في انتظار انطلاق أشغال الدورة الثانية عشرة للجامعة الصيفية ، ننشر على حلقات المحاضرة الافتتاحية التي افتتح بها المفكر حسن أوريد أشغال الدورة الماضية. المحاضرة ألقيت بالفرنسية وتمت ترجمتها إلى العربية من طرف ريناس.
ليس بأمد بعيد وأنا حذاء وسادة والدتي العليلة آنذاك بالديار الفرنسية، أعايدها، حكت لي أمثولة لتشد من أزري حيال تقلبات الدهر ونزوعا ته قائلة : ذات يوم، قام سرب من الطيور بزيارة لقلقة ( اللقلقة في الأمازيغية ذكر)، طلبا إيضاح مسالة :
– عماه ! قل لنا ، ما تصنعه حين تباغتك العاصفة وأنت في ذاك المقام العالي؟
– ألازم عشي – مجيبا الطي- ولا أتململ البتة، لأن كل عاصفة منتهاهاالزوال.
عديد الزوابع التي ضبحت أقطارنا، وقدحت سليقتنا الجماعية من أجل البقاء على قيد الحياة، فاستلبنا ربما، بيد لعشنا قط هجرنا. جيل مضى، جيل الفقيد مولود معمري حيث التقية كتكتيك لا مناص منها من أجل صون الوجودي؛ لذا فقيدنا غلف هذا العمق الوجودي بالثقافي مدركا ميزان القوى أميل إلى حجة القوة من قوة الحجة. السلطات القائمة آنذاك لم ينطل عنها المضمون الحقيقي المبثوث بين ثنايا خطابه، فعاقبته. بديارنا فطنوا فتدبروا لإيقاف المد الجارف، بعض الإصلاحات الشكلية سلط عليها السراج . ضوء أخضر يثار أمام مجلة ستحمل اسم ” أمازيغ” لما له من دلالة رمزية . لكن، أنى لهم القدرة على الإقلاع عن السجية؟ النضال من أجل ثقافتنا سيعري على أنيابهم المقنعة بعد نداء من أجل إعادة كتابة تاريخنا، دبجه الفقيد صدقي ازايكو فدملجوا يديه إلى الوراء ليرمى به حيث اعتقدوا ثنيه يبق التاريخ كما أرادوه، فإذا به أكثر إصرارا وصمودا .
انحنى أجلائنا للعاصفة لتمر كما تصنع اللقلقة . وكيف لا أن لا يتناثر بعض من الريش، جزما، ويجب إعادة التذكير، أن الجرة لن تسلم بدون هذا النمط من المقاومة. محتفظون بالابتسامة بكل تأكيد، الرأس في العلا سائرين نحو المستقبل، معتبرين القذف مشين العيوب ، متحدين كل الصعاب والعقبات بلى لم يحيوا حياة الفانين لأن الفكرة سكنتهم. كل ما يوفر العيش والأسرة والبيت والمنصب والجاه لا يغدو أن يكون ومضات تنطفئ في رمشة عين أمام إنسان متيم بقضية. تحية إجلال وإكبار لأجلائنا الذين اعتبرونا نحن أسرهم وديارهم وجاههم وثرواتهم، هؤلاء العظماء الذين حولوا جروحهم المتلاحقة بلسما لجرحنا الأنطولوجي. المجد لأبطالنا . ما بالوجود سجل يستطيع احتواء كل أسماءهم، ولا كلمات تستطيع إيفاء الحق لتقديرنا لهم. الوفاء لشهدائنا أينما كانوا. كيف لنا هنا أن لا ننحني إكراما لذاكرة عبان رمضان والعربي مهيدي والزرقطوني وعميروش ومحمد مسسعدي وموحا أوهرا وكريم بلقاسم وسيفاو محروك وبوجمعة الهباز وأك باها ى ماكا وماسينيسا كرموح
تحية تقدير وإجلال لشبابنا أينما وجدتم ، أنتم منعشي جذوة ذاكرتنا لرصف سبيل مصيرنا، من أجل ربيع متجدد، من أجل ربيع ثالث يكون أخضرⵜⴰⴼⵙⵙⵓⵜ ⵜⵉⵙ ⴽⵕⴰⴹⵜ ⴰⴷ ⵜⴳ ⵜⴰⵣⴳⵣⴰⵡⴰⵜ، ربيع مزهر ومخصب، من أجل مسيرة حقيقية إلى الأمام ، ⵏ ⵜⵡⴰⴷⴰ ⵖⵔ ⴷⴰⵜ ⴰⵢⵜⵎⴰ ⴷ ⵉⵙⵜⵎⴰ : لما بسط رحيق حقوق الإنسان جناحيه، غداة انهيار جدار برلين، سادة الأعماق هنا وهناك خانتهم القدرة على تجاهل اللقلقة وهي متربعة على عرشها في الأعالي، اللقلقة أو الصقر مستعيرا صورة تلك القصيدة الرائعة لمحمد شفيق “ⵉⴷⴷⴻⵔ ⵡⴰⵢⵢⵓⵔ”. تم حبس الصقر في حظيرة وسط دحاحات يحمن حوله مستهزئات. صحيح تم إخراجه من الحظيرة آملين تدجينه، بلى أنه مغلول وعلى فطرة الطيران مفطوم إلى الأبد …
وما زالت الزوابع تعصف من هذا الشركي الاديولوجي الذي اعتدناه لعقود مضت وما زال يعصف إلى الآن، لكن تذكروا جيدا ما حكته لي أمي ” كل زوبعة منتهاها الزوال” ، بيد كيف سيعود إلى طيرانه ؟ أليس هذا هو السؤال؟
اللقلقة أو الصقر سيزيل عمامته الثقافية مرتديا صولجان وجوديته. مرفوع الرأس يمشي كالعظيمين يوغرطا و ديهيا، متقد الفكر ليعدو كالمبجلين أمنال ماسينيسا وأراغ المدعو القديس أغسطس وميمميس ن تاشفين (ابن تاشفين) . الصقر أسقط القناع وهد أصفاد الخنوع. أضحى أوطد الإرادة للفعل وصنع التاريخ. انبعث من تحت رماد الوصاية المفروضة عليه كجمرة أججت سعيرا في تلابيب الناسخ. غدا يفكر ويتأمل قبل تحليقه. ترى ما الذي يدور في أعماقه أثناء تأمله الذي نحن شهود إثبات ؟ في الأثيل، الجغرافية واقع، القفز عليه منيع، ولا غير ارنست رينان يتملك الدقة في تقويم أوالية المجال الترابي، لنسميه القاعدة الجغرافية ، الإطار أو المسرح الذي تدور فيه الملحمة. ” الأمة يقول رينان تنشأ عن زواج مجموعة بشرية مع أرض” الأرض هي الرحم، الإنسان البذرة” . لا ريب أن القاعدة الجغرافية تكون أبدا فريدة الشكل. الشعب أو الفاعل الرئيسي في المشهد الذي يسكن المجال وينتسب إليه غالبا ما يحمل نفس الاسم : العرب بالنسبة للجزيرة العربية ، والسوريون بالنسبة لسوريا – وكم كان هذا المفهوم عزيزا لدى منظر الوطنية السورية المفكر أنطوان السعدي – والطورانية الحاضنة الإيديولوجية لشباب تركيا، بالنسبة لسلسلة جبال طوران. والإيجيبت (مصر) بالنسبة للكوبتوس التي ولدت فيما بعد القبط بالانزياح السيمنطيقي المعروف. وعليه نستشف أمثلة عديدة كفرنك وفرنسا مثلا.
هذا الفضاء الذي هو فضاءنا ،لحقب مديدة يشار إليه بالبربريا (مع كسر الباءين وترقيقهما) أو بلاد البربر إلى عهد غير بعيد في المصادر العربوفونية ، وهو الإطار الذي عاش وما زال الأمازيغ يعيشون فيه، كما المسرح الذي أوى ملاحمهم وانكساراتهم بكل تأكيد ومشاهد لم يكتب لها أن تصل إلى النهاية،ولكن أيضا مآثر بطولية مجيدة. إذن تعتبر القاعدة الجغرافية العنصر الأساسي الذي وجب علينا تحديده ومن حسن حظنا أن المهمة يسيرة ما دام الفضاء محالا مشتركا ومتلاحما كما أن قاعدتنا الجغرافية معترف بها سواء لدى القدماء بدءا بالإغريق وانتهاء بالعرب مرورا بالفينيقيين والرومان فضلا عن القوى الأوروبية الحديثة . هذا الفضاء المخترق لحدود مصر ممتدا من واحة سيوا شرقا إلى ضفاف المحيط الأطلسي محتضنا حزر الكناري غربا، ومن البحر الأبيض المتوسط في الشمال إلى الصحراء الكبرى في الجنوب. الميزة الأساس لهذه القاعدة الجغرافية هي اللسان ، الذي يجسد عبقرية شعب في تفاعله مع وسطه.علاقة بالنوع، تبقى الحدود الجغرافية مفصوحة باللسان ما في ذلك ذرة شك، غير أن ما تتعرض له الشعوب من تيارات الهجرة وتأثيرات التثاقف، تلعب الطبونيميا كميزة أخرى للإغارة متى كف اللسان عن لعب دوره . انشر خريطة أمامك ودع بصرك يمسح أسماء الأماكن بما فيها المناطق حيث اللسان الأمازيغي مقتلع، يجاهر بصيرتك بأي لسان تلعلع. ولما يصلح الطبونيم إن لم يكن بينة على أقوام سكنوه ولو بعد رميم؟ فاس، تطوان، أنفا،تازروت ،لاغوات،تيشلا، بوتيلميت، فزان،تاجورا، تالا، هي علامات عديدة تدل على قاطني هذه الأمكنة حتى ولو توقف اللسان الأصلي عن التعبير.
اللغة في مقام التعبير عن عبقرية شعب، على منهجه في التفكير والتدبر وفلسفته في الحياة. الأمة-الوطن مع اللغة ملتحمان متعايشان داخل نفس لب الجوهر دون أن تبخس اللغة على حد تعبير فيخت في ” خطاب إلى الأمة الألمانية “. كما يضيف عنصرا آخر وهو الأكثر أهمية من وجهة نظري وهو طريقة عيش الحياة وإدراكها والتفكر فيها. اللغات تطور كما اللهجات يمكن أن تفصل، كالشعوب أيضا يمكن أن تغير تحت ظرف عديدة اللغة لكن لماما ما تغير طريقة الشعور والحياة. إيطالي اليوم لا يتحدث مطلقا اللاتينية لغة أسلافه اليوم، بيد أنه ما زال وعاء استمرارية العبقرية اللاتينية. كذلك المصري استبدل عبر الحقب العديد من اللغات ولكن حفظ دائما على ما يحدده نعوم تشوميكي بالبنية العميقة وما يسميه طه حسين الشخصية المصرية. وهي نفس الفكرة التي اعتنقها الجغرافي جمال حمدان. المغاربي أو الأمازيغي يستطيع دائما التحدث بالأمازيغية كما لا يستطيع أن يتحدث بها،ولكن في جوهره لا يمكن أن يخلو من عبقريتها.لهجاتنا الموسومة بالدارجة مبصومة بعبقرية الأمازيغية، وهذا يشف من نبرة دوارجنا، من التركيب والقاموس ونمط تفكيرنا وسلوكنا بالخصوص؛ كما الأردني في استرساله دون أن يدري، هكذا المغاربي الغير الناطق بالأمازيغية يتحدث بها دون أن يدري،بالخصوص أنه يفكر من داخلها وبها يتفاعل مع الخارج. وبالتالي اللغة هي مستودع عبقرية شعب. إنها ذاكرته، بل أيضا شيفرة جينه الثقافي التي تحوي نظرته إلى العالم كما تحددها. اللغة الأمازيغية تجسيد لعبقريتنا.أمام تقلبات التاريخ التي دفعتها إلى التحصين وما زالت تحمل قيمة الرمز. للتذكير مبدئيا أن لا يوجد شعب يرضى التضحية بلغته. يمكن أن تكون عامية، متخلفة ، لكن تنتمي بالنسبة لمتكلمها إلى أمه. مهما عددت عوزها وعاهاتها سيواجهك ببيت لموليير بعد تحويره : القرد في عين أمه غزال.
لغة الحياة الغير المثقلة بأوزار القداسة والصورية التي تقصم ظهر الإرث، لغتنا الأمازيغية لها القدرة على التطور بكل يسر وسلاسة. أستسمحكم أن أصرح أن اختيار خط تدوينها سيحتم مصيرها.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.