رجلان من رباط الصحراء.. بين وهم “بؤرة الثورة” وحلم “بئر الثروة”

المفكر حسن أوريد

في 4 يونيه وُوري الثرى جثمان المرحوم محمد عبد العزيز، زعيم جبهة البوليساريو،  ببئر لحو، فيما سمي بالصحراء الغربية، وفي ذات اليوم تحل الذكرى العشرون لرحيل ولد باه، المعروف،  بمحمد باهي، سليل مرابض شنقيط. يلتقي الرجلان اللذان انتقلا إلى دار البقاء، في المحتد،  إذ هما سليلا الصحراء، وهي مجال شاسع واسع لا تحده الموانع ولم  يعرف الحدود إلا في تقسيمات الاستعماريين، وانتقلت تلك التقسيمات إلى منظومة ما بعد الاستعمار التي كرّستها، بله رسختها.

ويختلف الرجلان في أن باهي كان لا يرى في الاستقلال إلا مرحلة للتحرر، وأن إحدى سبل التحرر القطع مع ميراث الاستعمار، ومنها الحدود وما تقوم عليه المنظومة الاستعمارية أو ما بعد الاستعمارية من تقطيع وتبعية. أما المرحوم محمد بن عبد العزيز، فقد انسكب في تلك القوالب، وحمل قضية “الشعب الصحراوي”، وسلك سبل النضال التي لا تتيح دوما التفكير العميق ولا الرؤية الاستراتيجية. فأين يبدأ هذا الشعب، وأين ينتهي، وهل يقترن التقسيم الاستعماري الهندسي في تحديد مجال “الشعب الصحراوي” في ما كان يسمى ب”الصحراء الاسبانية”، وهل يلتقي معطى جغرافي بالضرورة، وهو هنا الصحراء، وكاتب هذه السطور ابن الصحراء، (صحيح غير متنازع حولها، ولكنه رأى النور في مرابضها بين كثيبها ونخليها ونوقها وتشرّب روحها). هل يلتقى معطى جغرافي شاسع وبنية ثقافية موحدة ووعي سياسي جامع؟ وهبنا تجاوزنا هذا الإشكال الجغرافي لفائدة مصطلح لربما قد يكون أقل خلطا، وهو تراب البيضان، فهل نختزله بقدرة قادر في “الصحراء الاسبانية”، وهو ما يجافي الحقيقة، لأننا ينبغي أن نوسع دائرة تراب البيضان التي تمتد من جنوب كلميم بالمغرب، إلى ما يسمى بالصحراء الغربية، فشمال موريطانيا وجنوب شرق الجزائر، وهو المصطلح المعروف في المنتصف الأول للقرن الماضي بالصحراء الغربية، كما عند تيدور مونو التي هي أوسع مدى من المصطلح الحالي..  أنَقْلب الخارطة ونأتي عليها من القواعد، أم نبدي بعض الذكاء بالتعامل إجرائيا مع التقطيع، ونتجاوزه من خلال حرية التنقل بلا موانع. من أجل هدف أسمى،  وحدة الشعوب؟

“لا أعتقد أننا نختلف حول الوجهة، وهي الوحدة والرفعة والكرامة، ولا ضير أن تختلف رؤانا، ولكن، ما العمل حين تكون بعض من تلك الرؤى هي النار التي قد تأتي على الأخضر واليابس”-

كان محمد باهي عارفا  لذلك كله، بحكم مرجعيته وثقافته ووعيه، وكانت له شرعية قلما أتيحت لغيره، لأنه حمل السلاح مع جيش التحرير في 1958 ضد المستعمر الاسباني والفرنسي على السواء، ثم حمل سلاح القلم للدفاع عن الوحدة والتحرر، وعاش تجربة طويلة بالجزائر، مع بداية استقلالها، وعرف رجالاتها، ولذلك فكر المرحوم بومدين أن يجعل منه أول رئيس “للجمهورية العربية الصحراوية”، والتمس باهي مهلة للتفكير، وتذرع بقضاء أغراض له في باريس ليعلن عن رأيه في جريدة “المحرر” المغربية، في مقالين لم تُبل جِدّتهما الليالي، كما يقول المتنبي، ويحملان، في عرفي، جمرة الوصية.

المقال الأول كان موجها لقيادات البوليساريو، قبل أن يشتد عود التنظيم وقبل  أن يستفحل النزاع، بعنوان “لا تجعلوا لينين موظفا لدى فرانكو” بتاريخ 13 غشت 1975. انتقد المقال قيادات البوليساريو  التي توزعت بين مباديء ظاهرها حق، وباطنها باطل، أولاها، أنها تزعم الوحدة، الوحدة المغربية، بله العربية، وتروغ إلى كيانات قزمية (كذا)، فإذا أُفحموا، يقول باهي، استعملوا المدفعية الثقيلة من الزعم بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار النظام الذي ترتضيه. والنتيجة، سواء الزعم بالوحدة أو حق الشعب في تقرير مصيره، هو التستر عن “أهداف لا يجرؤ أصحابها عن الإعلان عنها”.

الدفع  بمشروع تقدمي أو بؤرة ثورية، كما كان يقال آنذاك، وهو ما يحيل إليه المقتضى الأول للعنوان، لينين، يقع في خدمة المخططات الاستعمارية وتمريرها والإبقاء على التبعية من خلال التقسيم.الهدف النبيل المزعوم “البؤرة الثورية” باسم لينين، يتحول إلى سعي محموم نحو “إمارة فوسفاطية” تكون في خدمة الامبريالية، أي المنظومة الاستعمارية الجديدة التي تزعم محاربتها.

أما المقال الثاني فكان موجها  إلى النخب السياسية والمثقفة في كل من المغرب والجزائر وقد نشب النزاع، و استعرّ القتال، بين الأخوة، وسادت عقلية “ألا لا يجهلن علينا أحد…”، والمقال يحمل عنوان “إذهب أنت وربك فقاتلا”، وهو بتاريخ فاتح مارس 1976. فهل يتخندق المثقف  في هذا الجانب أو ذاك؟ وأي خيار سوف يختار الشعبان، وهما، مثلما يُذكّر باهي، شعب واحد؟ يقول باهي: “لو شُرحت لهما القضية شرحا متأنيا، وبُسِطَت لهما أبعادها وجوانبها لنأيا عنها (الحرب)”.. أقف عند هذا المقال، لأني أرى أنه يحتفظ براهنيته، وأستشهد ببعض ما ورد فيه: “إن الحرب ستكون مغامرة كبرى قد يحترق في أتونها جميع الذين أوقدوها، ولو أني كنت لا مباليا، أو ماكيافيليا لصفقت للحرب باعتبار أنها سوف تخرج الوضع المغربي، والوضع في المغرب العربي (كذا) عموما من الحالة الروتينية التي هو عليها.”

أما الشعبان يقول باهي، “فمن المؤكد أنه لو أعطيت لهم الكلمة بحرية مطلقة حول مسألة الحرب، وشرحت لهما أبعادها ومخاطرها الحقيقية، لقالا لكل داعية حرب: إذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون”، صدق الله العظيم.

لم يكن باهي ساذجا كي لا ليدرك أن النزاع يخدم الوضع القائم آنذاك، مما أعطاه دفقا وشرعية، وبتعبير آخر، ف”الخيار الثوري” الذي حمله بعض من شباب الصحراء، هو الذي أسبغ الشرعية على أوضاع متهلهلة، وهو الذي دفع القوى التقدمية بالمغرب أن تتماهي مع القوى المحافظة، وفي نفسها لوعة، لأن “الثورية، كما يقول باهي، مهما بلغت من الصفاء والطهرية والعذرية، لا يمكن أن تكون مبررا للتفريط في الحفاظ على المصلحة الوطنية في مرحلة تاريخية معينة”. ويستشهد باهي ببيت المتنبي الشهير:

           ومن نَكَد الدنيا على الحر أن يرى    عدوا له ما من صداقته بُد

نحن شعب بواحد، ولا أعتقد أننا نختلف حول الوجهة، وهي الوحدة والرفعة والكرامة، ولا ضير أن تختلف رؤانا، ولكن، ما العمل حين تكون بعض من تلك الرؤى هي  النار التي قد تأتي على الأخضر واليابس، ما القول حينا تبور بعض من تلك الرؤى وترهن الحاضر والمستقبل وتشين إلى الذاكرة المشتركة؟

ألا يحق لنا أن نتساءل، أسوة بالمرحوم باهي الذي استشهد بالقرآن الكريم : “أليس فيكم رجل رشيد”؟ وهو، ها هنا،  نداء موجه لكل المغاربيين.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد