حسن اوريد//
تُطرح بحدة في أوروبا عامة وفرنسا خاصة قضية العيش المشترك بين من يُسمّون بأوروبي الأصل، ومن يحملون الجنسيات الأوروبية من أصول غير أوروبية، ومن غير البلد ذاته، وقد يكونون ممن ولدوا فيها. ويذهب البعض مثل المختص في الشؤون الإسلامية جيل كيبيل إلى التلويح بخطر الحرب الأهلية، جراء هذا التمايز وقد أضحى شرخا مجتمعيا. واستفحل الشرخ خاصة بعد أحداث شارلي، وما عبّر عنه الوزير الأول الفرنسي الأسبق مانويل فالس بالأبارتيد، أي مجتمع بطوائف منعزلة ومرجعيات مختلفة بل بتنظيمات مغايرة.
مرد هذا المقال هو ظهور تنظيمات في فرنسا تقوم ضد الميز الفعلي القائم، أو وضعية الأبارتيد، وتنادي بعدم الاختلاط العرقي، وتقيم لقاءات لفائدة «المجنسين» أي غير «البيض» (كذا)، وتندد بما تسميه بـ»الامتياز الأبيض»، وتجري ملتقيات تسميها بنزع الاستعمار، بل تشجب ما تعتبره بـ»عنصرية الدولة». استأثر باهتمام الرأي العام تنظيم لقاء لنقابة التعليم لجهة لاسين سان دوني بتاريخ 18 ديسمبر الحالي مع ورشات مخصصة لـ»غير البيض»، ما أثار لغطا كبيرا في الأوساط السياسية والصحافية.
تَنعت كثير من التنظيمات اليمينية وبعضا من اليسارية ردود الفعل هذه، بعدم الاختلاط العرقي، بالعنصرية، وتندد بما تسميه بالانطواء الإثني العرقي، وتنظر إليها كعنصرية مقلوبة، أما التنظيمات التي تقف ضد البيض، فهي تربط «شرعيتها» بما تسميه، إما عنصرية الدولة، وهو قول الاتجاه المتطرف منها، أو العنصرية في داخل الدولة، وهو الاتجاه المعتدل منها، وتقيم جردا إلى ما تتعرض له من حيف، منها التمييز الناتج عن الاسم، أو الملمح، وإمكانية الحصول على شغل والسكن، والعسكرة في أحياء هامشية، وصعوبة إجراء دراسات عليا، ومن ثمة التعثر في الارتقاء الاجتماعي، أي أن ما كان اجتماعيا أصبح مطية للعنصرية، لأن أسباب الوضع الاجتماعي ترجع بالأساس لاعتبارات عنصرية، وبتعبير آخر، ما تدعو له تنظيماتُ عدم الاختلاط العرقي هو عنصرية مكشوفة ضد عنصرية مستترة.
مزعج حقا بالنسبة لدولة مثل فرنسا، تقوم على مبادئ الثورة الفرنسية الداعية للمساواة والحرية، وقيم الجمهورية، ومبادئ المواطنة، أن تقوم تنظيمات على عكس تلك المبادئ، وتذهب إلى حد اتهام الدولة الفرنسية بالعنصرية. ولكن في الوقت ذاته من العسير، أو بالأحرى ليس من الموضوعية عدم الوقوف على الميز الفعلي الذي تتعرض له الجماعات غير «الأصلية». وقد لا تكون الدولة وقوانينها مسؤولة، ولكن لا يمكن تبرئة تجاوزات من داخل الدولة ومن العناصر الأمنية، في تصرفات تأججت مع خطر الإرهاب، وسلوكيات استفحلت مع الأزمة الاجتماعية ومظاهر التوتر في الأحياء الفقيرة والضواحي. الجديد في رد الفعل هذا، الذي يضم عناصر من أصول إفريقية جنوب الصحراء، وأخرى من أصول مغاربية، هو أنه لا يركز على العقيدة، أي الإسلام في هذه الحالة. والواقع أنه من العسير عدم ربطه بظاهرة الإسلاموفوبيا أي العداء للمسلمين وللإسلام. والاسلاموفوبيا هي أحدى الظواهر الأبرز في المجتمع الغربي، التي تهدد تماسكه وتغذي ردود فعل عنيفة. ولا يُخفي كثير من الباحثين الرصنين أن «هوية» أوروبا تتشكل من خلال استعداء الآخر، فلئن كان «الآخر» في سياق ما بعد حروب التحرير والأزمة الاقتصادية لسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، هو المهاجر أو المغترب، وغالبا ما يكون من جنوب الصحراء، أو العربي، (بالنسبة لفرنسا) فإن «الآخر» اليوم الذي من خلاله تسعى بعض الدول الأوروبية إلى تحديد هويتها هو المسلم.
يعتبر حدث مقتلُ خالد قلقال الفتى من أصل جزائري سنة 1995من قِبل الدرك، والذي كان منضويا في تنظيم الجماعة الإسلامية المسلحة، واجترح أعمالا إرهابية في فرنسا، في سياق الحرب الأهلية الدائرة رحاها في الجزائر، التحولَ في النظرة إلى الإسلام الحركي في فرنسا، وإن كانت معالم نظرة المغايرة بل الاستعداء قد بدت بعد حادثة حجاب فتاتين مغربيتين في كريل ضاحية في باريس، أُجْبرتا سنة 1990 على نزع الحجاب، من قبل إدارة مدرستهما الثانوية، باعتباره من العناصر الجلية في إبراز الهوية العقدية، مما لا يتماشى مع توجه المدرسة الفرنسية اللائيكي. إلا أن التحول الأعمق بل البنيوي هو الذي طرأ غداة أحداث 11 سبتمبر.
أصبحت الإسلاموفوبيا مثلما يقول السوسيولوجي الحصيف فانسان جيسبير الذي أفرد للموضوع كتابا قيّما، أكثر «احترافية»، أي أنها توظف الخبراء وتستعمل «العلم» واستطلاع الرأي، وتزعم الموضوعية. في المنحى ذاته ينظر الصحافي أيدي بلنيل في كتابه «من أجل المسلمين» إلى الإسلاموفوبيا، باعتبارها أيديولوجية نصَبت المسلم عدوا، مثلما انتصبت سابقا عدوا للسامية في فترة زمنية من تاريخ أوروبا. ويرى بلنيل أنه بقدر ما يتم التلويح بالخطر، بقدر ما يصبح قابلا للتحقيق. أي أن العداء المجاني والأحكام المسبقة تجعل «الآخر» غير قابل للاندماج، وعدم اندماجه يغذي الأحكام المسبقة، وتترسخ الاسلاموفوبيا وتُفضي إلى الانطواء الهوياتي والحقد أو الموجدة، ومن ثمة العداء. نحن هنا أمام ما يسمى بالأفعى التي تعض ذنبها. وهكذا تغذي الإسلاموفوبيا الإرهاب، مثلما يؤجج الإرهاب الإسلاموفوبيا. لا مبرر للإرهاب طبعا. والإسلاموفوبيا لا تجيز العنف أو تستسيغه، ولكن من الضرورة الوقوف عليها وعلى أسبابها، ورصد ما أسماه الرئيس الفرنسي ماكرون مؤخرا بقصور الجمهورية في الاضطلاع ببعض مهامها، وما يفضي إلى توظيف الشباب في ظروف صعبة، من خلال خطابات تدعو للعنف.
التنظيمات التي تدعو لعدم الاختلاط، هي نتيجة، وليست سببا، وعَرَضا وليست داء، ولا يُحلُّ المشكل بأن يُقدم وزير للتربية بتقديم دعوى ضدها، بل النظر إلى أسباب الظاهرة. ويبدو جليا أن العيش المشترك بين مكونات المجتمعات الأوروبية، خاصة المسلمة، ليس فقط شأنا أوروبيا، مما يفترض حوارا جديا وعميقا بين الضفتين، عوض إجراءات ظاهرها علمي، وباطنها أمني، بمقاربة أمنية لما يسمى بنزع التطرف.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.