لا أحد يجادل في كون صيانة ذاكرة المدينة ينبغي أن تكون ضمن أولوية أهداف القائمين على أمورها لأن من شأن ذلك أن يسهم في تحسيس الخلف بمنجزات أسلافهم وأخذ العبرة منهم. ويلاحظ بأسف شديد أن بعض الأماكن ذات الحمولة التاريخيه الوازنة بمدينة سلا أصبحت أو تكاد تكون نسيا منسيا.
من هذا المنطلق، ارتأينا الوقوف عند دار الحافي التي لا تدخل في عداد السكن الفخم ولا يرقى معمارها إلى جودة معمار بعض دور حومتي الطالعة وبابا حسين. تقع دار الحافي في أول درب احرارثة من جهة الزاوية العيساوية،وتتكون من طابق أرضي وآخر علوي،ذات ثلاث واجهات: الأولى في الدرب المذكور، والثانية تشرف على الممر المؤدي إلى درب الخيار والبليدة وقد أحدثت بها حوانيت كانت من قبل غرفا تشرف على وسط الدار، أما الواجهة الثالثة فتوجد بجانب دار زنيبر ومقابلة لعقبة الفقيه ابن خضراء. يوجد بابها الرئيسي على يمين الداخل لدرب احرارثة ، ويقع على يساره باب صغير الحجم ، وبجانب هذا الأخير يوجد باب ثالث كان فيما مضى مدخلا للأروا ( مربط الدواب).
تكمن أهمية دار الحافي في كونها أنجبت علمين بل هرمين شامخين من أهرام مدينة سلا . أما الأول فهو أحمد بن عاشر الحافي الذي يعد من أبرز شيوخ العلم السلاويين خلال القرن 18/12 (توفي سنة 1750/1163). ينتمي إلى أسرة سلاوية نابهة كان لها شفوف وحظوة خلال القرنين 19-18/13-12، وقد أنجبت عددا من الفقهاء والمدرسين والعدول ورؤساء البحر ، وتدخل أسرة الحافي اليوم في عداد الأسر المنقرضة من سلا. تلقى أحمد بن عاشر الحافي تعليمه الأولي وحفظ القرآن الكريم على يد الفقيه محمد بن عبد السلام مرصو العلمي في الكتاب (المسيد) الواقع في رحيبة زركالة (بجيم معقودة) القريبة من درب احرارثة . هكذا،يلاحظ أن دار الحافي تقع بجوار الزاويتين العيساوية والناصرية وضريح سيدي عبد الله حسو (سيدي بوشاقور) ولا يفصلها عن المسجد الأعظم سوى عقبة الفقيه ابن خضراء . واصل الحافي تكوينه على يد علماء مسقط رأسه وفاس ومكناس وغيرها ونال إجازات من هؤلاء، وشهد له مترجموه بعلو كعبه في العلم ،الشيء الذي نلمسه في قصيدة لتلميذه محمد بن حجي زنيبر، شارح الهمزية .كاتب شيخه الحافي يتشوق إليه حينما كان – زنيبر- فارا عام 1746/1159 إلى مدينة الرباط خوفا من عبد الحق فنيش ،قائد سلا خلال هذه الفترة. ومن جملة ما كتب:
يمينا برب البيت إني لشائق
لتقبيل أقدام الإمام ابن عاشر
حبيبي وشيخي والمفيد بعلمه
منار ذوي الأفهام صدر الأكابر
عرف ابن عاشر الحافي بكثرة تقاييده ،الشيء الذي يفسر كثرة كناشاته العلمية . كما انكب على تأليف ” الفهرس ” الذي ترجم فيه لشيوخه.ويبدو أنه تفرد من بين علماء سلا في هذا النوع من التأليف. كما أفرد مؤلفا لسميه أحمد بن عاشر الجزيري سماه” تحفة الزائر في مناقب الحاج أحمد بن عاشر ” .وكان هذا الكتاب ينتسخ باستمرار سواءا للتعلم منه أو التبرك به.
باع أحمد بن عاشر الحافي داره بدرب احرارثة وانتقل حينئذ إلى السكنى بحومة باب المصدق. ويشاء القدر أن تشتري هذه الدار أسرة الدكالي السلاوية التي أنجبت
مؤرخ سلا الشهير، محمد بن علي الدكالي السلاوي الذي رأى النور في الدار التي نحن بصددها سنة 1869-68/ 1285، وبذلك شكل الهرم الشامخ الثاني الذي عرفته هذه الدار. كان ذا قلم سيال حيث ألف عدة كتب ، وقد خص مسقط رأسه ب ” الإتحاف الوجيز بأخبار العدوتين” و “إتحاف أشراف الملا، في بعض أخبار الرباط وسلا” و” الحدائق ” الذي يضم بين ثناياه زهاء 2000 ترجمة لرجالات العدوتين. إلا أن هذا الكتاب الهام وبعض مؤلفاته الأخرى ما تزال في حكم المفقود، مع العلم أن صاحبها لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا في سنة 1945!!!
وصفوة القول، فإن ما يسترعي انتباه الواقف أمام هذه الدار التي رأى فيها النور شيخان عملاقان من شيوخ العلم السلاويين، لا يجد أمامه ما يرمز إلى ذلك. وما يقال عن هذه الدار يسري على محل إقامة لسان الدين ابن الخطيب في أول درب الشماخ من جهة سينما الملكي-سابقا- ودار الأشراف الكتانيين بحومة بابا حسين التي” كان يقع بها عرض الغنائم وأسرى الجهاد البحري ويزورها العامة والخاصة ثم يباعون في الأسواق المعلومة لهم”(1) وغيرها من الدور التي شهدت أحداثا هامة أو آوت شخصيات بارزة عرفت بعلو مقامها في ميدان ما. نأمل أن يلتفت المسؤولون إلى هذه الدور وغيرها من الأماكن ذات الحمولة التاريخية الوازنة بهدف صيانة ذاكرة هذه المدينة المجاهدة.
أحمد بن عاشر الحافي، فهرس، دراسة وتح. محمد السعديين، منشورات المجالس العلمية لجهة الربط سلا القنيطرة، 2018،ص.ص. 127-15.
ابن علي الدكالي، الإتحاف الوجيز،تح. مصطفى بوشعراء، المعارف الجديدة، الرباط، 1996،ص.ص.16-10.
جان كوستي،بيوتات سلا، تح. نجاة المريني، منشورات خ.ص. بسلا، ص.130.
(1)ج.الناصري، سلا ورباط الفتح ،أسطولهما وقرصنتهما الجهادية،تح. أحمد بن جعفر الناصري، ط.أكاديمية المملكة المغربية، 2006، ج.5 ،ص.60.
التعليقات مغلقة.