ماسة. والسبب في نظري هو تطور المنظور لهذا الموضوع”.
وتابع بويعقوبي حديثه عن هذا الطقس الأمازيغي بعيون الباحث الأكاديمي، قائلا:” فمن حيث البحث الأكاديمي؛ لم يعد هذا الموضوع غريبا للبحث فيه كما كان الأمر أواخر السبعينات من القرن الماضي حين أعد ذ.عبد الله حمودي أطروحته عن بيلماون ونشرت سنة 1981 ثم ترجمت إلى العربية بعنوان الأضحية وأقنعتها.
كما ظهر باحثون جدد في الأنثربولوجيا أعادوا الموضوع لمجال البحث العلمي ونظمت ندوات وطنية ودولية توجت بنشر مؤلف جماعي سنة 2022 من طرف كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية بأيت ملول.
واسترسل ذات المتحدث شرحه لوجهة نظره بالقول :”كما أن تطور الخطاب الأمازيغي منذ سنوات التسعينات جعله يتبنى هذه العادات؛ فكان دور الجمعيات أساسيا في طرح الموضوع والحفاظ عليه، مستفيدة منذ عقدين من الزمن من تطور مواقع التواصل الاجتماعي فأعطت للموضوع زخما كبيرا وأصبح يثير اهتمام الجماهير مما أدى إلى اهتمام المنتخبون والسلطات المحلية به والتفكير في تأطيره ولم لا استثماره. وزاد قائلا :”كما أن تطور الخطاب حول التراث وأهمية الحفاظ عليه ودوره في التنمية ساهم أيضا في تطور المنظور لعادة “بيلماون”.
– جيل بيلماون 2022
على الرغم، من كون احتفالات “بيلماون” تعود إلى طقوس متوارثة من الأزمنة الغابرة، إذ يصعب على الأنثربولوجيين تحديد فترة ظهورها، إلا ان هذه العادات والاحتفالات تتجدد مع مرور الزمان وتواكب مستجدات العصر. حاليا أضحت الشابات بدورهن يرتدين زي “بيلماون”، كما أن بذلة جلود الماعز البشرية أضحت تعرف لمسات فنية إبداعية متنوعة كل حسب رونقه وزاوية ابداعه، بين تجميل الوجه بمساحيق تجميلية، أو إضافة أكسيسوارات لمنح البذلة رونقا مغايرا، متنكرا في هيئة مخلوقات وحشية وبين من يفضل التشبث بالزي الأصلي و إرتداء أزياء مصنوعة من جلود الأغنام أو الماعز والاكتفاء بصباغة الوجه بالأسود أو الفحم.
مريم أكشار الفاعلة الجمعوية وعضو مجلس جهة سوس، تفيد بأنه من الإيجابي أن تشهد عادات “بيلماون” تجديدا وتحديثا من لدن الأجيال المتعاقبة على الاحتفاء به، فشباب اليوم لديهم تصوره الخاص لهذا الطقس من حيث اللمسة الإبداعية والتنكرية، وتضيف أكشار “هذا الأمر يدعو للتفاؤل وضرورة تطوير منهجية تنظيم هذه العادات الامازيغية، مادام ان من يحييها جلهم من الشباب والشابات الذين وجب ان تمنح لهم هامش من الحرية للإبداع وابراز مواهبهم الفنية في إحياء هذا الطقس الأمازيغي القديم”. إلى ذلك، وجهت أكشار نداء لكافة الفاعلين السياسيين والإقتصاديين والنشطاء المدنيين الفاعلين في الشأن الثقافي؛إلى ضرورة التنسيق وتظافر الجهود؛ من أجل منح هذا الحدث الثقافي تأثير إعلاميا على المنطقة، للدفع بها نحو العالمية. مما سيخلق دعما كبير للقطاع السياحي، والدفع نحو دينامية سوسيو اقتصادية.
هذه الإحتفالات ذات البُعد الديني والروحاني تحولت بمرور الوقت إلى نشاط قائم على التنكر والقناع، يمارس لأغراض الأعياد وكوسيلة لتحرير الذات من القواعد والأعراف الاجتماعية المفروضة.
وفقًا للأكاديميين، كانت هذه الممارسة في الأصل طقسًا دينيًا، أو على الأقل كان لها بعد روحي، مما يفسر الوجود القوي للمقدس الذي يميزها.
من وجهة نظر الانثروبولوجي، يقول بويعقوبي: “طبعا عرفت هذه العادة تحولات عديدة وفي مجالات مختلفة؛ وذلك شأن كل ما هو موروث عن الماضي. وقد يكون ذلك من أسباب بقائها إلى اليوم لقدرتها على التأقلم مع كل سياق. وأهم تحول هم الإطار الثقافي العام الذي تمارس فيه؛ إذ إبتعدت خاصة في المدن الكبرى عن الجانب الروحي المقدس الذي كانت تمارس فيه وأصبح لها اليوم بعد فرجوي فقط”.
ولكي يبرز الأنثوبولوجي بويعقوبي التطور الحاصل على مستوى اللمسات الإبداعية في تطوير زي “بوجلود” يفيد : “ما طرأ من تحول على طبيعة الجلود المستعملة، حيث يلجأ العديد من الممارسين ولأسباب صحية وبيئية إلى تهيئتها وإعدادها شهورا قبل العيد. ولأسباب أمنية، مرتبطة بضرورة معرفة هوية الشخص، لم يعد الممارسون يخفون وجوههم، مع العلم أن عدم التعرف على الشخص شرط أساس في الممارسة ككل”، وزاد قائلا :”التغيير شمل أيضا الأقنعة وأزياء التنكر حيث لم تعد تصنع من المواد التقليدية، بل تأثرت بالأقنعة التي تشاهد في مواقع التواصل الإجتماعي؛ كما يتم اللجوء للبلاستيك وشراء أقنعة معدة بدل الإجتهاد في إبداعها. كما أن الشخصيات التي يتم تقمصها مرتبطة بالحياة المعاصرة وما يراه المشاركون في الكرنفالات العالمية”.
كما رصد بويعقوبي أحد أهم معالم هذه التحولات في ظاهرة “بوجلود” والمتمثلة حسب وجهة نظره؛ في الرغبة الجامحة لدى العديد من المهتمين في تحويل العادة إلى كرنفال عالمي يسهم في التنمية الإقتصادية خاصة على مستوى جهة سوس ماسة”.
عن موق البام .. روبورطاج من إعداد: يوسف العمادي.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.