غادرنا الفيلسوف المصري حسن حنفي(1935-2021)، رحمه الله.
التقيته أكثر من مرة؛ في المغرب، وفي مصر، وفي قطر. إذا لم تكن تعرف تراثه الفكري الضخم فلن يشعرك بذلك؛ فالرجل غاية في اللطف والتواضع والاستماع، على كبر سنه، وضعف بدنه. درس في شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس بين 1982-1984. كان في حوار دائم مع المفكرين المغاربيين؛ فقد صدر له حوار مطول/ مواجهة، مع الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري، بعنوان:( حوار المشرق والمغرب)، وهو حوار بين الفيلسوفين نشر أول مرة على صفحات مجلة ( اليوم السابع)، في قضايا: الدين والسياسة والفكر والتاريخ والمجتمع…كما صدر له كتاب/ مناظرة فكرية، بينه وبين الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي، بعنوان:( النظر والعمل: المأزق الحضاري العربي والإسلامي الراهن)/ ( منشورات دار الفكر المعاصر).
وقد حكى الأستاذ حنفي عن تجربته في التدريس بجامعة فاس، في قسم الفلسفة، في سيرته الذاتية بعنوان:( ذكريات، 1935-2018). ص120-126. فقد وصل فاس سنة 1982، رفقة زوجته وأبنائه: حازم، وحاتم، وحنين. وسكن في شارع بن عائشة، رقم12. كان مرتبه في حدود ألف دولار شهريا. وتعرض لمشاكل إدارية بخصوص الراتب، ومساومات من طرف بعض الأطر الإدارية في الجامعة وفي الوزارة! لولا تدخل الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي.
كان يتنقل في المغرب بسيارة Seat، اشتراها في إحدى زياراته لإسبانيا من المغرب. وقد أشاد الأستاذ حنفي بالطالب الجامعي المغربي؛ فقد كان يدرس في مدرج فيه أزيد من 400طالب، من طلبة السنة الثانية فلسفة، ودرس أيضا طلبة السنة الرابعة. وكان الطلبة، بنظره، غاية في العمق والشجاعة والجرأة في المناقشة. وقال في هذا السياق: ” لم أر طالبا عربيا في مثل هذه الثقافة والوعي العربي والجرأة مثل الطالب المغربي.” (ذكريات…ص121).
ويسجل الأستاذ حنفي في تلك الفترة بروز الطلبة الماركسيين والأمازيغيين، وقلة وجود الطلبة السلفيين، يقصد الإسلاميين. وكان يستجيب لدعوات الأحزاب المغربية للمحاضرة خارج الجامعة، خصوصا حزب الاستقلال، والأحزاب التقدمية المغربية؛ فقد حاضر في: سلا، ومكناس، والرباط، والدار البيضاء، ومراكش، وتطوان. وكان قريبا من المجلات والجرائد الماركسية؛ مثل: ( أنوال). زار المغرب شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا. ووصل إلى العيون وإلى الحدود الموريتانية، في الجنوب، وإلى الحدود الجزائرية في الشرق. وتحدث عن المظاهر التحررية عند المرأة المغربية، وحكى عن طقوس المغاربة في المقاهي، وعن طقوس رمضان( المغربي).
ويحكي الأستاذ حنفي حدثا مفصليا في إقامته العلمية في المغرب؛ فقد دعاه حزب الاستقلال لإلقاء محاضرة في فندق فاس عن: ( نظام الحكم في الإسلام)، وانتقد في المحاضرة الطابع الديني لنظام الحكم، وقال بأنه ليس إلهيا، أو ملكيا، أو وراثيا، واستشهد بٱية: ( إنا الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة)، وأن نظام الحكم في الإسلام شورى، وأن مقاومة الحاكم الظالم جزء من واجب العلماء بناء على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويحكي الأستاذ حنفي أنه لما وصل إلى هذا المستوى في المحاضرة، بدأ بعض الأساتذة من الصفوف الأولى لقاعة المحاضرة في المغادرة!! وأضاف في محاضرته أنه لايجوز تقبيل يد الحاكم أو قدمه أو حافر حصانه..(ص124). وجاءت الشرطة، بعد المحاضرة، إلى بيته لاستجوابه!! وأخذوه إلى قسم الشرطة، وسألوه: هل كان يقصد ملكا بعينه في محاضرته؟ فأجابه بالنفي. ورفضت الشرطة أن يتصل بأهله، وهو في مركز الاحتجاز.
وبعدها جاء القرار بمغادرته المغرب في ظل أربع وعشرين ساعة. وأفرج عنه، وتدخل محمد عزيز الحبابي عند ابن سودة المسؤول عن الجامعات في القصر الملكي، وحذره من خطورة طرد أستاذ كبير من الجامعة المغربية. وطلب الاعتذار من الأستاذ حنفي ورفض، وقال: عن أي شيء اعتذر؟ عن ٱية قرٱنية لست مؤلفها؟ وتدخل الملك، كما يحكي الأستاذ حنفي، لتأخير مغادرته البلاد إلى 30 من شهر يونيو، أي نهاية الموسم الجامعي. كما طلب من زوجته تقديم استقالتها من العمل وكانت أستاذة اللغة الإنجليزية. ومنع من الكلام خارج الجامعة.
وربط الأستاذ حنفي صرامة السلطة معه بأحداث الحسيمة والناظور، يناير1984، والتي شبهها بمظاهرات الفقراء في مصر، يناير1977. ويذهب الأستاذ حنفي إلى أن الملك هو من اتهم الأساتذة المشارقة، خصوصا، المصريين والسوريين والعراقيين بنشر الأفكار الإشتراكية في البلاد، فأمر بطردهم. وكتب الأستاذ حنفي بلاغه عند مغادرته المغرب، وملخصه قولته التي أوردها في سيرته: ( أتيت المغرب طائعا، وأتركه مكرها)، (ص125). وقد وزع بلاغه على الطلبة وعلى الجامعات.
ويذهب الأستاذ حنفي إلى أن النظام السياسي في المغرب تحمله على مضض طيلة إقامته في المغرب، هذه الإقامة التي يعتبرها أجمل عمر قضاه في حياته رفقة أسرته. ويؤكد أنه يزور المغرب اليوم ويدخل إليه بسلاسة، ولا أحد يضيق عليه في الوثائق أو في التنقل، عكس مايحصل له في تونس بن علي، وفي مصر قبل ثورة2011، خصوصا عندما يكون عائدا من إيران. ومازال يعتز بتكريم المغاربة له وبدعوتهم له أحزابا أو مؤسسات رسمية، بل تواصلت معه شخصية رسمية وأبلغته اعتذار الملك عما حصل معه.(ص125).ولم يفت الأستاذ حسن حنفي أن ينتقد اليسار المغربي، وتفريطهم في حواضنهم الاجتماعية، واستغراقهم في السلطة، كما حذر من النزعات السلفية التي تجتاح المغرب، بين الفينة و الأخرى.
اشتغل الأستاذ حسن حنفي أستاذا في كلية الآداب بجامعة القاهرة، منذ 1967. وكان أستاذا زائرا في جامعة (تمبل/Temple University، في فيلاديلفيا/ Philadelphia، بين 1971-1975. وكان أستاذا زائرا بجامعة طوكيو، بين 1984-1985.
يحكي الأستاذ حسن حنفي أن ملفه في قسم الاستعلامات بوزارة الداخلية في مصر مكتوب عليه: ( إخواني شيوعي). وقد تحرك الخط الفكري للأستاذ حنفي،فعلا، بين طرفين نقيضين؛ في مرحلة متوترة من تاريخ مصر والعالم العربي والإسلامي، وهو الخط الإسلامي الماركسي؛ فقد قضى وقتا مهما من شبابه بين جلسات الإخوان وحلقات الرفاق! لذلك جاء مشروعه الفكري الواسع ليجيب عن حالة ( التعقيد)/( complexité)، من منظور أطروحة إدغار موران/ ( Introduction à la pensée complexe)، حالة الربط بين نسقين متصارعين، في الرؤية والمنهج والمفهوم، وفي المصالح والمواقف والمواقع، على طول العالم العربي والإسلامي، في إطار حرب استنزاف متبادل، تغذيها الأنظمة الاستبدادية، وتستفيد من نتائجها تجمعات المصالح والجماعات الوظيفية في المجتمعات السياسية الهشة.
وجاء مشروع حسن حنفي لتجاوز هذا الصراع ( الجاهلي)، بالمعنى الثقافي للكلمة، والذي لخصه الشاعر/ الفارس الحكيم عمرو بن كلثوم، عندما قال: (ألا لا يجهل القوم علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا)!! لقد جاء حسن حنفي ليقدم عملا تركيبيا يجمع بين مقتضيات الدين وهموم الإنسان المعاصر ورهانات الاجتماع الإنساني. وعليه، كان رهان الأستاذ حسن حنفي تقديم رؤية تأويلية لوظيفة الدين وعلاقته بالحياة الاجتماعية والسياسية.
وكان الحفر النقدي في التراث منطلقه الأساس؛ فكتب في (التراث والتجديد/ 4مجلدات). وكتب موسوعة بعنوان:( من النقل إلى الإبداع/9مجلدات)، وناقش باستفاضة قضايا: النقل، من حيث: التدوين، والتراكم، والشرح، والتحول…وهي قضايا إشكالية في المعرفة الإسلامية. كما كتب مشروعه العلمي البارز بعنوان يختزل البعد التركيبي والتعقيدي فيه، بعنوان: ( الدين والثورة في مصر، 1952-1981)، وهي مرحلة سياسية حرجة في التاريخ المعاصر لمصر؛ مرحلة تمتد من ثورة/ انقلاب عبد الناصر1952 إلى اغتيال السادات في مشهد سينمائي أثناء استعراض عسكري، برشاش خالد الإسلامبولي1981.
قدم الأستاذ حسن حنفي في مشروعة أطروحة تركيبية تأويلية عملت على تجذير الدين، من منظور نقدي اجتماعي/ يساري، في الحياة الاجتماعية والسياسية، وتجاوز صراع الإسلاميين واليساريين في المجتمع. وتحمل عناوين مجلدات هذا المشروع الثمانية هذا الرهان الذي سعى الأستاذ حنفي إلى تحقيقه، وكذا الإشكالات التي تطرح في المجتمع عند بروز الدين باعتباره قوة موجهة وفاعلة في الحياة العامة. وكانت عناوين المجلدات الثمانية كالاتي:
– الدين والثقافة الوطنية.
– الدين والتحرر الثقافي.
– الدين والنضال الوطني.
– الدين والتنمية القومية.
– الحركات الدينية المعاصرة.
– الأصولية الإسلامية.
– اليمين واليسار في الفكر الديني.
– اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية.
وبعد أن قدم الأستاذ حسن حنفي دراسة استقصائية لحركية الدين في المجتمع السياسي في مصر، عمل على صياغة أطروحة جديدة في دراسة الفكر الغربي، وفي ترجمته، وفي حدود الاستفادة منه، بإحداث حقل جديد في دراسة الغربيات، يكاد يكون مضادا لحقل الدراسات الاستشراقية، فكتب كتابا منهجيا بعنوان:( مقدمة في علم الاستغراب). و ألف، في هذا السياق البحثي، كتبا عدة في قراءة الفكر الغربي، وفي التفاعل مع كثير من أطروحاته، من موقع الدارس الباحث والناقد، وليس من موقع المتلقي المستهلك وحسب. وسعى في أطروحته اللاحقة إلى اختبار هذا المشروع، والعمل على الإقناع به وسط الإسلاميين واليساريين، وعند مختلف ألوان الطيف الثقافي و الاجتماعي والسياسي، في العالم العربي، والإسلامي، فهل توفق في ذلك؟ وكيف تلقى المثقفون الإسلاميون واليساريون، والفاعلون السياسيون، مشروع الأستاذ حسن حنفي، رحمه الله؟
(يتبع).
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.