حلت ذكرى عزيزة على قلوبنا، الذكرى 63 لانتفاضة قبائل ايت باعمران المجيدة التي انطلقت رحاها فجر يوم 23 نونبر 1957 ضد الوجود الاستعماري الإسباني، وانتقل بذلك النضال البعمراني من نضال مدني وسياسي عرف أوجه بعد صدور قانون التجنيس المشؤوم سنة 1947 (أعقبه إصدار عريضة شعبية ضد هذه الخطوة الاستعمارية وقعها شيوخ وأعيان وعلماء الإقليم والدخول في نضال سلمي مرير مع قوى الاستعمار انتهى بشن اعتقالات وتصفيات بالجملة في صفوف المنتفضين) ، “وانتقل” النضال بذلك لنضال المواجهة المباشرة بإطلاق شرارة الكفاح المسلح مع أول رصاصة سمع دويها فجر يوم السبت 23 نونبر 1957، تلاها اقتحام قواعد المحتل الذي تكبد هزائم متتالية ولقن دروسا في الشجاعة والشهامة والصمود رغم بدائية عتاد المقاومين الباعمرانيين وتواضع وقلة عددهم وضعف اسنادهم…لكن كانو أقوياء بايمانهم وخبرتهم ودهائهم.
شهد هذا اليوم المبارك معارك في جبهات متعددة بلغت ستة عشرة معركة، أغار فيها المجاهدون على الثكنات العسكرية الإسبانية في نفس الوقت، في خطة عسكرية وتكتيكية محكمة قل نظيرها مسنودة بجهد استخباراتي عسكري دقيق،.. باغتو العدو واضعفت قدراته القتالية، فأسر العشرات من جنود الاحتلال وقتل المئات وحوصر من حوصر وغنم المجاهدون مئات من قطع السلاح المتطورة والعالية التقنية آنذاك، وبها سحقو القوات الإسبانية في معاركهم النارية هاته التي استمرت بعد هذه الانتفاضة (ويطلق عليها الإسبان مجتمعة حرب إيفني أو الحرب المنسية La guerra olvidada) نذكر من هذه المعارك: معارك “اثنين أمللو” و”صبويا” و”تاليوين” و“تبلكوكت” و”بيزري” و”بورصاص” وتيوغزة” و”بيجارفن” و”سيدي محمد بن داوود” و”الالن” و”تموشـا” ومعركة سيدي إيفني المجيدة التي استمرت إلى أبريل 1958 وانتهت بمفاوضات ضغط فيها المغرب بقوة لتحرير طرفاية شريطة وقف إطلاق النار فيما استمر حصار مركز المدينة إلى الاستقلال سنة 1969. وهذه من بين الأخطاء التي ارتكبت في مسار تسوية قضية الصحراء… فالمفاوضات كان الأولى أن تشمل كل الأقاليم الجنوبية عوض الاكتفاء بطرفاية! فكل الظروف مواتية خاصة أن الإسبان في إيفني (التي كانت تعتبر العاصمة الإدارية لمستعمرات الإسبان في افريقا واكبر قاعدة عسكرية لهم في الخارج) كانو تحت رحمة حصار ونيران جيش التحرير الباعمرانيي…
لقد رسم المجاهدون الباعمرانيون بهذه المعارك الضارية ملاحم صمود منقطعة النظير – وقليل من المغاربة المطلع والمستوعب لذلك- أعادت تذكير القوى الاستعمارية بكبواتها على أرض ايت باعمران، الإقليم الذي ظل عصيا عن أي خضوع لأي جيش أجنبي ألمانيا كان أو بريطانيا (نهاية القرن 19) أو فرنسيا بداية القرن 20 (حيث انتهت كل حملات الجيوش الفرنسية بالانهزام، آخرها معركة تيزي سنة 1934 التي قتل فيها مئات الفرنسيين، وقبلا هزمهم في معركة “إيگافلن” سنة 1915 بقيادة عرابهم قائد سوس “حيدا بن ميس المنبهي” الذي قطع راسه وطاف به المقاومون قيل شهرا وقيل أشهرا في أسواق المنطقة نكاية في الخونة، فأعلن الفرنسيون عن تراجعهم، وارغمو سنة 1934 على توقيع معاهدة “الهنا”)، (انظر الصورة المرفقة)… حتى جاء الإسبان ودخلو المنطقة كحلفاء” بنظام حماية” استعين بهم اقتصاديا وعسكريا كما هو موثق في معاهدة أمزدوع التي ابرمها معهم شيوخ آيت باعمران في 6 أبريل 1934، بعدما ضاقت بالأهالي السبل جراء الحصار الفرنسي المضروب وتوالي السنوات العجاف وحروب الاستنزاف الدامية التي لم تتوقف منذ نهاية القرن 19. وخضوع مناطق المخزن بعقود وضعف مؤسساته التي أضحت ألعوبة في يد الفرنسيين والقوى الأجنبية…
إن انتفاضة 23 نونبر 1957، كان لها عدة تداعيات جيوستراتيجية: فهي من جهة عززت موقع المغرب التفاوضي حول وضعية الصحراء المغربية حيث جعلها الحسن الثاني ورقة ضغط قادت لتحرير إقليم طرفاية سنة 1958، ومن جهة أخرى أعادت إطلاق شرارة المقاومة في اقاليمنا الجنوبية، ولولا الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها العناصر غير المتمرسة والمسيسة القادمة من الشمال أو المنتمية للجيش النظامي والتي وضعت على رأس قيادة جيش تحرير الجنوب، لما وقعت كارثة “اوكفيون”، ولو اتبعوا خطط ورأي الباعمرانيين (المتمرسين على حرب العصابات لعقود وتكتيكاتها والعارفين بجغرافية المنطقة وخباياها وتوازناتها)، لانجلي الاستعمار الاسباني والفرنسي عن كل مناطق المغرب في الصحراء الغربية والشرقية قبل مطلع الستينيات. ولما وقع ما وقع بعد ذلك من متاهات…
من الجيد أن نحتفي بهذه الذكرى المجيدة وغيرها من المحطات التي رسمها اباؤنا وأمهاتنا واجدادنا بمداد من الفخر والاعتزاز، باعتبارها ذاكرة جماعية وجب الحفاظ عليها والتعلم من دروسها واستحضارها في كل وقت وحين فمن لا تاريخ له لا حاضر له ومن لا حاضر له لا مستقبل له. لكن في المقابل يحز في النفس تلك الأوضاع الاجتماعية الكارثية التي يعيشها من بقي حيا من المقاومين، وأسرهم والتعويضات الهزيلة التي يتلقونها او تتلقاها ارامل المتوفين (اما الشهداء فلا عزاء لأسرهم)، دون الحديث عن من حرم من تلك الدريهمات وهم بآلاف الأسر… وفي المقابل يتم تكريم وتوشيح من هب ودب، واغداق الملايين على من لم يقدم شيئا للوطن! على رأسهم خونة كانو في صفوف العدو! كما يحز في النفس مكافئة هذه المنطقة المجاهدة التي بذلت قبائلها أعز ما تملك لتحريرها وتشبتها بالوحدة الوطنية، (مكافئتها) بمزيد من اللامبالاة التي انعكست على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المزرية….
الأهالي هنا كما في كل قرى ومناطق المغرب المقاوم (أو ما يصفونه تعسفا غير النافع) لا يطلبون المستحيل، مطالبهم بسيطة جداً.. توفير أطباء وممرضين وتجهيزات صحية في الحدود الدنيا، توفير ماء صالح للشرب، توفير تعليم ذي جودة وتقريب المدرسة ومؤسسات التعليم العالي منهم، توزيع ترابي عادل للجهد الاستثماري المركز في مثلت المغرب النافع!!!…وغيرها من المطالب المشروعة والبسيطة.. وهم لايرفعون هذه المطالب وغيرها من باب الصدقة والإحسان أو الترف الفكري والعاطفي، بل من باب الحق والواجب والاستحقاق.. فهذا وطنهم وهم أبناءه حرروه بدمائهم الزكية للعيش فيه بكرامة وحرية وعدالة اجتماعية…
سليمان صدقي
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.