تارودانت: الروائي صلاح الدين أقرقر في قراءة للمشهد الثقافي.

أزول بريس- سعيد الهياق//

“كوفيد 19” هل هو رصاصة الرحمة أم قبلة الحياة للمشهد الثقافي بمدينة تارودانت؟

الثقافة… تلك السلعة التي بارت أو تكاد، ذلك المنتوج الذي يتناقص زبناؤه يوما بعد يوم لعدة أسباب يمتزج فيها ما هو سياسي بما هو اجتماعي بما هو اقتصادي… ذلك المجال الذي يعاني من أزمة بنيوية تتعمق دون أن تجد من يصف لها الدواء الناجع. هل جاء “كوفيد 19” ليطلق عليها رصاصة الرحمة، أم أنه على العكس من ذلك منحها قبلة الحياة؟

إن أي متشائم لن يتورع عن الإجابة بنعم دون أن يجشّم نفسه مشقة التفكير العميق، ولكن الإجابة عن السؤال بموضوعية تستوجب التروّي ومحاولة الإحاطة بالموضوع من كل جوانبه لعلنا نبصر بصيص ضوء في آخر النفق الذي يبدو من الوهلة الأولى حالك الظلمة.
لا يخفى على أحد حجم الضرر الذي خلفه “كوفيد 19” على كل مناحي الحياة، ولم يكن غريبا أن ينال هذا الضرر من المشهد الثقافي الهش ليزيد أوضاعه سوءا عما كانت عليه من قبل. فكيف كان الشأن الثقافي بمدينة تارودانت قبل الوباء؟ وكيف صار أثناءه؟ وكيف يمكن أن يصير بعده؟

رغم قتامة المشهد الثقافي في المغرب بصفة عامة إلا أن مدينة تارودانت عرفت في السنوات الأخيرة نهضة ثقافية وهبّة أدبية غير مسبوقة يشهد لها الغرباء قبل أبناء المدينة، ولعل ذلك يعود لأسباب كثيرة من أهمها بروز مجموعة من الأدباء والكتّاب على الساحة الثقافية مما أثرى حصيلة الإصدارات المحلية في شتى المجالات الأدبية خصوصا في الرواية، وهذا ما خلق دينامية ثقافية وطبقة من القراء سارعت إلى التفاعل بشكل إيجابي مع هذه الإصدارات التي حقق بعضها نجاحا كبيرا حتى على الصعيد العربي، وليس أدل على ذلك نسبة مقروئيتها العالية، بل وفوز بعضها بجوائز عربية مهمة. كما عرفت المدينة مجموعة كبيرة من الأنشطة الثقافية شهدت زخما كبيرا مثل حفلات توقيع مجموعة من الإصدارات لمبدعين محليين وآخرين من مختلف ربوع المغرب، وتنظيم المعرض الاقليمي للكتاب في نسخته الأولى والذي عرف مشاركة كبيرة لمختلف دور النشر والمكتبات المغربية، إضافة إلى ندوات فكرية وعروض ثقافية أخرى، وما كان لكل هذا أن يحصل لولا وجود مديرية ثقافة واعية بالأدوار المنوطة بها، ووجود مكتبات في المستوى الكبير أسهمت بشكل ملحوظ في هذا الحراك الثقافي المهم. ولم يقتصر الأمر على مجال الأدب فقط، فلا يمكن إغفال معارض الفنون التشكيلية ومهرجان التبوريدة اللذان أضفيا على المشهد الثقافي في المدينة رونقا خاصا.

كان كل هذا قبل “كوفيد 19”. فما الذي حدث بعد ذلك؟

جاء الوباء يجر خلفه حجرا صحيا ثقيلا أرخى ظلامه على كل شيء، وجمّد الدماء في كل عرق كان ينبض بالحياة، ولم يكن المشهد الثقافي بمدينة تارودانت ليسلم من ويلاته، فقد أغلقت المكتبات أبوابها، شأنها شأن كل المؤسسات الثقافية الأخرى، مما أصاب المشهد بشلل تام حتى أصبحت الأنشطة الثقافية ترفا لا يصح الكلام عنها ولا يمكن التفكير فيها بعدما صارت في ذيل قائمة الأولويات، فلم يكن هناك من ملاذ للمهتمين بالشأن الثقافي، الذين لا تحلو لهم حياة بدون جرعات ثقافية يتلذذون بها نكاية في الوباء، سوى الثقافة عن بعد عبر استغلال كل منصات التواصل الاجتماعي التي تحولت بين عشية وضحاها إلى صالونات ومقاه أدبية تعجّ بالمريدين في نقاشات تمتد لساعات طوال من أجل تعويض ما يمكن تعويضه، ولعل ذلك لم يكن بالسوء الذي كان متوقعا، فقد انخرطت في هذه الأنشطة فئة كبيرة من الشباب المهووسين بالتكنولوجيا الحديثة بعدما شعروا -ربما- أن الثقافة التي كانوا يرونها بعيدة عنهم كل البعد قد اقتحمت عليهم خلوتهم الالكترونية دون سابق إخطار، وراحت تغازلهم بدل أن يغازلوها، فرب ضارة نافعة…

لا يختلف اثنان على أن الثقافة عن بعد لا يمكن بتاتا أن تحل محل الأنشطة الحضورية وتسدّ مسدّها، ولكن للضرورة أحكامها، وما هي إلا فترة وجيزة حتى تعود المدينة تنبض بالثقافة كما كانت وأكثر…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد