النّاير: أعرقُ الأعيادِ الأمازيغية وأقدمُها.. وكيف نحتفي به

       

 الجزائر:بشير عجرود (مازيغ يدر//

منذ الانتصار الذي قاده الملك الأمازيغي (شيشناق) على فرعون مصر (رمسيس الثاني) حاكم الأسرة الواحدة والعشرين.. وهذا سنة (950 ق.م) في معركة فاصلة دارت رحاها على ضفاف (نهر النيل بمصر).. وهو الحدث التاريخي الذي رسم حدا فاصلا لأطماع وطموحات (الفراعنة) اللامشروعة بدعم من الروم في الاستلاء والسيطرة على الأراضي الواقعة غربا لكون بلاد (ثامازغا) كانت تمتد جغرافيا حينها من المحيط الأطلسي شرقا إلى حدود (النيل) غربا- وتقديرا لهذا الانتصار والمحسوب لـلملك (شيشناق) على (الفرعون رمسيس الثاني) عُمِد من حينها كبداية للتقويم (الأمازيغي) هذا في معلومه التاريخي.. أمّا في شقه الأسطوري يشير(المُحكى الشفوي) المتداول في الأوساط الشعبية إلى يومنا هذا كتراث قصصي باق بقاء الوجود إلى أن شهر (يناير/ جانفي) كان قد طلب من شهر )فورار/ فبراير) أن يعيره يوما من أيامه لانقضائه دون معاقبة (عجوز) كانت قد سخرت منه.. وتحدّت قوته ولم تحفل بسطوته الطبيعية.. وبعد الموافقة فرض حينها (يناير) في اليوم المستعار عاصفة هوجاء.. فيها قضي على (العجوز العنيدة).. ذاك ما يسمى عندنا تعارفا

(آس ن تمغارث).. والبعض معروف لديه بـ (ثغّاط) أو (آس ن ثغاط).. فؤشيع عن ذلك اليوم في الذاكرة الجماعية انه رمز للعقاب على كل من تسوّل له نفسه الاستخفاف والازدراء.. وعدم أخذ الحيطة من قوّى الطبيعة..

ففي الثاني عشر من كل (يناير) ميلادي يصادف حسابيا رأس السنة الامازيغية في مستهل شهورها (ينّار) الذي تقام فيه الاحتفالات التقليدية رسميا وشعبيا تيمّنا بالحدث الذي يتوسّم فيه (الأمازيغ) على مختلف حطهم وترحالهم وتباين ألسنتهم ولهجاتهم حلول الموسم عليهم بموفور الخير.. وكل البركات..

فنحن كـ (أمازيغ) نحتفل اليوم على اتساع رقعة التواجد محليا وقاريا بتأريخنا في سنته (2966) الأمازيغية) المصادفة حسابيا للسنة(2016م).. والتي تعرف عند (الشاوية) بـ (أمنزو ن ينار) أو(ئيخف ن ؤسُوڨاس).. وفي منطقة (القبائل) باعتبارهم الأكثر تمسكا في ناحيّتهم بالتقليد من غيرهم (ثابّورث ن ؤسوڨاس) أي (باب أو مدخل السنة).. وأكيد لها تسميات متفرّقة عند مختلف التكوينات الأمازيغية عبر امتداد رقعة الوطن والامتداد الجغرافي والتي لا تختلِف حتما  في المعنى والمقصد..!

والاحتفال برأس السنة الأمازيغية عند عموم (الأمازيغ) باعتبار الحدث عامّا وليس خاصا.. لا يتعلق بأي حدث ديني أو معتقدي كالتأريخين (الميلادي والهجري).. بقدر ما يتعلّق في ظاهره  بالانتصار المشهود (للملك شيشناق) على (الفراعنة) وحلفائهم (الرومان).. لكن في باطنه مردّه إلى الارتباط الوثيق للإنسان الامازيغي بالطبيعة.. وتشبثه اللامشروط  بالأرض لكون (النّاير) لديه يعني بداية الموسم الفلاحي بكامل تحولاته..

إذن فنحن استنتاجا نحتفل بالسنة الفلاحية الامازيغية.. وهذا هو المسمى الصحيح للحدث.. فبورك لنا كجنس ربط مصيره بالأرض خِدمة وفِلاحة..

وتتكون كلمة (النّاير) الذي يعدّ فاتح (ينّار الفلاحي) من كلمة مزدوجة – بحكم أن اللفظ الأمازيغي في مجمله مركب – الشطر الأول (ين) ما يقابله (ئدج) او (ئشت) أو (ئخف) او (ءامنزو) يعني عربيا (واحد) أو (أول) أو (مستهل)..

الشطر الثاني (ايّار) او (ايور) ما يعني عربيا (الشهر) هذا ما يعطي في التحليل بداية الشهر (ئخف ن  ؤيور) الذي هو المصادف.. ومدخل السنة الامازيغية.. (ئخف ن ؤسوقاس)..

وترتبط الاحتفالات على اختلاف مظاهرها بالآمال الكبيرة التي يعقدها (الأمازيغي) على السنة الجديدة حيث يحلم بصيغة الجمع بموسم فلاحي غني بالمحاصيل والثراء.. يسوده السلم والأمان وتعمّه الصحة وتغمره السّعادة.. وتتزامن السنة الأمازيغية الجديدة أيضا مع نقصان أو نفاذ مخزون المؤونة التي تَحتفِظ بها الأسر الأمازيغية والفلاحون خاصة تحسّبا لفصل الشتاء من السنة المنصرمة وما يسمّى محليّا (العُولت).. كما تمارس طقوس متوارثة ومتنوعة بحلول الموسم الجديد ومُعتقد (الأمازيغ) أنّ من يحتفل بعيد (النّاير) كموروث ثقافي ضارب في الذاكرة الشعبية.. يُمضّي سنة سعيدة و يُبعد بذلك سوء الطّالع.. وشرور الحسد.. كما يرمز الاحتفال.. وما يتبعه من مظاهر الزينة والاستعدادات الفردية والجماعية بحلول (النّاير) إلى الخصوبة والوفرة..

   لذا لا بد من تضحيّات لإبعاد شبح الجوع وبوادر التهلكة.. وكل ما يؤدي إلى الجفاف والنقيصة لتكون عليهم السنة الجديدة  فأل خير وبركة ملؤها التنوع وعدم الحاجة خاصة  في المحاصيل الزراعية.. وتكون موعدا هامّا لختن الأطفال وتزويج الصبايا.. وبذلك يقومون بتقديم قرابين بالمناسبة و يشترك في هذا الصّنيع كل المتمسّكين بالتقليد والحافظين للموروث لاحق بسابق.. وذلك في ذبح ليلة (النّاير) ديك عند البعض و أرنب عند البعض الآخر.. ويشترط  فيهما السمنة.. وقد يكون تحضير التسمين أمر مسبق لما للحدث من أهمية لدى الجميع.. وهذا لإعداد عشاء الليلة المتعارف لدينا بـ (ءامنسي ن نّاير) أو (ءامنسي ن ينّار) أو(ءامنسي ن ئخف ن ؤسوڨاس).. تعدّدت الأسماء والغاية واحدة.. والمتداول عرفا أن يكون هذا الـ (ءامنسي) (كسكس) أو(شخشوخة).. بتنوُّع الإعداد والتحضير.. وهما الطبقان المميزان عند عموم (الأمازيغ).. كما لا تُفوّت الكثير من المجتمعات الأمازيغية تناوال أوّل يوم السّنة أكلة متداولة وبسيطة بساطة الأمازيغي وهي (طبق الشرشم) أي (ئشرشمن) او (ئرشمن).. وهي عبارة عن بُرّ مُغلّي في الماء حدّ الانتفاخ و الانفتاح.. بعد التّصفية تضاف له مكوّنات شتى حسب الذوق تسيغه التناول وما زاد عن ذلك ينثر على أسطح البيوتات تعبيرا على القناعة والكفاف.. وطلبا لمزيد العطاء والرزق الحلال..

يتوالى تنوّع الأطعمة والأكلات لأيام ثلاثة أي 12،11،13.. وهذا مردّه عدم تفريط (الأمازيغي) في مباهج الاحتفالية.. وتبيان خصوصيته المتفرّدة وتواجده كمرجعية تاريخية.. وكينونة حضارية ضاربة في القدم ومتجذرة في التاريخ.. والتشبث بالهوية المكتسبة بكل جزئياتها وتفاصيلها ما أمكن..

وإنْ هذه التقاليد العفوية والسلوكيات المكتسبة والموروثة جيلا تلو جيل.. راحت تتساقط وتتهاوى إرثا بعد إرث.. وذاكرة بعد أخرى.. أمام الجميع.. و وراء الجميع وإن مسؤولية الحفاظ عليها من الاندثار والذوبان تبقى مسؤولية العموم وفي المقدّمة الأمازيغ أنفسهم.. وحصرا الهيئات والمؤسسات المسخرة إداريا لهذا الفعل.. لأنّ ماحكّ جلدَك مثلُ ظفرك.. فنحن كـ (أمازيغ) لا يمكن بأيّ حال من الأحوال.. ولا تحت أيّْ ظرف من الظروف ولا عملا بقرار من القرارات الحُكمَ أن ننسلخ من جلودنا كـ (الحيّات).. نمسي ليلا (أمازيغ) ونصبح يوما (عربا).. أو (عجما) أو أي طينة أخرى في هذا العالم المترامي مللا ونحلا.. بقدر ما يمكن أن لا نكون إلا نحن.. ونحن عدم إذا لم نساير الرّكب بذاكرتنا الثقافية المشبعة من الحلم إلى الحلم.. ومن حيث نحن ولا أحد.. بكل مناخاتها وطقوسها وتفرّدها وتوحّدها.. وتحت هذا القول (سطر و بالأحمر الدّاكن)..

*مظاهر الاحتفالية بحلول (النّاير) عند (الشاوية).. وخاصة الذين يسكنون ومازالوا عمق (الأوراس).. والبركة كلّ البركة مقرونة ومستمدة بما تبقى لنا من أثر الأثر في هذا العمق  الذاهب في الانزواء.. أنفة شموخا وإباء..!

 تستمر الاحتفالات لثلاثة أيام متواصلة.. يتم تخصيص اليوم الأول لإعادة تجديد جميع الأواني الطينية المهتراة من الاستعمال لحول كامل.. بأواني طينية وفخارية جديدة أعدت خصّيصا للمناسبة.. ومنها (القدور- الطواجين- قلال الماء- الصحون…..)..                                   

كما يُعمد على إعادة طلاء جدران المساكن والبيوتات باستعمال الأيدي من طرف الذكور بتربة محلية بيضاء تسمى (ثارّيست) تمزج بالماء وتخلط إلى أن تصير لزجة ومعدة للفعل.. في حين تقوم النّسوة مع الصغار- والكل في كامل الزينة والتجمّل خصوصا تخضيب الأيدي والأقدام بمادة الحناء التي لا يُستغنى عنها بالمناسبة وغير المناسبة.. على مسح الجدران من الداخل المدهونة بالبياض سلفا بحشائش تقتلع من النواحي خاصة مداخل و مخارج الدّور حتى تخضرّ أو يبدو عليها الاخضرار.. وما تناثر من النّبت أو تبقّى يُجمع ويُنثر فى جو بهيج على الأسقف والسّطوح تحت الأهازيج والزغاريد.. توسّما في عام مبارك مليء بالاخضرار والزرع و تنوع المحاصيل والمداخيل.. تماما كتقليد فلق فاكهة فاكهة الرّمان على سكة المحراث قبل الشروع في أول ثلم من الحرث طلبا في حرث متكاثر وزروع بحجم الحلم والأماني.. أو كتقليد رش الماء خلف المسافر.. أو ما يهرق من حليب وينثر من سكر أمام العروس عند ولوجها بيت العريس.. ورمي الساقط من الأسنان في وجه الشمس مرددين المقولة المشهورة (آ ثافوكث أخ هيغمست ن واغيول هوشايذ هيغمست ن واذمو) باعتبار أن سن هذا الأخير اشد واصلب على المقاومة من سن (الحمار).. وظاهرة تخضيب الأضاحي بالحناء ولفّ رقابها بمناديل خضراء وإطعامها بعض السكر.. وإسقاط أشعة المرايا عليها وهي في تلك الهيئة.. والأمثلة أكثر من مثال..       

كما تقوم كبيرة السن في هذا اليوم المشهود بحمل مناصب الموقد الترابي أي (ئينيان) في قفة من حلفاء على كتفها متبوعة بأفراد الأسرة من الإناث إلى الجوار وتلقي بالحجارة القديمة المسودة من الاستعمال وتأتي بأخرى جديدة يقع عليها الاختيار.. تقلب ذي بدء ليُرى ما تحتها من حشرات فإن كانت صغيرة (كالنمل) وما شابه.. مدلول ذلك أن العام سيعطي المزيد من (الخرفان والجديان) وإن المتواجد حشرات كبيرة.. معنى ذلك أن المُعطى من العام سيكون (عجولا ومهورا) وغيرها من المكتسبات ذات الحجم الكبير لدى (الأسرة الشاوية) وان تحت الحجارة بوادر النبت الأخضر.. مدلوله أن العام سيكون معطاء بكل الزروع والقطف العميم.. وان لم يكن اثر ذاك الاخضرار فمعناه ان السنة ستكون شديدة وقاسية وعلى صاحبها أن لا يبالغ في الاستهلاك.. وعليه تدبر الامور لمسايرة النقص والقلة لطلوع سنة قادمة.. هذا ما يبيّن على أنّ أسلافنا مزارعين وموالين بالفطرة.. وإن هذا الاعتقاد يَغلب عليه الطابعً الخرافي والأسطوري ولا يَقبَل به العقل الرّاشد والمنطق السليم إلا أنّ ذلك لا يمنع من أننا من مجتمع يتعامل بالعفوية و كامل الصدق ومنتهى (النية).. مجتمع يسلّم أمره (لله) في كل شيء.. دون أن تختلجه ريبة أو تعيقَ فعلَه نقيصة بحكم ما يرش به وجه السماء من اخضرار وما يبث به الأرض من بياض..

و يوم 13 يتميز بطبق (الشخشوخة الحارة) بلحم (الدّيك) او (الضان) لان هناك أسر متقاربة  في الجوار تلم الشمل للاحتفاء بالمناسبة تحت سقف (النفقة)..                              

وفى اليوم 14 تُعدُّ أكلة شعبية يلتف حولها الجميع وهي طبق (ارفيس) او (لغرايف).. أو أي طبق أخر تفرضه العادة ويخيره الطلب.. أمّا ليلا فلا أحد يستغني أو يرضى بديلا عن (الكسكس) وفي الأثناء يتم توزيع ما تمّ ادّخاره من فواكه محلية كـ (الرمّان) لما لهذه الفاكهة من رمزية.. وما صادف الموسم وتلك المجففة خصوصا كـ (التين والبرقوق ولعوينة…) وكثير من المكسرات كـ (الجوز واللوز والفول السّوداني…) والحلويات أشكالا وألوانا ومذاقا على الأطفال خصوصا لإدخال الفرحة عليهم وإشراكهم تفاصيل الاحتفال.. كما تقوم (الجدات) بسرد القَصص الأسطوري الخرافي على مسامع الحضور.. والتي ترتبط دوما بالطبيعة والأرض وبطولات الأمجاد تدعو إلى المحبة وفعل الخير وتنبذ الكراهية وفعل الشر.. وغير ذلك من القيم النبيلة التي تعايَشها الفرد (الأمازيغي) كابر عن كابر.. ويعمل جاهدا على إيصال التّركة بكل المفهوم والحيثيّات معلوما ومجهولا للأبناء و الأحفاد حفاظا على عقد (ءاسخاب) المكنون من فرط الحبات وبكامل الحبات.. وتلقائية المظهر ومشروعيته تبدو في عفوية الباعة و محلات التسوق.. كل بالمناسبة يعمل على  إبداء محله وسلعته في أبهى حلة.. وهذا بتوفير ما يحتاجه المتسوّق من أكياس المكسّرات وعراجين التمر وأطباق الفواكه خاصة المجففة منها.. وكذا أطواق الورود والرياحين..

 والأجمل أنّ مظاهر الزينة والتفاعل هذين لا ينحصران في العنصر (الامازيغي) فحسب..

 بل تفاعل معهما كل (الجزائريين) كتقليد وطني تعايش به الجميع.. وبهما يتعايش الجميع في وطن لا بديل له من وطن وحضارة لا ينكرها إلا آثم كفّار..                       

لهذا وذاك كـ (أمازيغيين) وحفاظا على اللحمة والأصالة والتواصل اللامشروط.. كان من الأجدر على الدولة ترسيم  فاتح السنة الفلاحيّة الأمازيغية كعيد وطني مدفوع الأجر على غرار عيدي رأس السنة (الميلادية والهجرية) الذين ننتسب إليهما انتسابا.. لا ناقة لنا فيهما ولا جمل.. والمطلب ليس في حاجة لا إلى بذل جهد أو تأويل.. ولا إلى تفكير واجتهاد بقدر ما هو مطلب مستوفي الشروط والأوراق.. في حاجة إلى قرار حازم حكيم.. وتأشيرة مطلقة حتى نؤسّس أكثر ترسيخ الهوية.. وللمكوّن الثقافي نردُّ كلَّ الاعتبار.

* ملاحظة:

كلّ الشكر لذاكرة أمي/ فادعوا لها بالرحمة والمغفرة      

ءاسوڨاس 2968 ذ ءامڨاز فلاون ئمازيغن ماني ؤمانك ثلام..!   

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قرائة المزيد