ءاماوال: أحرضان، الحركة الوطنية، واغتيال عباس مساعدي

أصدر المحجوبي أحرضان، أحد قيدومي المشهد السياسي والحياة الحزبية بالمغرب، الجزء الأول من مذكراته الذي خصصه لفترة 1942-1961م. ومن خلال تتبع الردود والنقاش الذي بدأ يثيره مضمون هذا الجزء، خاصة في صفوف جياله من شيوخ وقدماء الحياة السياسية ودهاليزها خلال فترة الاستعمار وعلى امتداد أكثر من نصف قرن من عمر المغرب المستقل والدولة الحديثة، وكذلك في صفوف مكونات الحركة الأمازيغية بالمغرب التي تحظى هذه الفترة بأهمية كبيرة في مسار بوادر نشأتها وتاريخ إخفاقاتها، يبدو من المفيد أن نتوقف عند جانب من هذا النقاش مساهمة في إثرائه بتحليل بعض المعطيات وإبداء الرأي في بعض قضاياه.

وفي بداية هذا المقال تجدر الإشارة إلى أن اهتمامنا بمضمون هذه المذكرات والأحداث مثار النقاش يعود إلى سببين رئيسيين: فمن جهة أولى، يهمنا معرفة ما جرى في مراحل مسكوت عنها أو غامضة في تاريخ بلادنا ، تم استغلالها في شرعنة النفوذ والهيمنة السياسية والاقتصادية والاستفراد بتحديد الخيارات الهوياتية والثقافية للدولة الحديثة. فتاريخ المغرب أو ما يقدم منه هو موضوع تعتيم وانتقائية وتحريف كبير، خاصة مند بداية القرن العشرين وعقب اتفاقية إيكس ليبان وخروج الحمايتين الفرنسية والإسبانية، وما تلا وارتبط بذلك من أحداث ودسائس ومؤامرات ونضالات وتضحيات واغتيالات…. وما أفضى إليه من واقع الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية وإقصاء الأمازيغية .

ونظرا لهذا الوضع والاستغلال الذي عرفته المرحلة، تتأكد الحاجة إلى وثائق وشهادات لإضاءة هذه المرحلة الشائكة من تاريخ المغرب العتم، خاصة أن العديد من الأحداث والقرارات والصراعات والتواطؤات والاغتيالات …كثيرا ما تظل من أسرار الدولة والسلطة والأطراف المستفيدة أو المتواطئة، وترتبط بالتدابير والاتفاقات والمؤامرات والدسائس والتسويات السرية، وقليل من الحقائق أو أنصاف الحقائق تخرج للعلن وتصل إلى العموم.

ومن جهة أخرى، فالسبب الثاني يتجلى في كون تاريخ المغرب خلال هذه الفترة هو تاريخ محروس، خاصة من طرف الذين ساهموا في نسج وفرض الروايات التي تخدم مصالحهم الحزبية والفئوية والإيديولوجية، وحولوا بعض الشخوص من رموزهم وزعمائهم إلى أصنام مقدسة لا يجب الاقتراب منها أو التشكيك في طهرانيتها. وقد نصب بعض هؤلاء أنفسهم عدة مرات مؤتمنين على أسرار هذه المرحلة الشائكة التي يعتبرونها محمية شرعيتهم التاريخية حيث سرعان ما يهاجمون كل من حاول النبش فيها وإعادة قراءة الأحداث التي عرفتها.

من هذا المنطلق، ونحن بصدد الحديث عن مذكرات الساسة تجدر الإشارة إلى أنه ثمة فرق بين المذكرات وسرد الذكريات والسيرة الذاتية Mémoires, Souvenirs et Récit autobiographique ، فالمذكرات غالبا ما ترتبط بشهادات حول أحداث وفترة من الزمن يكون الشاهد أو كاتبها فاعلا مباشرا فيها، ونظرا لطبيعة السياقات وارتباط حياة الشخص ومساره أو مصالحه بتلك الأحداث والحقائق التي عاشها أو كان شاهدا عليها، فالإفصاح عن روايته وشهادته وإصدار مذكراته غالبا ما يأتي متأخرا، أي بعد تحول السياق وفك جزء من تلك الارتباطات به .

وفي المغرب فقد أصدر عدة سياسيين من جيل أحرضان مذكراتهم من قبل كمذكرات في حركة المقاومة وجيش التحرير لعبد الله الصنهاجي، ومذكرات الفقيه البصري، و”مذكرات حياة وجهاد ” لمحمد بن حسن ألوزاني ، ومذكرات مسار حياة لعبد الكريم الخطيب، وكتابات عبد الرحيم بوعبيد…إضافة إلى مذكرات الملك الحسن الثاني التي تضمنت معلومات وحقائق من هذه المرحلة، ومنها ما يتعلق بجيش التحرير واغتيال عباس مساعدي.

من الواضح بأن كاتب مذكراته لا يسرد إلا روايته للأحداث ونظرته للحقائق، وربما بشكل لا يمكن فصله عن انتمائه السياسي والإيديولوجي وأثر المصالح والصراعات المرتبطة به، ومن تم ضرورة توخي الحذر والتفحص والمقارنة قبل تصديق مضامينها، لكن رغم ذلك فالمذكرات تعتبر وثائق وشهادات هامة في تاريخ الدول والأفراد والمجتمعات، تصدر عن من شاركوا في الأحداث وعايشوها أو صنعوها، وتلزمهم أخلاقيا بحد أدنى من النزاهة واحترام التاريخ، مما يجعل منها مادة هامة للتدوين واستجلاء الحقائق ومقارنة الروايات خاصة بالنسبة للمؤرخ والباحث المسلح بالمنهجية وحس النزاهة والتجرد العلمي.

ففي هذا الجزء من مذكرات أحرضان، يستوقفنا أكثر موضوعان وجانبان اثنان. فمن جهة، يتضح أن إحدى أهداف أحرضان وهواجسه الأولية هو إثبات وطنيته وخدمة الملكية بعد ماضيه العسكري في خدمة فرنسا، بل أن الشاهد في مذكراته حاول نزع أو إسقاط هذه الصفة عن بعض أعضاء أحزاب الحركة الوطنية وبعض قاداتهم الذين شاركوا في محادثات إيكس ليبان، والذين يقول أحرضان في شهادته لم يكونوا يستعجلون عودة محمد الخامس بل أن أحدهم طالب بتأجيل ذلك إلى حين بناء مؤسسات الدولة المستقلة، وفي هذا الكلام تشكيك كبير في “وطنية” الحركة التي تعتبر ذلك أصل شرعيتها السياسية وتعاقدها مع الملكية.

والموضوع أو الجانب الثاني الذي يستوقف القارئ من هذه المذكرات هو موضوع حل جيش التحرير واغتيال عباس مساعدي، وله علاقة وطيدة بسابقه.

وتتأكد أهمية وحساسية هذين الموضوعين من خلال تتبع النقاش والردود التي أثارتها خاصة بالنسبة لجياله من اليسار وأحزاب الحركة الوطنية ، وبالنسبة للحركة الأمازيغية. فردود بعض قياديي الأحزاب والسياسيين المعنيين بالمرحلة وبشهادة أحرضان تجد مبررها في كون بعض رموزهم أثيروا بشكل صريح في مذكراته، خاصة من خلال التشكيك في مطالبتهم بعودة محمد الخامس، وفي علاقة باغتيال عباس مساعدي، وذلك بشكل يصعب فصله عن نوعية وخلفيات الصراع التقليدي الذي يجمع بين أحرضان والحركة الشعبية وبين اليسار وأحزاب الحركة الوطنية بالخصوص. لكن اهتمام الحركة الأمازيغية بالموضوع وبهذا الجانب من مذكرات المحجوبي أحرضان يتطلب التوقف عنده مساهمة في إثراء هذا النقاش وإضاءة لبعض جوانب تاريخ المغرب المعاصر.

لعل البعد البارز لعلاقة الأمازيغ والأمازيغية بهذه المرحلة، وبالتالي اهتمام الحركة الأمازيغية بكل المستجدات والمذكرات والكتابات التي تتناولها، يعود بالأساس لكون هذه الفترة وحدثي مفاوضات إيكس ليبان ثم اغتيال عباس مساعدي وإنهاء جيش التحرير، تشكل اللحظة التاريخية التي عقدت فيها الاتفاقات الحاسمة وتشكلت فيها بنية النظام والقوى السياسية التي ستفرض هيمنتها واختياراتها ومصالحها على المغرب المستقل، وهي اللحظة أيضا التي أضاع فيها الأمازيغ أو بالأحرى أقصوا من إمكانية التموقع في المعادلات السياسية وبنية القوى والدولة المستقلة بالشكل الذي سيسمح بفرض مصالحهم واختياراتهم السياسية والاقتصادية والهوياتية في بناء الدولة الحديثة.

وإذا علمنا بأن عباس مساعدي لم يكن فقط مؤسس وقائد جيش التحرير بالريف، بل كان أيضا من الأمازيغ القلائل في تلك المرحلة الذين كانوا يملكون وعيا ثقافيا وسياسيا كبيرا بالمرحلة ودورها الحاسم في صنع مستقبل المغرب، تتأكد مكانته والدور الذي كان من الممكن أن يضطلع به في سياق معادلات القوى وبناء الدولة الحديثة.

فكما تدل على ذلك عدة وثائق، وكما أكد المؤرخ زكي مبارك، فقد كان عباس مساعدي يتميز بمستوى وعيه السياسي الرفيع والمتقدم، وفكره النيّر، وتحليلاته الرزينة للأحداث، ومواقفه المبدئية، وإخلاصه العميق لأهداف الثورة التحريرية المغاربية التي آمن بها كل الإيمان. ويضيف زكي مبارك بـأن هذه المكانة رأت فيها زعامات سياسية أن صاحبها الذي خرج من صفوف الشعب، يشكل خصما سياسيا عنيدا ولدودا ينغص عليها مصالحها ويهدد طموحاتها ومشاريعها. ولهذا لم يتنفسوا الصعداء إلا بعد اغتياله في فجر الاستقلال، فكان عباس المسعدي من الشهداء الأوائل الذين دشنوا تاريخ الاغتيالات السياسية في مغرب الاستقلال.

من هذا المنطلق يبدو بأن أبعاد وعلاقة هذا الحدث التاريخي بمستقبل الأمازيغية حينها، رغم أن السياق كان محكوما بنزوع إيديولوجي قومي عام وبعلاقة الدعم التحرري التي تربط المقاومين وأعضاء جيش التحرير المغاربة بمصر والجزائر والشرق، كان حاسما بالنسبة لتشكل موازين القوي السياسية والفكر الوطني وتحديد خيارات بناء الدولة على المستوى السياسي والهوياتي، بالشكل الذي كانت الأمازيغية والأمازيغ ضحيته الكبرى على المستوى اللغوي والثقافي والهوياتي والاقتصادي، وذلك نتيجة هيمنة الفكر القومي ومصالح النخب المدينية على المشاريع السياسية والإيديولوجية ومفهوم التحرر والوطنية، وهيمنة التقسيم الشهير للبلاد إلى مغرب نافع وآخر غير نافع.

ومن هذا المنطلق يبدو أن اغتيال عباس مساعدي كان اغتيالا أيضا للمشروع التحرري الذي كان يؤسس لإمكانيات تشكل وعي سياسي واجتماعي في إطار حس وانتماء هواتي ووطني مغربي أمازيغي مغاير.

وإضافة إلى الجانب الحقوقي في الملف حيث الحاجة إلى تبيان الحقيقة وتحديد المسؤوليات، وضرورة اضطلاع القضاء بدوره في استجلاء حقائق أول اغتيال سياسي في المغرب المستقل، فإن الرهان قائم أيضا على تحرير العقل السياسي والكيان المغربي والدولة من العديد من المكبلات الإيديولوجية وتبعات الخيارات والقرارات السياسية التي تشكلت بنيتها في تلك المرحلة الشائكة من تاريخ المغرب والتي كان اغتيال عباس مساعدي والهيمنة السياسية والاقتصادية وإقصاء الأمازيغية إحدى عناوينها الكبرى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد