القدس بين صلاح الدين الأيوبي ويعقوب المنصور الموحدي..

سنحاول -مما توفر لدينا من وثائق- أن نطل على القدس من خلال الصراع السياسي بين المشارقة والمغاربة، وسنأخذ كمثال الصراع السياسي بين صلاح الدين الزعيم الفعلي للإمبراطورية الاسلامية في الشرق الإسلامي، وبين الزعيم المغربي يعقوب المنصور زعيم الإمبراطورية الاسلامية في الغرب الاسلامي والممتدة من ليبيا إلى الاندلس وإلى تخوم واد السنيغال (وكان التنافس بينهما قويا).

وسنعتمد هنا على حدث تاريخي، أوّله الكثيرون حسب هواهم الايديولوجي سواء منهم المشارقة أو المغاربة المؤدلجين بالايديولوجية القومية من خلال مواقفهم التي تلوم فيها يعقوب المنصور الموحدي لأنه لم يستجب لطلب صلاح الدين لنجدته (كما لاموا يوسف بن تاشفين في سجنه للمعتمد بن عباد، وسنرجع ألى هذه القضية في مقال آخر).

سنقف عند أحد الكتاب المغاربة وهو عبد الله كنون الذي أنصف يعقوب المنصور من خلال قراءة الحدث في ظرفه التاريخي بدلا من الانسياق إلى العاطفة والايديولوجيا، كما أنصف يوسف بن تاشفين أمام الاتهامات العنصرية لكثير من الكتاب والمؤرخين الذين لاموا يوسف بما فعله بالمعتمد بن عباد نتيجة خيانته.

فالقدس تحتل في الوجدان المغربي مكانة روحية بعد مكة ، كما تحتل بعض المزارات الهامة في المغرب (مزار سيدي حماد اموسى وغيرها) مكانة هامة عند المغاربة بعد مكة. كانت القدس قضية روحية ودينية لدى المغاربة قبل أن يحولها القوميون المغاربة إلى ورقة عرقية كما حولها الاسلاميون إلى قضية دينية أممية (وليست قضية شعب محتل).

القدس عند الأنظمة الشرقية ليست هي القدس عند أغلبية المغاربة، عند المشارقة هي ورقة سياسية دينية، وعند المغاربة مسألة روحية. في حرب اكتوبر 1973 مثلا ، أرسل المغرب تجريدة عسكرية إلى الجولان وحاربت بشجاعة لكنها تعرضت إلى الخيانة من أصحاب الأرض الذين تدافع عنهم ،فاضطرت إلى الانسحاب بعد خسائر فادحة في صفوفها. بعد إحراق المسجد الأقصى (مسجد القبة) في القدس دعا الملك الراحل إلى عقد القمة الاسلامية في الرباط سنة 1969 نتج عنها إقامة منظمة التعاون الإسلامي، واعبار القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، بعدها ب 20 عاما أي سنة 1989 أثناء انعقاد مؤتمر منظمة التحرير الفلسطينية في الجزائر العاصمة تلقى المغرب طعنة غادرة حين شبه الفلسطينيون المغرب باسرائيل والبوليزاريو بالفلسطينيين، ومع ذلك بقي المغاربة مناصرين لقضيتهم حاملين قضية القدس كقضية روحية ليترأس المغرب لجنة القدس ماديا والسياسيا.

لنعد إلى قصة صلاح الدين ويعقوب المنصور، وكيف استغلها صلاح الدين استغلال ماكرا (ومعروف عنه أنه سياسي داهية ، تراحع كتابات يوسف زيدان عن صلاح الدين).

القصة أوردها بعض المؤرخين القدامي دون ذكر تعليل الرفض ومنهم عبد الواحد المراكشي، وأوردها ابن خلدون بدوره: “وبعثه إلى المنصور بهدية، ووصل إلى المغرب، ووجد المنصور بالأندلس، فانتظره بفاس إلى حين وصوله، فلقيه وأدى الرسالة، فاعتذر له عن الأسطول.. ويقال إنه جهز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولا، ومنع النصارى من سواحل الشام، والله أعلم “، بزيادة جملة “ويقال.. والله أعلم”.

كما أوردها صاحب الاستقصا: “ولما وقف عليه المنصور – أي لما وقف المنصور على كتاب صلاح الدين- ورأى تجافيهم فيه عن خطابه بأمير المؤمنين، لم يعجبه ذلك، وأسرها في نفسه، وحمل الرسول على مناهج البر والكرامة، ورده إلى مرسله، ولم يجبه إلى حاجته.. ويقال إنه جهز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولا، ومنع النصارى من سواحل الشام، والله أعلم “.كتاب الاستقصا، الجزء 2، ص 163. دار الكتاب- الدار البيضاء، 1954.

مع ملاحظة أن جملة “ويقال.. والله أعلم” يؤكد أن الخبر مشكوك فيه.

أما بعض الكتاب المغاربة في عصرنا الذين تأثروا بايديولوجية القومية العربية فهم يعيبون على المنصور الموحدي ما فعل، منهم عبد المجيد بن جلون حين كتب: ” ولكن يعقوب المنصور أخطأ خطأ كبيرا حينما أرسل له صلاح الدين الأيوبي يطلب منه مؤازرة أسطوله..”، كتابه “هذه مراكش”، مطبعة الرسالة، ص 30. ويمكن تفهم موقف عبد المجيد بن جلون هذا لأن الكتاب كتبه للمشارقة حيث افتتح الكتاب بتقديم من الأمين العام للجامعة العربية عبد الرحمان عزام باشا؛ ومنهم كذلك عبد القادر الصحراوي الذي أدان ما فعله المنصور(مجلة دعوة الحق، عدد 1 سنة 1957)…

لكن بعض الكتاب المغاربة أنصفوا يعقوب المنصور وقرأوا ما فعله بربطه بسياقه التاريخي، الذي كانت فيه نوايا وأفعال صلاح الدين الأيوبي معادية للامبراطورية الموحدية (توسيع حدوده بغزوه ليبيا وضمها إلى دولته، وكانت أجزاء من ليبيا تابعة للامبراطورية الموحدية )، وكان هذا الغزو من صلاح الدين سببا في تشتيت جهود الموحدين بين تأمين الحدود الشرقية لامبراطوريتهم أمام أطماع صلاح الدين للتوسع في افريقيا وبين تأمين حدود الاندلس. ومن هؤلاء الكتاب الذين قرأوا الحدث بربطه بسياقه التاريخي عبد الله كنون الذي كتب في كتابه “النبوغ المغربي” ما يلي:

“وقد اشتهر أن السلطان صلاح الدين استنجد بيعقوب المنصور في حربه مع الصليبيين على بيت القدس، ورجاه أن يبعث بأساطيله ليحول بينه وبين أساطيلهم المتدفقة على بلاد الشام فلم يجبه، وأن ذلك فيما يروي المؤرخون لكون صلاح الدين لم يخاطبه في ل رسالته بأمير المومنين. وهذا تعليل بارد لا نراه يتفق مع أخلاق المنصور وعلى علو همته وبعد نظره، وإنما الحقيقة أن صلاح الدين كان سرّع مولاه قاراقوش لبلاد المغرب سنة 568ه ففتح طرابلس، وما ولاها من البلدان ووضع يده في يد العرب وابن غانية وشغّب كثيرا على المنصور مما سبب له متاعب جمة في بلاد افريقيا، لولاها لكان له في بلاد الأندلس فتوحات عظيمة لا تقدر بثمن. فهذا هو السبب الحقيقي في إعراض المنصور عن نجدة صلاح الدين الذي ضربه من الخلف وأراد أن يغرّر به لإتمام الضربة”. كتابه” النبوغ المغربي” ص 107.

لنأخذ الجملة الأخيرة الهامة مما كتبه عبد الله كنون عن صلاح الدين في طلبه النجدة من يعقوب الموحدي “وأراد أن يغرّر به لإتمام الضربة “، فطلب النجدة هو موقف سياسي من صلاح الدين أراد منه استغلال القدس لإضعاف الموحدين في وقت كان فيه هؤلاء يتصدون لحملات التوسع التي قام بها صلاح الدين في ليبيا لضمها إلى الامبراطورية الاسلامية في الشرق وفي الاندلس دفاعا عن مسلميها؛ وكان يتصدون في نفس الوقت لأطماع الممالك المسيحية في الاندلس (انتصار الموحدين في معركة الأرك).

ما فعله المنصور الموحدي هو موقف سياسي محنك أراد الاحتفاظ بأسطوله المغربي القوي لحراسة وصد الهجمات المسيحية في غرب البحر المتوسط وفي الاندلس (معركة الأرك التي انتصر فيها) والحفاظ على قوة الإمبراطورية المغربية أمام أطماع صلاح الدين لتوسيع امبراطوريته غربا أي في الأراضي الخاضعة للامبراطورية المغربية (ابتداء من غرب لبييا إلى المحيط الأطلسي) …

الحسن زهور

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد