عصيد: من يعارضون المساواة في الإرث يخالفون الدستور
من بين ما يميز الدولة الحديثة القائمة على مفهوم المواطنة وسلطة القانون العليا، أن قضايا المجتمع تظل عرضة لنقاش دائم لا ينتهي، حيث تلزم التحولات المتسارعة كل الأطراف بفحص القوانين والنظر في الأسس التشريعية لتدبير الشأن العام، لمعرفة ما إن كانت ما زالت صالحة للعمل بها، أي أنها تضمن العدل المساواة بين الناس، أو إن كانت في وضعية أزمة بسبب تفكك البنيات السوسيوثقافية التي بُنيت عليها.
بينما كانت الدولة الدينية التي عرفتها العصور الوسطى سواء في بلاد الغرب أو في “دار الإسلام”، تقوم أساسا على تشريعات دينية تعتبر مطلقة وثابتة، حيث تسند إلى مصدر إلهي، وإن كانت في الحقيقة عائدة إلى سياقات تاريخية محددة، وإلى أفهام البشر وأساليبهم في تدبير شؤونهم الأرضية.
وما حدث للدولة الدينية حتى بلغت درجة كبيرة من الضعف والخور، إلى أن انهارت مع بدايات الأزمنة الحديثة، هو أن اعتماد نصوص ثابتة مع وجود طبقة رجال الدين (“الإكليروس” في الغرب و”أهل الحل والعقد” في الإسلام) التي تعمل على إحكام وصايتها على المجتمع عبر تلك النصوص، وحماية مصالحها المرتبطة بالبنيات القديمة، قد أدّى إلى عرقلة تطور المجتمعات الغربية والإسلامية معا، ولقد سقطت الدولة الدينية في أوروبا بعد الثورات العلمية المظفرة (كوبرنيك، كبلر، كاليلي) والثورات الإجتماعية ( العلمنة الثقافية وصعود الطبقة البرجوازية)، والثورات السياسية (فكّ الارتباط بين الملكيات والكنيسة)، بينما نجح الفقهاء والزوايا التقليدية في عرقلة تطور المجتمعات الإسلامية لقرنين آخرين، أديا إلى إضعاف دولة الخلافة العثمانية التي أصبحت تنعت بـ”رجل أوروبا المريض”، كما أدخل دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط تحت نير الاستعمار بعد فشل كل محاولات الإصلاح من الداخل.
بعد ذهاب الاستعمار ونهاية عهد الحجر والوصاية الأجنبية، وجدت هذه البلدان نفسها عاجزة عن العودة إلى الدولة الدينية السابقة، التي تجاوزها الزمن، وغير قادرة في نفس الوقت على ترسيخ بنيات الدولة الحديثة، بسبب ثقل إرث الماضي، وبسبب “عسر الهضم” الذي أصابها من عقود من التفاعل مع نماذج الدولة الحديثة، مما أدى إلى تمزق هوياتي تمظهر سواء في الدولة أو في حياة الأفراد والجماعات، مما أدّى إلى انقسام المجتمع أمام أي موضوع متعلق بالقيم.
وكان من النتائج الفادحة لهذا التمزق تعثر بناء التعاقد المدني الصلب والحاسم الذي من شأنه ضمان استقرار الدولة، ووضع دساتير تضمن حقوق الجميع على قدر المساواة. ما أدى إلى استحكام الاستبداد وتزايد عناصر الفرقة والتشرذم بين العناصر المكونة لهذه المجتمعات. فظلت النعرات العرقية والإثنية والدينية والقبلية حيّة وفاعلة عوض ترسيخ معنى المواطنة الجامع لكل الأفراد والضامن لحقوقهم.
ومن بين القضايا التي انبثقت عن هذا التمزق والارتباك قضية المرأة التي عانت الأمرّين بسبب غياب الترسيخ الديمقراطي المأمول، وبسبب عودة التقليد الناتج عن فشل مشروع التحديث المجهض. وهذا ما يفسر مقدار التشنج والتوتر الذي يرافق في كل مرة النقاش المرتبط بهذه القضية.
وإذا كان من حق كل واحد أن يدلي بدلوه في النقاش الدائر الذي هو طبيعي بالنظر إلى مسلسل التطورات التي عرفها بلدنا، فإن المستغرب هو مقدار العنف اللفظي الذي يتعامل به بعض المحسوبين على الحزب الذي يرأس الحكومة، مع المخالفين لهم في الٍرأي والموقف.
فكما حدث في موضوع الإجهاض وتزويج القاصرات خرج المحافظون عن طور التعقل، واحتكموا مرة أخرى إلى الإرهاب الفكري، والتمسوا الوسائل غير الشريفة لإسكات أصوات خصومهم الحداثيين. وهم بذلك يعتقدون أنهم بالغوغائية والصراخ يمكنهم الحفاظ على ما هو موجود، وإن كان غير سليم ولا يحقق الكرامة لأفراد المجتمع رجالا ونساء.
وحجتهم في ذلك وجود “نصوص ثابتة”، “قطعية الدلالة”، و”لا تحتمل أي تأويل” أو إعادة قراءة. وكأن الكثير من النصوص “الثابتة الصريحة” لم يتم الاجتهاد في فهمها بسبب ضرورات الوقت وانقلاب الأوضاع والأدوار والوظائف الاجتماعية، ولدينا بعض أمثلة واضحة لا لبس فيها، سنوردها في مقال قادم.
أما الآن فدعونا نناقش هؤلاء الذين يخوضون الانتخابات باسم الديمقراطية، ثم يسعون بعد ذلك إلى حرمان الناس من أبسط حقوقهم، وكأن الديمقراطية سُلّم يصعد عليه من يريد، لقضاء مآربه على حساب الآخرين.
ـ قام بالهجوم على المجلس الوطني لحقوق الإنسان مجموعة من الأشخاص يعتبر بعضهم نفسه مختصا في مجال الدين، وبعضهم صاحب مشروع سياسي هو إقامة الدين في الدولة في القرن الواحد والعشرين، وينتمي كثير من هؤلاء إلى حزب العدالة والتنمية وإلى تياره الدعوي “حركة التوحيد والإصلاح”، التي عودتنا على إثارة الشغب أمام كل خطوة تحديثية في موضوع القيم والحقوق الأساسية التي هي مرتكز الدولة الحديثة، وهي المعارك التي خسرتها جميعها بالمناسبة، دون أن تتعظ أو تتساءل عن أسباب فشلها.
الهجوم على المجلس الوطني لحقوق الإنسان اعتمد أساليب التدليس والدسّ كالعادة، لكنها مرة أخرى أساليب في غير محلها، فالقول إن المجلس لا شأن له بموضوع الإرث ولا حق له في الإدلاء برأي في الموضوع هو قول ظاهر البطلان، لأن المؤسسة المعنية هي “مؤسسة وطنية” أنشئت من طرف الدولة المغربية وفق “مبادئ باريس” المعروفة دوليا، وعوض أن يطعن الطاعنون في عملها كان عليهم رفض المؤسسة من الأصل، وأما وقد سكتوا عنها وهم يعرفون هويتها فإنها لن تعمل إلا وفق المبادئ والتوجهات التي أنشئت على أساسها، ومن أجل هدف رئيسي ـ يبدو أنه لا يروق لدعاة التقليد ـ وهو وضع تقارير مدققة حول حقوق الإنسان واقتراح البدائل المطلوبة بهدف تحقيق المساواة التامة في إطار المواطنة بين جميع أفراد المجتمع رجالا ونساء.
فعلى هذا المستوى نعتقد أن المجلس قد قام بدوره المنوط به ولا مجال للمزايدة عليه بغليظ الكلام الذي لا ينفع، بقدر ما يضرّ بأصحابه ويجعلهم عرضة للسخرية.
ـ لاحظنا أن هؤلاء الذين يتسابقون في استعراض عضلات البلاغة الجوفاء ينتمون إلى الحزب الذي يرأس الحكومة، والذي قام بالتوقيع قبل بضعة أشهر مع الأحزاب الأخرى على اتفاقية “سيداو”، التي تتضمن المساواة التامة بين الرجال والنساء في كل المجالات. وهو ما عبر عنه التيار الدعوي بالرفض والتحفظ والاستنكار، لكن وبهذا يقع الحزب في التناقض تماما كما وقع فيه أيام وضع الدستور، عندما هدّد بالنزول إلى الشارع إذا ما اعترف الدستور المغربي بحرية المعتقد، ثم قام بعد ذلك بالاحتفاء بحرية المعتقد في أرضية مؤتمره وتبنيها، فالحزب مثل النظام السياسي المغربي تماما، يلعب على الحبلين ويضع رجلا في الحداثة ورجلا في التقليد، بالحداثة يتملق النخب والطبقة السياسية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وبالتقليد يستثمر طاقات التخلف والنكوص الكامنة في المجتمع للحفاظ على مصالحه عبر الضبط والتحكم.
ـ لا حظنا كذلك أن بعض حراس المعبد القديم تباروا في الصياح قائلين إن ملف الإرث قد “أشبع” و”قتل” بحثا ودراسة وأنه قد أغلق بعد أن لم يبق ثمة ما يقال فيه. وهذا من غرائب الأمور المثيرة للضحك، فلا يوجد ملف ذو صلة بقضايا المجتمع يمكن إغلاقه وحظر البتّ فيه ما دام الناس أحياء وعجلة التاريخ تدور، وإنما الأمر يتعلق بمناطق نفوذ التيار المحافظ يُراد تسييجها ومنع الناس من دخولها خشية اكتشاف الحقائق التي يتم إخفاؤها عنهم. من جانب آخر فدراسة ملف ما والبحث فيه يهدف أساسا إلى حل المشاكل المثارة في المجتمع، وإنهاء الظلم بجميع أنواعه، وفي حالة عدم تقديم أي حل ناجع وعملي فإن الملف يبقى مفتوحا للنقاش إلى أن يتم الحسم فيه لصالح الإنسان، لا لصالح ثقافة الوصاية والحظر والترهيب.
فعلى الذي لا يحتمل النقاش العمومي أن يغلق عليه بابه ويوصد النوافذ بإحكام، حتى لا تصل إليه أصوات المطالبين بحقوقهم، والسائلين عن مصائرهم، أما أن يسعى إلى إسكات الناس وتكميم أفواههم إرضاء لنزوعاته التيوقراطية، فهذا أمر “دونه خرط القتاد” كما يقال.
اعتمد هؤلاء المناوئون لحقوق النساء وكرامتهن دستور البلاد، وأخذوا منه بعض عبارات مبتورة عن سياقها، كمثل “إسلامية الدولة”، التي يعلمون أكثر من غيرهم أنها عبارة لا تعني البتة أننا في دولة دينية قائمة على تطبيق النصوص حرفيا، إذ لو كان الأمر كذلك لكنا نعتمد الدين في كل مجالات الحياة ودواليب الدولة، وهو خلاف ما يجري واقعيا، فإسلامية الدولة ليست سيفا مسلطا على رقاب الناس نردعهم بها كلما طالبوا بحق من حقوقهم الأساسية، وعلى المحافظين أن يخرجوا من التناقضات التي يتخبطون فيها، فإذا كان الإسلام دين حرية وحقوق وكرامة، فإن ذلك لا ينبغي أن يبقى صيغا بلاغية بدون تفعيل واقعي. إننا لا نثق بالأقوال بل بالأفعال التي تجعلنا نعيش ما نقول، ونقول ما نعيشه بدون عُقد.
وما دمنا نتحدث عن الدستور فإن هذا الأخير يعتبر حقوق الإنسان “كما هي متعارف عليها دوليا” مرجعية للدولة، ويعتبرها سامية على التشريعات الوطنية، كما يعتبرها “كلا غير قابل للتجزيء”، فالمحافظون برفضهم المساواة في الإرث يخالفون الدستور الذي يعتبر حقوق الإنسان “كما هي متعارف عليها دوليا غير قابلة للتجزيء”.
أما كون الإسلام “يتبوأ الصدارة في الهوية” فهذا لا يعني مطلقا أنه المرجع في التشريع أو أن أحكام الشريعة أو مبادئها هي المنطلق، لأن المشرع لو كان يقصد ما يسعى إليه المحافظون لكان أكد على أن نصوص الشرع هي المنطلق بأحكامها ومبادئها كما في بعض الدول الأخرى، وهذا لم يرد في الدستور بل ورد خلافه تماما.
ـ من جانب آخر لاحظنا أنّ الراغبين في إنهاء النقاش قد اعتمدوا حججا ضعيفة مثل القول إن من يطالب بالمساواة في الإرث لا يعرف “الحكمة من نظام الإرث في الإسلام” ولا يفقه في “قاعدته الشرعية” و “دلالاته وأبعاده”، فهل من حقنا أن نقول لهؤلاء إن نظام الإرث والحكمة من ورائه وأبعاده الشرعية ومراميه هي أمور نعرفها منذ سنوات تمدرسنا الأولى، حيث حرص المسؤولون عن تدريس المادة الدينية على تلقينها لنا بتفاصيلها منذ نعومة أظفارنا، وما زالت تلقن لأطفال المدارس حتى اليوم، وقد عدنا إلى الموضوع بعد أن كبرنا ونحن مهتمون بحقوق الإنسان وبالشأن العام فأشبعناه تمحيصا وفحصا ودراسة على مستويين، مستوى النصوص والقوانين المعمول بها، ومستوى آثارها الاجتماعية، فتبين لنا أن كل عناصر الحكمة والدلالات والأبعاد المذكورة إنما ترتبط في الواقع بوضعية القبيلة والعشيرة العربيتين قبل قرون طويلة، كما تبين لنا أن تلك الأوضاع قد انقلبت رأسا على عقب سواء فيما يخص وضعية المرأة أو الأسرة أو العلاقات الاجتماعية، فالأمر شبيه بالحديث عن حكمة الشرع من الدعوة إلى “تحرير رقبة” من أجل التكفير عن ذنب أو حسن معاملة العبد وإطعامه، في الوقت الذي لم تعد العبودية قائمة أصلا منذ عقود. كما أن الأمر شبيه بمن يقوم بإبراز حكمة الشرع من تأديب الرجل لزوجته وأساليب ضربها “ضربا غير مبرح”، في الوقت الذي أصبح ذلك يعد جريمة غير مقبولة بالمرة، وأصبحت الدولة تنفق الملايير من ميزانيتها لإنهاء العنف ضد النساء.
ـ ورد في اعتراض المحافظين أيضا أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان لم يرجع إلى “أهل الاختصاص” في الدين من الفقهاء ليعرف رأيهم، والواقع أنّ المؤسسة الوطنية المذكورة ملزمة بالقيام بعملها وفق المبادئ التي أقيمت عليها وليس غيرها، فـ”أهل الاختصاص” في الدين ليسوا خبراء في حقوق الإنسان وليس لهم اختصاص فيها، ورأيهم مخالف لرأي الحقوقيين بل مناقض له، ووظيفة المجلس إخبارنا بما ينبغي عمله للحفاظ على حقوق الإنسان وليس بما يقوله الفقهاء الذين يمكن لهيئات أخرى أن تستشيرهم مثل “إمارة المؤمنين” عبر المجلس العلمي الأعلى أو وزارة الأوقاف.
أما الحقيقة فهي أنّ معضلة المجتمعات الإسلامية كانت كامنة في “أهل الاختصاص” هؤلاء، الذين لو بقي الناس عند رأيهم لما خطونا خطوة واحدة في طريق التحديث والدمقرطة، ألم يسعوا منذ بداية الاستقلال إلى الحيلولة دون إدخال الفتاة المغربية إلى المدرسة، معتبرين أن ذلك من شأنه “أن يقلب المجتمع رأسا على عقب” ويخرجه من دائرة الإسلام ؟ ألم يتصلوا بالسلطان محمد الخامس منظمين حملات لتغليب رأيهم ؟ لكن الدولة اختارت طريقا آخر غير طريق “أهل الاختصاص”، الذين حرّموا قبل ذلك الهاتف والمذياع والبنوك والصور الفوتوغرافية واللباس العصري والسباحة في الشواطئ وعزف الموسيقى، بل وحرّموا قبل ذلك كله شرب الشاي ! ، فلو ظل الناس عند رأي “أهل الاختصاص” لجعلنا من بلدنا هذا سجنا كبيرا مراقبا بإحكام، يتوق فيه المرء إلى كوة ضوء أو نسمة هواء فلا يجد، والحال أن هذا ليس هو الحكمة من وجود الدولة والمؤسسات في عصرنا هذا.
إن المطلوب اليوم من “أهل الاختصاص” في الدين أن يلتحقوا بقطار العصر، وأن يعملوا على المساهمة في ترسيخ الديمقراطية ودولة القانون في بلدانهم عبر اجتهاد تنويري عميق ومسؤول، يبدع مناهج جديدة في النظر الفقهي، ويجعلهم ينفتحون على علوم عصرنا فيدركوا بها التحولات التي تختمر في عمق الواقع، فيستبقوها باجتهاداتهم بهدف التيسير لا التعسير، ويكونوا بذلك فقهاء رحمة لا دهاقنة قسوة وانتقام.
إن ما يبدو في ردود المحافظين ودعاويهم هو التذمر من النقاش، والرغبة الملحة في إغلاق الملف وعدم البت فيه أو العودة إليه، وعلى فقهائنا المسيّسين على مذهب الإخوان أو الوهابيين، والغارقين في كتب الفقه التراثي القديم، أن يتحلوا برحابة الصدر لأننا سنناقشهم شاؤوا ذلك أم أبوا، لأن معرفتهم ببعض النصوص الدينية لا تعطيهم الحق في تقمص الذات الآلهية، ولا تسمح لهم بالتحكم في مصائرنا في غيابنا، أو إسكات أصواتنا المعارضة لهم.
إننا لا ننتظر من فقهاء الإسلام السياسي أن “يقتلوا” الملفات بحثا عبثيا لا طائل من ورائه، بل أن يقدموا للناس حلولا عملية لأن الظلم لا يمكن تجميله، وبقاء فقهاء التحريم على مواقفهم المعاندة لا يعني أن المجتمع سيظل واقفا عند الحدود التي يرسمونها، إن لم تتحقق قيم العدل والمساواة والحرية.
التعليقات مغلقة.