العالم تغير، فهل سنتغير؟

دكتور-حسن-اوريد
الدكتور حسن اوريد

حسن أوريد //
_______________________________
في أول خرجة إعلامية للأمين العام الجديد للأمم المتحدة، أونتونيو كتيتريس، اعتبر أن معالم العالم تغيرت ولم تستو على أنموذج، فهو لم يعد بالنظام الأحادي، ولا هو بالثنائي القطبية، ولا استوت معالم تعددية قطبية، تقوم على مبادئ توازن القوى، كما في عالم ما بعد 1815 بعد هزيمة نابليون. نحن أمام شيء جديد، مرشح على كل الاحتمالات، بما فيها الحروب، والجريمة العابرة للقارات، وطبعا الإرهاب… أو بتعبير الأمين العام للأمم المتحدة، أضحى العالم أكثر خطورة.
يمكن أن نقف عند هذا المقتضى الأول، ونرصد أشكال هذا المولود وملامحه، والميكانيزمات التي يمكن أن تصاحبه، كما لو هي جملة التلقيحات التي يُلقَّح بها الوليد ليواجه الأمراض المحتملة.
ويمكن أن نذهب أبعد، ونعتبر أن المعطى الجديد بقدر ما يحمل من مخاوف، بقدر ما يفتح من آفاق… على الأقل في هذا الحيز الضيق، جغرافيا، والواسع، وجدانيا لأنه يموج بقضايانا ويحمل آمالنا، بلادنا… يمكن للمعطى الجديد أن يحمل آفاقا أرحب، ويمكن أن يفرز نخبة جديدة (أو نخبا)، تكون في مستوى الظرف، وفي مستوى التحديات… فلنلق نظرة موجزة على هذا التقاطع ما بين العالمي والوطني. أتاحت الحرب العالمية الثانية للحركة الوطنية الانتقال إلى مرحلة أكثر جرأة، وأفرزت نخبة جديدة. لم ينشئ سياق الحرب العالمية الثانية خطاب الحركة الوطنية ولا عناصرها، ولكنه أتاح لها أن تُعبّر عن ذاتها بشكل أوضح وأكثر جرأة. يمكن أن نعطي مثالا آخر كيف أن سياق ما بعد الحرب الباردة، أتاح تفتق خطاب حقوق الإنسان، والدمقرطة، والتنوع الثقافي… كما لو أن السياق الدولي فصل ربيع يحمل الدفء الذي يتيح للبذور الثاوية في عمق التربة أن تشق أديم الأرض، فتظهرَ وتينع، خطابا ونخبا. وكان للسياق الدولي أن ينتصب كابحا أيضا، ويمنع الدينامية الدولية من أن تتفتق، أو على الأقل، أن تحد منها ويكبح جموحها، كما في الحرب الباردة، حيث طُمست الاتجاهات التحررية، أو سياق ما بعد 11 سبتمبر، الذي أنعش المقاربات الأمنية على حساب الديناميات الداخلية… ويمكن أن نقول ذات الشيء عن الاقتصاد… رؤانا الاقتصادية وخيارتنا هي تلك التي يفرضها التوجه العالمي، وهي التي تفرز النخب التي من شأنها أن تنجز تلك الخيارات. بل يحدث ألا تتغير تلك النخب، وتغير خطابها وسلوكها… رأينا كيف أن اشتراكيين من المفترض أن يدعموا دور الدولة بصفتها ضابطة، وحامية للنسيج الاقتصادي، انتصبوا دعاة لليبرالية السريعة (توربو) أو الهوجاء… من خوصصة وإجهاز على القطاعات الاجتماعية، ورفع الحواجز بدعوى التحرير.
نحن الآن أمام معطى دولي جديد، سياسيا واقتصاديا. أو فلنقل أمام فصل (دفء) جديد، ولم تبرز البراعم التي تضطرب في عمق تربتنا بعدُ، أو لم تتحدد معالمها، خطابا ونخبا…
السياق الدولي لن ينشئ الخطاب الجديد على المستوى الوطني، ولن يفرز النخبة أو النخب الجديدة، ولكنه سيتيح للخطاب الجديد أن يظهر، وللنخبة التي تحمله أن تتفق…
من يُصْخِ السمع لخلجات مجتمعنا وأنّاته، يحس أننا على مشارف خطاب جديد، ونخب جديدة… تبرز إرهاصاتها من حين لآخر. يتم التعبير عنها، كما في بداية كل مخاض بشيء من الغموض والاندفاع أحيانا. تظل نُثارا موزعا، كما نُثار الغيم، يمكنه لو هو يلقى بمحفز Catalyseur أن يتحول غيثا… ليس هناك معطى سيء أو معطى جيد. هناك فرص، قد يحسن استغلالها من له المؤهلات والنُّفَس الطويل، ويضيعها من يعدم المؤهلات والصبر والأناة. العالم الجديد ينفتح على أخطار، ولكنه يمكن أن يتمخض بالنسبة لبلدنا على فرص، شريطة أن نفرز النخبة القادرة على الالتئام معه، والاستفادة من سوانحه…
أحب أن أستشهد ببيت للشاعر الألماني هولدرن: «كلما كبُر حجم الأخطار المحدقة، كلما كبر بذات الوقت ما من شأنه أن ينقذنا»، أو الحكمة الواردة في اللسان العربي: ما ضاق أمر إلا انفرج…
وسينفرج إن تحلينا بالجدية، ونأينا عن الارتجال، واعتمدنا العمق، وميزنا بين الغث وبين السمين، ولم يصرفنا الغث عن السمين، أو العارض عن البنيوي…
وما أرى سافرا، هو غلبة الارتجال، وتفشي السطحية، والانصراف إلى القضايا الهامشية، والابتذال في القول، والمراوغة في الفعل والافتراء في الخطاب. أو هذه الحالة التي عبّر عنها الشاعر ما قبل الإسلام (ما يُعبر عنه بالجاهلي، وهو حُكم قيمة:
لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم // ولا سُراة لهم إذا جُهّالهم سادوا
وأحس بدبيب الجدية، والعمق، والقدرة على التمييز، في أحشاء المجتمع… فمتى ستتفتق وقد هلّ فصل جديد؟

*مستشار علمي بهيئة التحرير مجلة زمان (العمود الشهر بمجلة زمان)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد