عالم المعرفة يتوشح بإصدار جديد للدكتور عبد اسلام فزازي ” الكتابة والتشظي في زمن الفيسبوك “
بقلم الدكتور عياد أبلال
عرف مفهوم الكتابة في الجغرافية العربية تحولات كبيرة طالت أسسه الابستمولوجية، والابستيمية، خاصة في زمن تمازج الأنساق المعرفية، وتداخل التخصصات، جعل الأجناس الأدبية نفسها تعرف انقلابا في النوع والشكل، وقد جاءت كنتيجة حتمية لانهيار عدد من القناعات والرؤى التي لم تنفصل يوما عن رؤية الكاتب نفسه للعالم والناس والأشياء. من هنا باتت الكتابة جمع بصيغة المفرد، تنحو منحى انعرجات وانعطافات معرفية لتهدم منطق الثنائيات الميتافيزيقية، ومنطق المطابقة ، باحثة عن كل السبل والطرق المؤدية إلى الحقيقة، نافية منطق العدم المتمثل في الصراط المستقيم. فالكتابة نفسها تعدد وتنوع، يبتغي تفجير الثابت، وتفكيك البديهي.
هكذا تأسست مع عصر العولمة، رؤية مختلفة للكتابة والكتابة، للمثقف والثقافة، يمكن التنظير لها من بوابة التجريب الذي عجل بانفجار الأحادية والتطابق والنسق، وتفكيك منطق الدال والانتظام، وهو ما جعل الكتابة تكسر طابو المؤسسة الأدبية الكلاسيكية، معجلة بانهيار الخطية والتأليف. لقد دخلنا مرحلة تجريب وإبداع أنساق جديدة للكتابة والحقيقة نفسها، ولذلك فمنطق لذة النص البارتي، قد سقط مع انفجار مفهوم الدال في الكتابة الخطية والانتظامية التي أسست للنسق الكلاسيكي.ضمن هذه المساحة الغنية من الكتابة باعتبارها إبداعاً، يبحث كل كاتب ما استطاع إلى ذلك سبيلا، التأسيس لرؤية خاصة به، وبناء أسلوب بلاغي/حجاجي/ برهاني، من داخل عوالم سيميائية لا تنفصل حتماً عن مملكة المعنى وقد شيدت على قاعدة كل بنيات المشابهة الكائنة والممكنة. وهو ما يجعل مسألة التميز مسألة صعبة بامتياز، لعدم قدرة كل كاتب على تفجير النسق الأحادي وتفكيك الخطية والانتظامية الكلاسيكية. ومن هنا يصبح الأسلوب نموذجا ورؤية للعالم والأشياء، وهي الرؤية التي لا يمكن أن تتأسس حتماً إلا على قاعدة الفلسفة، بما هي مشروع بناء معنى السؤال.
ضمن هذا السياق، تأتي تجربة الأديب والأكاديمي المغربي عبد السلام الفيزازي، التي تشكل أحد النماذج الراقية للمفهوم المعاصر للكتابة، خاصة وأنها تأتي نتيجة تلاقح بين معرفي للعديد من التخصصات والتجارب المعرفية، كما تتأسس على قاعدة الهدم والبناء. إنه تفكيكي بتعبير ديريدا، فالفيزازي الشاعر، والروائي والقاص، هو في العمق مثل ذلك النحات الذي يبحث بالإزميل على صفاء وجمال وجه عتشار، أحبها وأحب معها الحقيقة والأسطورة. لذلك فقراءة نصوص الفيزازي لا تستقيم إلا باستحضار السؤال الفلسفي الباحث عن الحقيقة الثاوية في خلايا الكتابة نفسها، واستحضار الميثولوجي، باعتباره محاكاة أرسطية، وانفتاحا للواقع على ما كان. تأسيساً على ما سبق، يصبح سؤال التجنيس الأدبي لإشراقات عبد السلام الفيزازي، وهنا الإشراق مزج للفلسفي والصوفي في نصوصه، ضربا من التجريب نفسه. تجريب الأنساق وقياس مدى قدرتها على تمثل التصنيفات المعهودة، فعل هي نصوص شعرية، سردية، نثرية..الخ.إنها بكل تأكيد كل ذلك.
إنها نصوص مفتوحة على ما يمكن أن نسميه السياق والمناسبة، خاصة إذا علمنا أنها نصوص كتبت وانكتبت في سياق تعليقات على رسائل ومدونات فسيبوكية، حيث يتحول الفايسبوك في سياق مفهوم الكتابة من قناة إلى مرسل، وتتحول التدوينة إلى مناسبة للكتابة. وهو ما يجعل مقام الكتابة وسياق المناسبة يتداخلان في تحديد طبيعة النص. ولذلك لا يمكن في العمق فصل الشعري عن النثري، عن السردي، وفصل النسق عن اللا نسق، والدال عن المدلول، خاصة أمام غنى المرجع وقدرته على التحول الدائم في نسق الثقافة، لذلك فالكتابة في شبكات التواصل الاجتماعي تتأسس في العمق على الدفع بالخطاب وقد تأسس على التماهي بين الشعري والنثريوالأيقونو غرافي نحو مدارات وآفاق تأويلية جديدة تغني هذا الخطاب بما هو سردية كبرى، وتجعله يتحقق ضمن مسارات تأويلية تتأسس على منطق التشظي في الدال والمدلول على حد سواء .
إن الكتابة عند عبد السلام الفيزازي، هي مناسبة لإعادة ترميم الذات والذاكرة في زمن التشظي والتشتت، ولذلك فمساحة الألم تكبر كلما توغلنا في قراءة الذات في تجربة هذا الكاتب الفريد. وكلما اتسعت مساحة الألم، تمددت مدارات النقد الذي يتخذ صبغة حادة في الكثير من مواطن القهر والبؤس والظلم والتخلف، كما هو حال العالم العربي الذي يأخذ حيزاً كبيراً في مختبر التشريح النقدي الذي تؤسس له هذه النصوص، بشكل يجعل الكاتب يمارس بوعي تاريخي جينيالوجي النقد التاريخي مطالباً بإعادة كتابة التاريخ، من خلال كتابة تاريخ الذات، وتاريخ الآخر، وهو ما يقودنا، ونحن نصاحبه في تفكيك بنيات المتخيل العربي وتأصيلها، إلى استحضار النقد الجنيالوجي لدى نيتشه، ولذلك فالفيزازي لا يستكين لمنطق التطابق، والهوية الأحادية بما هو منطق الهوية المغلقة الفاقدة للمعنى والقيمة، بقدر ما يقعد لرؤية كتابية تبتغي التأسيس لخطاب عربي جديد، تعيد النظر في الجسد المقموع والمنفي إلى خارج دائرة الكرامة والديمقراطية.
إن منطق الهوية هذا بإجراءاته وآلياته المختلفة كإجراء إقامة التطابق بين المعنى والقيمة،أو إجراء كبت الجسد أو إجراء حجب الدّال وإقصاء البعد البلاغي للخطاب له كوظيفة أساسية الحفاظ على امتياز الذات ومركزيتها داخل الخطاب، ولذلك فهو يزيح الأقنعة عنه، من خلال كشف حقيقة الذات العربية وقد تضخمت فيها كل الأوهام والنرجسيات.من هذا المنظور، تتأسس الكتابة عند الفيزازي، متأثراً بالنقد الجنيالوجي–الفلسفي والخطاب العرفاني على نسف الأوثان ونزع الأقنعة، وتسفيه الخطابات الرسمية المغرقة في الغباء والسذاجة المعرفية، وكشف أقنعة التزوير والتدوير واللف والتعويم. إنه ينتقد العلاقات الاجتماعية، والأنساق الثقافية والسياسية وأنماط التواصل والتعبير المغرقة في النفاق الاجتماعي، والمتحجبة بمنطق الزعامة الوهمية، وقد تسيدت على جثت الأبطال والزعماء الحقيقيون، وبنت سياجا كبيرا من الاستعباد والاستبعاد.
إن الكتابة عند الفيزازي اختيار وتجريب، هدم وبناء، ولذلك فالكتابة لديه هي رهان استراتيجي للمقاومة والصراح. إنه يحارب عبر الفضاء الأزرق، كل التفاهات التي كانت قابعة في خفاء الجهل والأمية، ويؤسس لثقافة النقد التي لم تتأسس بعد في شبكات التواصل الاجتماعي الذي دخل في منطق الإعجاب والليكات، وهم منطق المطابقة، والهوية المغلقة، والمطابقة عدم. إنه يحارب لغة العدم كي تنتصر لغة الحياة. من هنا يتوافق هذا الخيار الاستراتيجي مع مبادئ فلسفته في الحياة والتأويل. تأويل التراث العرابي، تأويل السياسة والسياسيين، تأويل العلاقات والأنساق الاجتماعية….الخ. ولذلك، فكل تدوينة/ نص يقتضي عند الفيزازي نصاً موازياً بما هو تأويل لتأويل. لذلك فالخطابات/ النصوص/ التدوينات/ التعليقات تبقى غير مكتملة وناقصة بشكل يتناسب طردا مع قيمتها الإبداعية،فكلما كانت الوظيفة الأسلوبية مطلوبة،كلما كان الخطاب أقل اكتمالا، لذلك فهو ينحاز لوظيفة الهدم، حتى وإن كان ذلك على حساب الوظيفية البلاغية، طالما يجد الكاتب نفسه في الكثير من الأحيان في مناجاة طويلة، تكاد تتطابق مع الحوارية الصوفية، والوجد العرفاني مادام يشتغل باستمرار على حدود اللغة وتخومها،وفي ما وراء ما هو اصطلاحي ومتعارف عليه.
إن الكتابة نص،والقراءة تأويل لهذا النص بما هو جسد ظل مقموعاً في العقل والتراث العربيين،ولهذا يحق لنا أن نعتبر أن الفيزازي قد ولج منطقة شديدة الخطورة، وهي منطقة التماس بين الديني والأيديولوجي، بين الأدبي والسياسي، بين العبودية والتحرر. منطقة هدم الأوثان وتحرير الأدب والثقافة والسياسة من الخرافة والأقنعة، منتصراً لتحرير الإنسان العربي من الماء إلى الماء من العبودية والتخلف..
الدكتور عياد بلال
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.