يتلقى حزب العدالة والتنمية الذي يترأس الحكومة الحالية بالمغرب بعد أن استفاد من نضالات حركة 20 فبراير سنة 2011، ومن تصدر تيارات الحركة الإسلامية للمشهد السياسي عقب حراك التغيير الذي عرفته دول شمال إفريقيا، خاصة بمصر وتونس، يتلقى مند توليه تدبير الشأن الحكومي صفعات سياسية توقظ قيادييه ومنتخبيه والجزء الفطن من ناخبيه وأتباعه، من بعض الأوهام الإيديولوجية الكبرى التي بنا عليها الحزب وحركة التوحيد والإصلاح خطابهما الديني -السياسي ومشروعهما الدعوي والتعبوي، واستمالوا بها جزء هاما من المجتمع والناخبين.
وإذا توقفنا عند جل الأحداث والقرارات السياسية والتدابير الحكومية التي تمت خلال أكثر من أربع سنوات الماضية التي تلت حراك التغيير وترأس خلالها حزب العدالة والتنمية الحكومة، يمكن اختصار أهم هذه الصفعات في الفشل في تحقيق إحدى الأوهام الكبرى التي تأسس عليها الخطاب الدعوي لحركة التوحيد والإصلاح وهو إقامة الدين والدولة، والذي اختصره أحمد الريسوني خلال النقاش الذي صاحب ثورات الشعوب سنة 2011 وحركاتها بشمال إفريقيا في تحقيق “الجمهرة العظمى” كما سماها في كتابه “فقه الثورة”، أي السعي إلى انخراط أعداد كبيرة من المواطنين في المشروع لفرض الضغط على مختلف المكونات الأخرى والمؤسسات للوصول إلى الحكم و”أسلمة” أو بالأحرى “أخونة” الدولة والمجتمع.
ولعل العديد من المواطنين والمواطنات يحتفظون في أذهانهم بمضامين دعوية ووعود المشروع الإسلاموي الذي طالما رددها ووعاظ ونشطاء التيارات والجماعات الدعوية ومنها حركة التوحيد والإصلاح، كما يتذكرون لا شك تلك الشعارات الصادمة التي رفعها حزب العدالة والتنمية وفروعه وملحقاته التنظيمية في العديد من تجمعاته ولقاءاته الداخلية والجماهيرية، وخاصة خلال الحملات الانتخابية لسنتي 2006 و2012، ومنها “صوت الإسلام آت صوت الإيمان آت!” فهذه العبارة التي تفيد بأن حزب العدالة والتنمية كان بصدد غزوة حملت الإسلام للمغاربة، تختزل استغلاله للدين وتهريبه وتوظيفه السياسوي في الممارسة السياسية والديمقراطية، كما تختزل حجم الوهم الدعوي والإيديولوجي الذي بنا عليه الحزب وجماعته مشروعهما واستمالتهما لأعداد هامة من الأفراد والمجتمع.
ثان هذه الأوهام يتمثل في فشل الخطاب الدعوي في محاربة الفساد وإسقاط الاستبداد، وتخليق الإدارة وتوفير التعليم والصحة والسكن اللائق، وتنمية البلاد وتحقيق الرفاه، كما كان يعد بذلك. فطالما رفعت تيارات الإسلام السياسي وجماعاته ومنها التوحيد والإصلاح بالخصوص في المغرب، شعار “الإسلام هو الحل”، حيث تعتقد كما تروج في خطابها الدعوي، وكما كنا نسمع مند صغرنا، بأن أسباب تخلف الدول وآفات الحياة السياسية وتدبير المؤسسات وكل معضلات الفساد والتخلف في مجالات التعليم والصحة والإدارة وتفشي البطالة…، لا تعدو نتائج اجتماعية لغياب التربية الدعوية وانتشارها في المجتمع. والآن، بعد اقتراب انقضاء فترة الحكومة التي يترأسها حزب العدالة والتنمية بالمغرب، يجدر التساؤل هل كان الخطاب الدعوي ووصول أفراد الجماعة إلى الحكم والوزارات ودواوينها ومديرياتها، كافيا لتحقيق كل هذه الأوهام الدعوية، أم أن الأمر يتطلب كفاءات سياسية وتدبيرية ذات فكر وخيال ومعرفة وإلمام يؤهلها لابتكار الحلول الصعبة، التي أبانوا عن افتقارهم إليها؟
وألم يبين الحزب في أدائه السياسي عن عجز تدبيري واستبداد واضح لم ينفعه معه خطابه الدعوي، خاصة في معالجة العديد من الملفات والمطالب كصندوق المقاصة والزيادة في الأسعار وإصلاح صندوق التقاعد والحوار الاجتماعي وتوفير الشغل والتعاطي مع ملف الأساتذة المتدربين وقمع الحركات الاحتجاجية، إضافة إلى الاستهتار بالأمازيغية والاستفراد بالقانون التنظيمي المفعل لطابعها الرسمي، وإغراق البلاد في المديونية، وتبعات كل ذلك على مستوى إخفاقات النمو الاقتصادي والانتقال الديمقراطي وتأجيج الاحتقان الاجتماعي؟
الوهم الثالث الذي ربما استفاق منه الحزب والجماعة خلال تجربة سنوات الوصول إلى الحكومة وتدبير الشأن العام هو الفشل في فرض اختيارات تشريعية وتدبيرية بمضمون إيديولوجي ودعوي، وقد كانت أولى هذه المحاولات التي سارع الحزب إليها هي نقاش دفتر تحملات قنوات القطب العمومي، ومناقشة المناهج الدراسية. فبعد الفشل في محاولة التضييق على تدريس الفلسفة والفنون وتوسيع الغلاف الزمني والقيمي للدرس الديني وفق التصور الدعوي، وبعد الفشل في تمرير قانون التعريب المتطرف للحياة العامة وتقليص حيز اللغات الأجنبية كما كان الحزب يعد بذلك أتباعه المغبونين، وبعد الفشل في توقيف قرار إحداث بكالوريا دولية باللغات الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، التي فضحت عدم امتلاكه لمبرر موضوعي وتصور تربوي فعلي، يمكن اعتبار قرار الدولة بمراجعة التعريب وتدريس المواد العلمية ابتداء من الثانوي الإعدادي باللغتين الفرنسية والإنجليزية، الصفعة الكبرى التي يمكن أن توقظ ووعاظ الجماعة ونشطاء الحزب وناخبيه الذين كانوا ضحية وعوده، من إحدى أكبر أوهام خطابه الدعوي على مستوى التعليم والتربية والتكوين.
وأخيرا، فقرار مراجعة مناهج التربية الدينية وتحديثها الذي يتطلب الجرأة السياسية والوضوح الثقافي والبيداغوجي، إن تم فعلا كما هو مطلوب، سيشكل لا شك أقوى هذه الصفعات السياسية التي ستنهي مسلسل الوهم الدعوي الذي تأسس عليه خطاب الحزب واستغلاله للدين، لكن هذا يطرح السؤال حول جدية الدولة فعلا في هذا الخيار.
إلى حدود هذه الساعة من الولاية التشريعية والحكومية لحزب العدالة والتنمية وجماعته وأغلبيته، فالوهم الدعوي والإيديولوجي الوحيد الذي لا يزال يسري ويملكه جل قياديي الجماعة وأعضاؤها ونشطاء الحزب، ولم يتم إحباطهم فيه بعد، هو تفريغ مقتضى دسترة الأمازيغية وترسيمها من مضمونه القانوني والإجراءات التشريعية والتدبيرية المرتبطة به، بعد أن “صهينوها” و”عادوها” لعشرات السنوات، وبعد أن رفضوا وقاوموا ترسيمها سنة 2011، وفشلوا في تبخيسها دعويا و”فايصبوكيا”. ربما يبقى الوهم الوحيد لدى الحزب الأغلبي، ولا ندري إن كان هذا مسعى الدولة أيضا، هو تمرير تصوره للقانونين التنظيميين للأمازيغية والمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، بعد أن فشل في تحقيق كل الأوهام الأخرى! فهل سيتأتى له، أو بالأحرى لهم ذلك ؟!
التعليقات مغلقة.