كنت أود أيها الإخوة أيتها الأخوات أن تسمعوا أنتي قبل أن أقدم على إحراق نفسي، ولكن صممكم هو الذي دعاني لفعلتي تلك ليس استكثارا للحياة ولا هزءا بها، فأنا أعرف أنها منحة من لله عز وجل وأنها وديعة، وأنه لا يحق لمن هو مستودع بأمانة أن يتصرف فيها، وقد حاولت جهدي أن أستمسك بتلابيبها، وجاهدت قدر ما أستطيع أن أواجه تبعاتها، وأن أصمد أمام غول الفقر والعجز، ولكني لم أثبت للهوان والظلم. هو الذي أوقرني وقصم ظهري.
في عالمي هذا الذي انتقلت إليه، وقفت على أشياء قلما يقف عليها الأحياء، وقفت على أن الناس متساوون في العالم الأخروي، وهم لا يتميزون إلا بما قدمت يداهم من عمل صالح في الحياة الدنيا، ليس لأنفسهم بل للجماعة. تعرفت على شخص قلما تأبهون به، زارني لما رأى ما أنا فيه من غم فسرّى عني، هو أبو الطيب المتنبي وقرأ علي بعضا من قصيده، وكان مما قال لي:
غير أن الفتى يلاقي المنايا كالحات ولا يلاقى الهوانا
وكان ممن تعرفت عليهم، رجل فاضل يدعى إميل دوركايم. وكنت أعتقد، في حياتي الآخرة، أن الخلود لا يبلغه إلا من كان من ملتي التي كنت أدين بها في حياتي الفانية، فأيقنت أني كنت مخطئة. وجدته صاحب فضل، وشرح لي أن ما أقدمت عليه، مرده اختلالات مجتمعية وتحلل القيم، أو ما أسماه بمصطلح علمي Anomie، وقد أوحى لي أن أكلمكم أو أكلم علماءكم في علم الاجتماع كي ينكبوا على حالة الجسد المريض من المجتمع، وقد سألني إن عندنا علماء مجتمع، فلم أحر جوابا، لأني لم يسبق لي أن التقيت بواحد منهم في حياتي الفانية، ولم أتعرف إلا على المقدم والمخازني والقايد والكلاب الضالة. لا بد أن أقول لكم أشياء لا تعرفونها أنتم أصحاب الدنيا الفانية، وهي أننا في الحياة الآخرة نقر بالفضل لذويه. ولست أغمط كل الذين عزوني بعد مماتي من نشطاء وصحافيين ومجتمع مدني بل حتى من عناصر الإدارة ورجالات الدولة. نحن في الحياة الآخرة لا نحكم على الحق من خلال الأشخاص وألقابهم، بل على الأشخاص ومدى انصياعهم للحق وميلهم للعدل و ازورارهم عن الشهوات.
أنا شاكرة لهؤلاء، ولكن لا بد أن أصدقكم القول، لأننا نحن في الحياة الآخرة لا نكذب ولا نفتري، ولا نخاتل أو نخادع، ذلك أن مي فتيحة التي بكيتم ليست تلك التي غادرت الدار الفانية فقط بل هي كل المحرومين والمحرومات وكل المقهورين والمقهورات، فما يجدي أن تبكوني أو تتباكوا علي وتتركوا مي فتيحات اللواتي يمشين بين ظهرانيكم، من نساء مقهورات، ومن أطفال في الأسمال حرموا من الطفولة، وحرموا الأمل، ومنهم من نهشهم وحوش لا يعرفون رحمة ولا شفقة.
لقد قرأت قولا آلمني ممن زعم أني أحرقت نفسي كي أشعل النار في بلدي على غرار ما فعل محمد بوعزيزي، كلا، فلم يكن ذلك قصدي، أعياني الضر، وأردت أن أبلغكم رسالتي بالوسيلة التي أستطيع، أما اليوم فأريدكم أن تنكبوا على أدواء جسم المجتمع، وأن تكفوا على مداواته ببعض المراهم، أو قراءة التمائم والتعاويذ، لا بد أن منكم علماء مثلما قال لي دوركيام، ولا بد أن يكون منكم عناصر إدارية كفأة ورجالات دولة ذوي بصيرة.. هذا ظني بكم، فلا تخيبوا ظني.
زرت محمد البوعزيزي، فآلمني حاله، كان يبكي بكاء مرا لما آل إليه حال العالم العربي… ولم أجد ما أخفف عليه لوعته سوى أن نزور كلينا طه حسين، وحدثنا طويلا، وكان ينظر إلينا بنظره الحاد، وأخبرنا أنه في الحياة الدنيا كان بصيرا، ولكنه كان مبصرا بعقله، وأن لا وسيلة كي تبصر المجتمعات إلا من خلال التنوير والعقل، وقد شرح لنا أن حالة التردي، التي يعرفها العالم العربي، هي أنه عالم يعيش على اليقينيات ولم يعرف الشك المنهجي الذي هو أداة بناء المجتمعات الحديثة، ولا يميز عالمكم ما بين المعتقدات ولا التقنيات ولا الأفكار، ويخلط بينها جميعا.
أنا سعيدة في عالمي هذا، ولكن سعاتي لن تكتمل حتى تجدوا السبيل الذي يصون كرامة المواطنين، وحين تفرزون الميكانيزمات التي تقر العدالة الاجتماعية، وتجدون الإطار الذي يسمح لأي أن تتفتق قريحته من خلال الحرية، دونما أن يفضي ذلك إلى الفوضى أو يهزأ بالنظام العام، أو يخرق القانون.
أقرؤوا رسالتي بتأن وتدبروا معناها، هي رسالتي الأخيرة، لن تكون رسالة بعدها.
مودتي لكم يا أبناء بلدي الحبيب حيثما تكونون.
أختكم مي فتيحة التي تحبكم حبا جما.
حسن أوريد
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.