الصحافة بالمغرب ما بين المهنة والرسالة

د. حسن أوريد –

كانت الصحافة المستقلة في المغرب مَن حمل أريج التغيير في نهاية التسعينات. خلخلت الطابوهات، وزعزعت المتواضع بشأنه، وأماطت اللثام عن الأمورتا Omerta أو المسكوت عنه. أزعجت وأغضبت، ولكنها كانت البرعم الذي يبشر بالانعتاق والطير الذي يحلق معلنا الربيع. ربيع التناوب، وحقوق الإنسان، والتنوع الثقافي.

كنت في خضم الزفة، في تجربة فريدة حملها شباب تسلحوا بالجرأة. كان الحماس والصدق يشفع حيث تنقص التجربة، بل كان للتجربة أن تكون غلا، تُدخل الصحافي في دائرة الحسابات والإشارات والمساومات والتسويات… فتحت تلك الصحافة ملفات معتقل تازمامارت الرهيب، وسمحت للمناضل أبراهام السرفاتي بالحديث وكان يعيش بالمنفى محروما من جنسيته، وأتاحت لمليكة أوفقير أن تتكلم عن مأساة أسرتها، وجأرت برحيل الرجل القوي زمانه إدريس البصري، مثلما فتحت صدرها لأنّة الثقافية الأمازيغية التي كانت ساعتها تحت الحِجر، واستمعت لأطياف الإسلاميين من دون فكرة مسبقة، وطرحت قضية الإقامة الجبرية المضروبة على زعيم جماعة العدل والإحسان، المرحوم عبد السلام ياسين.

في تلك الفترة الملتبسة، كانت الصحافة الحرة رديفا للتناوب، وحاملة مشعل التغير وباعثة للأمل، ولكن علاقتها والسلطة ما لبثت أن ساءت .. ساءت لعدة اعتبارات منها ما تحلّت به الصحافة من جرأة أضحت مزعجة، ومنها أعشاب طفيلية غزت حقلها، ومنها سوء مهنية لبعض منها، فكان الانحدار إلى صحافة حديث المقاهي بعد صحافة مقرات الأحزاب… ومنها سطوة أمنيين، وتواطؤ أصحاب المهنة، وبسط الرأسمال سطوته بإشهاره وإغرائه. لم تعد الصحافة وظيفة أو رسالة، بل مهنة يعيش منها المرء، يداري ويجاري ويناور فيلبس لكل حالة لبوسها.. الأقلام الحرة انزوت أو دُفعت إلى الهجرة، ولم يبق من علاقة سوى زواج المتعة، ولربما الأسوأ، لمن يؤدي أكثر، إلا في حالات قليلة من لدن أقلام حرة وشخصيات ملتزمة، تؤدي ثمنا غاليا من أجل ذلك.

على من تقع مسؤولية هذا الشقاق؟ الصحافة هي الطرف الضعيف في العلاقة مع السلطة. أخطاؤها، مهما كبرت، مثلما يقول دو توكوفيل، هي أقل ضررا من الصوت الواحد، والحكم الواحد… يتم ترتيب هذه العلاقة في الدول الديمقراطية من خلال القانون، ومن خلال ضوابط مهنية وأخرى أخلاقية كذلك.. أي من خلال ثقافة مستبطنة من لدن أصحاب القرار وأصحاب المهنة… رجل السياسة شخصية عامة، وكل ما يرتبط بالحياة العامة يهم أو ينبغي أن يهم الرأي العام… قد يخطيء الصحافي، وقد يزيغ، ويُصوّب خطأه حينما يخطيء، ويعتذر حينما يزيغ.. ليس في منأى عن المحاسبة أمام القضاء، وأمام تنظيم المهنة، والأهم أمام قرائه، وأمام ضميره.

يعرف الصحافي، أن الديمقراطية لا تستقيم من دونه، هو وحدة قياس حرية التعبير الذي تُجسُّ به الحالة الصحية لجسم مجتمع حديث، وعافية ديمقراطيته واستقلال قضائه وسلامة نخبه.. لذلك كانت الصحافة أنبل مهنة حينما تكون في خدمة المستضعفين، كما يقول ألبير كامو، وقد تكون أرذلها إن اصطفت في صف الأقوياء، وبوقا لهم تشوه الحقيقة وتفتري على الحق.

تعيش الصحافة بالمغرب تحديات كبرى. تتأثر بالعلاقة الملتبسة مع السلطة، أو ما يُنعت بسوء الفهم الكبير. وتتأرجح هذه العلاقة من العلاقة المصلحية، أو زواج المتعة، إلى علاقات الشقاق والتنافر، الأمر الذي يترجم بملاحقات، وتضييق، تختلف فيه الأساليب، من تجفيف المنابع، إلى المتابعات، باسم القانون، والقانون ليس بالضرورة صنو العدل، بل إن أسوأ أشكال الاستبداد هي تلك التي تجري باسم القانون، كما يقول مونتسكيو، فضلا عن المتابعات الجانبية ذات الطبيعة الأخلاقية، لقضايا حقيقية يتم التضخيم فيها، وقد تدخل في نطاق الحرية الفردية، أو الأسرار المرتبطة بحياة المرء الشخصية أو ذمته المالية، أو قضايا افتراضية بناء على الإشاعات، أو مفبركة، هذا فضلا عن النهش والتشويه، من لدن أصحاب المهنة ذاتها إما بإيعاز من السلطة، أو بردود فعل بافلوفية.

ليس في الأمر جديد، والجديد هو ما تعيشه الصحافة المغربية من أوضاع غير مسبوقة، منها بزوغ الصحافة الرقمية التي أخذت تقضم من مجال الصحافة الورقية. وتختلف الصحافة الرقمية عن الورقية، في طبيعة الآني، والعابر، وتتميز عنها في اتساع رقعة المتتبعين لها. ما قد تكسبه الصحافة الرقمية من اتساع طيف المستفيدين، قد تخسره من حيث عمق التحليل ودقة التحقيق.. مما يفرض على الصحافة المكتوبة تحديد مهامها مع الصحافة الرقمية. بيد أن أكبر تحدي ليس هو فقط العلاقة الملتبسة مع السلطة، فذلك معطى بنيوي، ولا التطورات الجديدة، بل ما تعيشه الصحافة من مشكلة وجودية.. هل الصحافة صورة تنطبع فيها صورة المجتمع، كما تنطبع صورة الواقع على الكربون بتناقضاته وأهوائه ومصالحه، أم أنها كاسحة ألغام، تتصدر الصفوف، لتستشرف المستقبل، وتفك خبل الواقع، وترصد التغيير ؟

في ظروف عادية يجوز للصحافة أن تكون صورة للواقع، أما في ظروف استثنائية حيث يموت القديم، قبل أن يولد الجديد، حسب الصورة التي قدمها كرامشي، فليس للصحافة أن تركن لدور الكاربون، فهي ليست وحدة مقياس حرية التعبير، والديمقراطية فقط، بل الُمشرحة التي تهييء للتغير ..إذاك لا تكون مهنة، بل رسالة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد