السلعة والزبون والشبكة..

عز الدين بو النيت //

لكل ما سبق، فإنني شخصيا، لا أطالب ابدا بالكف عن التفكير في وضع تشريع إيجابي ينظم علاقتي بالشبكات ويحميني من تعسف مستعمليها، ويصون حياتي الشخصية وخصوصياتي، ويحمي مصالحي الصغيرة، في وجه المصالح العملاقة التي تكتسح هذا الفضاء، ويحمي ايضا مصالح بلدي وشعبي العامة. ليس لدي أدنى شك في جدوى وجود هذا التشريع وضرورته. ولذلك لا أخلط بين رفض مقتضيات مائعة تروج هذه الايام، وبين رفض مبدأ تقنين مجال الشبكات الاجتماعية، لما فيه مصلحتي.

سيدتي، سيدي!..

حين أجلس أمام جداري (حسابي) في اي شبكة اجتماعية، وأشرع في استعمال هذا الفضاء التواصلي، اضع في ذهني دائما أنني لست سوى اضعف طرف في العلاقة التي تنشأ بيني وبين هذه الشبكة. قد أنسى أحيانا هذه الحقيقة فيخيل الي انني انا مركز الشبكة، والحال انني، في مفاهيمها الرياضية، لست سوى عقدة (noeud) من بين ملايير العقد التي تعالجها لوغاريتماتها، عقدة تلتقي عندها عدة علاقات، تربطني بعدد من العقد المماثلة. ثم إنني من جهة أخرى لست شخصا قائما بذاته، وإنما أنا ملف يتضمن معطيات؛ أنا مجرد سلعة من السلع التي تسوقها تلك الشبكة.

أنا عقدة في ملتقى علاقات، وسلعة جاهزة للبيع، تتغذى باستمرار بما أزودها به، بمحض إرادتي من معطيات إضافية. تقوم لوغاريتمات الشبكة في كل لحظة باكتشاف جديد العلاقات التي تربطني ببقية العقد (الأشخاص). وبهذه الطريقة تتمكن من اقتراح مزيد من “الأصدقاء” علي، وتخبرني عما يمكن ان يحوز اهتمامي في محيطي القريب او البعيد… ومنذ عدة سنوات، صارت الشبكة هي مستودع كل ذكرياتي وذاكرتي الفعلية والافتراضية معا. وكثير من الناس صاروا متعلقين بشكل لا فكاك منه بالشبكة (لا أقصد التعلق الوجداني، بل التعلق الفعلي لأولئك الذين يودعون كل مدخراتهم من الوثائق والمنجزات في ردهات الشبكة، وتحت رحمتها، مقابل سومة كرائية لا تنقطع، ودون ضمانات فعلية بعدم ضياعها في اي لحظة).

هذا الأسلوب في تحليل العلاقات هو عينه الذي تستعمله أجهزة الأمن والمخابرات المتطورة في كل أنحاء العالم (تحت عنوان: تحليل النظم والمعطيات والمستندات)، من أجل التعرف على تحركات المطلوبين لهذه الأجهزة، ومجابهتهم بالأدلة الدامغة على تورطهم فيما تتهمهم به. ولا شك أننا جميعا نتذكر ان بلادنا تتوفر على جهاز من هذا القبيل يحمل اسم “المديرية العامة للدراسات والمستندات”. وسأكون واهما إذا توقعت يوما ان مثل هذا الجهاز سيفرط في مصدر غني ومجاني للمعلومات التي تخصني او تخص اي شخص آخر، وأنه سيكون سعيدا بتكميم فمي ومنعي من التداعيات التي أطلق لها العنان في كل مرة أجلس فيها وراء لوحة مفاتيح شاشتي. لكم واسع النظر.

سيدتي، سيدي!..

حين أقرر أن أستعمل خدمات أي شبكة اجتماعية، تلزمني تلك الشبكة بأن أوقع عقدا معها محررا بالانجليزية غالبا، في عدة صفحات. وأراهن على أن أي مستعمل للشبكة ممن يدافعون اليوم عن حقهم المطلق في استعمالها، لم يقرأ ذلك العقد بتفاصيله، بل اكتفى بالنقر على زر الموافقة وارتمى في أحضان العملاق. لم يقرأ أي مستعمل المقتضى الذي يخبره بأن استعماله لتلك الشبكة يجعل علاقته معها خاضعة للتشريعات الجاري بها العمل في الولاية الأمريكية الفلانية. وهو بالتأكيد لا يسأل نفسه ما هو مضمون هذه التشريعات الامريكية، ولا يعنيه أمرها، بالرغم من أنه أقر بخضوعه لها دون مساءلة ولا تريث.

سيدتي، سيدي!..

أتوقع وأنا أستعمل الشبكة أنني سيد موقفي وقراري، وهذا صحيح، على الأقل ظاهريا. لكنني غالبا أنسى انني لست سوى طرف صغير جدا من بين عدة أطراف لا قبل لي بها. وأتوقع جراء ذلك انني وحدي المعني بكل ما يخص تقنين استعمال تلك الشبكة. أتخيل انني الوحيد الذي تشرع القوانين ضده. ولو تذكرت أن موقعي في العلاقة مع الشبكة ليس سوى أصغر موقع، وأن هناك أطرافا أخرى أهم مني بكثير متورطة في هذه العلاقة، لطلبت السلامة والعافية. لنذكر، بعض هذه الأطراف: هناك طبعا الشركة (الگافا) صاحبة الشبكة، وهناك موزع خدمة الأنترنيت، وهناك مستعملو المعطيات التي ننتجها، وهناك الشركات الضخمة الضامنة لتنقل المعطيات بين القارات عبر الأسلاك، وهناك شركات تخزين المعطيات، وهناك ناشرو المحتويات الكبار، وهناك المستشهرون، وهناك أصحاب الخدمات المؤدى عنها،… وأطراف أخرى لا أعرفها.

سيدتي، سيدي!..

لهذه الملابسات كلها، أرى أنه يجب فتح نقاش عميق بيننا نحن المستعملين الصغار، حول الشبكات الاجتماعية، لتعزيز مكتسباتها الإيجابية جدا، ولا سيما في مجال تقوية فرص المشاركة في الشأن العام لكل الأفراد، لكن ايضا للوقوف عند المخاطر المختلفة التي يشكلها تضارب مصالح الأطراف الأقوى في فضاء الشبكات الاجتماعية، والتي قد نذهب نحن ضحيتها كافراد او كمجموعات، باعتبارنا دائما نحن الطرف الأضعف. مثل هذا النقاش ينبغي ان يقودنا إلى تقليب النظر في أساليب الوقوف في وجه هذه المخاطر والحد منها. وينبغي ان يقودنا ايضا الى التفكير في هذا السؤال: من الذي سيستفيد أكثر من غياب أي تشريع وطني في مجال الشبكات الاجتماعية: هل أنا، الفرد الضعيف الأعزل من اي سلاح مالي او قانوني، أم تلك الأطراف الأخرى التي تستفيد بالتأكيد، أكثر مني من هذا الفضاء؟

سيدتي، سيدي!..

لكل ما سبق، فإنني شخصيا، لا أطالب ابدا بالكف عن التفكير في وضع تشريع إيجابي ينظم علاقتي بالشبكات ويحميني من تعسف مستعمليها، ويصون حياتي الشخصية وخصوصياتي، ويحمي مصالحي الصغيرة، في وجه المصالح العملاقة التي تكتسح هذا الفضاء، ويحمي ايضا مصالح بلدي وشعبي العامة. ليس لدي أدنى شك في جدوى وجود هذا التشريع وضرورته. ولذلك لا أخلط بين رفض مقتضيات مائعة تروج هذه الايام، وبين رفض مبدأ تقنين مجال الشبكات الاجتماعية، لما فيه مصلحتي.

هذه في تقديري، هي المعركة التي تستحق أن أخوضها بوعي ومسؤولية، دفاعا حقيقيا عن الحريات وعن حقي في التعبير وحقي في التحكم في مصيري الالكتروني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد