أسلَمَنا ابن خلدون أداة قراءة من أجل مقاربة واقع شمال إفريقيا، حتى يتسنى لنا فهم ما يعتمل في مجتمعاتنا من خلال طرحه لعلم العمران، أو فلنقل قواعد موضوعية لفهم ظواهر اجتماعية. كانت تلك هي الغاية، أما الوسيلة فهي التمييز ما بين العمران البدوي والعمران الحضري. لم يقابل ابن خلدون ما بين العمرانين، لأن مآل العمران البدوي هو أن ينتهي إلى الحضارة عبر مسار حلله ابن خلدون بدقة، يبتدئ بالعصبية، ويكتمل بالدعوة، ويفضي لقيام الدولة التي تنتهي إلى الحضارة، أي الترف في مفهومه، وبتعبير ابن خلدون إلى التفنق نسبة للفنيقيين (وهو ما دفع المرحوم علال الفاسي إلى أن يستعمل هذه الكلمة مقابلا للتبرجز)، ثم يحدث بعدها مسلسل من التفسخ والتحلل ينتهي بالاضمحلال. ومن سمات ذلك، الميلُ إلى الاستمتاع بالملذات، والتكاثر في الأموال، والإثقال على المحكومين بالضرائب والزجر، والاعتماد على الموالي. يظل العمران البدوي في عرف ابن خلدون هو الخليلة المغذية، أو الأساس. وتاريخنا بما فيه المعاصر، تجاذب ما بين العمرانين. قاوم العمران البدوي تغلغل المستعمر، وحين أعيته المقاومة وأُنهِك أمام اختلال موازين القوى، توارى وقام إثرها العمران الحضري، منذ 1930 الذي حمل مشعل الحركة الوطنية. وعرفت فترة الخمسينات تضاربا ما بين الحركة الوطنية (أو العمران الحضري)، والمقاومة (العمران البدوي). وحُسمت المسألة عقب الاستقلال لفائدة العمران الحضري لاعتبارات عدة لا مجال للوقوف عندها هنا. كان على العمران الحضري ونخبه أن يقودا معركة أخرى، هي معركة الانتقال الديمقراطي. قادته مع حكومة اليوسفي، وقادته مع حكومة ابن كيران، وانتهت التجربة الأولى كما التجربة الثانية إلى الإخفاق. تلتقي التجربة الأولى والثانية، في كونهما نابعتين من العمران الحضري لنخب حضرية، تتقن الكلام والمساومة، وتقبل بالتوافقات، وتؤمن بالتوازنات. طبيعة النخبة الحضرية كونها إصلاحية. أما العمران البدوي، في كل من التجارب التي مر بها، مع كل من عبد الكريم الخطابي، والمقاومة، وأحداث 1973، وشباب تراب البيضان المنادي، بدءا، بتحرير الساقية الحمراء وواد الذهب، فهي لا تحسن الكلام المنمق، ولا تقبل بالمساومة، وترفض التوازنات، وتأنف من المقاربة الإصلاحية. الطبيعة تأبى الفراغ، وحين يفشل بارديغم، يقوم آخر مكانه. تتوارى نخب الأول، إذ يفشل، ويُفرز البارديغم الثاني نخبا جديدة.
نجحت النخبة الحضرية في الإحراز على الاستقلال، عبر مسلسل تفاوضي، واصطدمت مع العمران البدوي الذي رفض التفاوض مع المستعمر، وآمن بتوسيع دائرة المواجهة في كل بلاد المغرب أو شمال إفريقيا، والتقت مصالح النخبة الحضرية مع المصالح الاستعمارية، وتوارت النخبة البدوية، ثم همدت كما يهمد البركان، يثور بين حين وحين، أو يتحول كما تحول مع شباب من الصحراء أو تراب البيضان على الأصح. لم تنجح النخبة المدينية أو العمران الحضري، في الانتقال الديمقراطي. هذا الفشل من شأنه أن يمنح المشروعية للعمران البدوي. كيف نقرأ حراك الريف، أو غضب الجنوب الشرقي، أو احتجاجات الهامش؟ قد تقرأ قراءة اختزالية (مطالب اجتماعية)، وقد تصطبغ بالتجني كما في حالة الريف، كالرمي بالمثالب أو الشيطنة (الرمي بخطاب الكراهية، الزعم بالعنف، الاتهام بمرامي انفصالية…) أو كما قُدم كزيغ وجنوح عناصر محدودة، تأتمر بأجندة خارجية لا تمثل إلا نفسها. يُفهم ذلك سياسيا، من فاعلين سياسيين، يدركون طبيعة الحراك ويسعون إلى الغض عنه، ولكنه لا يسوغ تاريخيا، لأن التاريخ قراءة موضوعية للأحداث.
يخبرنا التاريخ أن العمران البدوي، بقدر ما كان يرتبط بالسلطة المركزية بالاحترام، بقدر ما كان يأنف من غطرسة أصحابها، وسلوك رجالها. كان حريصا على ثقافته، وعلى طريقة تدبيره لشؤونه، وكان يرفض ما تفرضه الحرْكات المخزنية من إتاوات وما تثقل بها القبائل من ضرائب. كان يرفض الثقافة المخزنية القائمة على البطش والحيلة والغيلة والتملق والرياء. لم ينتفض العمران البدوي على السلطة المركزية إلا حين تقطع هي حبل الاحترام الواجب، إذ تخيس بواجباتها كما لما أقدمت على توقيع الحماية، أو حين تبطش وتُهين. يختلف العمران البدوي عن العمران الحضري لأنه لا يستكين ويرفض المساومة. يقاوم ما وسعته المقاومة ولو أدى به الأمر إلى الهزيمة. تضحى الهزيمة، حين تقع، مشعلا وجذوة لأجيال لاحقة.
تغيرت موازين القوى عقب الاستقلال لفائدة العمران الحضري، بحكم تعلم أصحابه وإتقانهم للأساليب العصرية في العمل السياسي، من أحزاب وتنظيم، وصحافة، واستفاد من دعم الشرق له، سواء في فترة ذيوع القومية العربية، وبعدها مع بزوغ الحركة الإسلامية. توارى العمران البدوي لأنه جُرد من السلاح، في سياق دولة عصرية تحتكر العنف المنظم، ولأن نخبه لم تكن متعلمة ولا مستأنسة بقواعد العمل السياسي الحديث. بعد جيلين أفرز العمران البدوي نخبا متعلمة، منها عناصر ناضلت بداخل قوالب العمران الحضري، وتمرست بالعمل السياسي الحديث، وحصلت على معرفة عصرية وثقافة واسعة. وسّع هذا العمران دائرة شبكته، ولم يعد محصورا في القبيلة أو الدشر. غيّر من خطابه، لأنه أصبح خطابا كونيا، يدعو للعدالة الاجتماعية وللحرية ويرفض الانكفاء، ويؤمن بالقيم الكونية، ويعتمد الأساليب الحديثة في العمل السياسي ويرفض العنف، ويجنح للطرق السلمية. لم يعد من اليسير الهزء به كما هُزئ بسابقيه عقب الاستقلال. يستمد شرعيته من التاريخ ورموزه، ووعيه التاريخي، ومن إخفاق العمران الحضري، ويؤمن مثلما آمن سابقوه بوحدة بلاد المغرب وانتصابه ضد ما يحول دون ذلك. إنه يطرح الأسئلة العميقة التي سبق أن طرحها ابن خلدون ولم يجد لها جوابا حين سأله تيمورلنك عن بلاد المغرب، فما كان جوابه إلا أن قال له إنه أتى متأخرا.
ينبغي حسن الإصغاء إلى خلجات العمران البدوي. إنه معطى بنيوي ومؤثر في مغرب اليوم، وبلاد المغرب عامة، أججه فشل الليبرالية الجديدة، يحمل هذا الهاجس الذي أرّق ابن خلدون: الوحدة.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.