خاض المسرح المغربي عبر الزمن وقفات مع الذات لرسم معالمه الخاصة، ليتشكل ملمحا وصورة دالة عليه من خلال تجارب الطيب الصديقي، البدوي، الطيب العلج، برشيد وثلة من رجالات مسرح الهواة وآخرون بصموا أُنموذجا احتدا به مجموعة من الفرق المسرحية إلى اليوم. وكان لدخول النقد المسرحي على الخط؛ خصوصا نقد حسن المنيعي؛ بطانة تبحث في عمق الأشياء من أجل زعزعت الكائن وغرس رؤى جديدة تمتح من العلامة والرمز الشيء الكثير.
منح المهرجان للمشاهد السوسي فرصة مشاهدة تسعة عروض مسرحية، وعطفا على سؤال الاستهلال؛ راعنا اتباع المنهج الشكي لاستقراء وضعية المسرح بالمغرب خصوصا منه الناطق بالأمازيغية من خلال مادة العرض. وعليه، فإن العروض المقدمة بالمهرجان يطغى عليها طابع الحكي والكلمة الحوارية المُسترسلة والمهيمِنة على الفضاء المُفضية إلى إقصاء الجسد، وهو حال المسرح الأوروبي القديم الذي كان مرتبطا بالكلمة أيما ارتباط، حتى جاك ليكوك ليعطي دورا كبيرا للصمت والحركة والجسد والقناع على حساب الحوار والكلمة. ربما طغيان الكلمة راجع إلى طبيعتنا العاشقة للكلام، وطغيانه على الركح لا يعطي أمكانية استيعاب عمق الأشياء، ولا يمنح الوقت الكافي لربط خيوط العرض المضمرة والمباشرة. صحيح أن الكلمة تسهل إيصال المعنى، لكن البناء الدرامتورجي المسرحي يعتمد أليات تواصلية أعمق وأكبر من الكلمة.
من الملامح الطاغية على العروض اعتماد معظمها على خلق الفرجة، وتندرج الفرجة في مسرح اليوم فيما بات يصطلح عليه بالمسرح “التجاري”، هو مصطلح انتُزع من السينما ليسقط على المسرح لاعتماده الهاجس الربحي أكثر منه الأهداف النبيلة التي تأسس عليها المسرح منذ سقراط إلى اليوم. لا أحد يجادل في مكانة هذا النوع وما حققه من نجاحات خصوصا جلب المتفرج إلى قاعات العرض التي كانت إلى الأمس محتكرة على فئة معينة، ونحن لا نعترض عليه طالما يبتعد عن الإسفاف والاستهانة بعقل المتفرج، وطغيان هذا النوع على الساحة يطرح أسئلة مقلقة على ماهية المسرح الذي سنورثه لأجيال القادمة.
فالدارس للمسرح “التجاري”؛ أو الجماهيري كما يسميه البعض؛ يلمس جانبا من السطحية في طرح ومناقشة المواضيع، وتجعل من المتلقي ساذجا يقدم له كل شيء ولا تحثه على التفكير في الأشياء والتفاعل معها، وهو ما ولد النفاق الفني بعد العرض حيث أصبح الكل يهنئ الممثلين والمخرجين على نجاحة العرض دون قياس للأثر الذي تتركه في نفوس غير العامة، وهو ما ولد كذلك حلقات نقاش جانبية لا تشرك مخرج العرض والممثلين في عملية النقد، بكل بساطة لأننا لم ننضج بعد في اعتبار النقد آلية تقويمية بناءة تساهم في البناء أكثر منها على الهدم (كما يعتبرها البعض).
إن اعتماد هذا النوع من المسرح مرتبط والرؤية الدرامية للمخرج، وباعتبار الإخراج صلة وصل حسية وبصرية مع الجمهور، فإن الانطباع الذي يتولد لحظة انتهاء العرض هو المعيار الحقيقي على نجاح التجربة من تقصيرها؛ ومن منظوري الخاص؛ معظم المسرحيات نهجت إخراجا دراميا سطحيا ومباشرا غير ناضج بماهية الموضوع المُعالج، لأن العروض تترك لديك انطباعا قلقا يعكس البحث عن شيء يُراد قوله وإيصاله إلى المتلقي؛ لكنه لم يصل. إن حالة العطش والتلهف التي تنطبع لديك نهاية العرض تجعل من الخلاص وإن كان رمزيا لا يحقق لذة الفرجة التي تضل حبيسة الركح ولا تأبى خروجه ولو بعد حين. إن افتقار الشخصية الإخراجية للعمل المسرحي تجعله متذبذبا خاليا من أسلوب إخراجي انطباعي أو تجريدي أو حداثي أو غيرها من المدارس التي تمنح العرض أسلوبا تحتكم إليه، (لا أقول بارتباط الشخصية الإخراجية للعرض بذات المخرج، إنما هي مجموع التصورات، والعلامات، التمظهرات، والأساليب، والإيقاع العام الذي يطبع العمل في شكله الكلي)، والشخصية الإخراجية للعمل تعكس العمق الذي يَبني تسلسل الأحداث في ذهن المتفرج.
تعكس الدروة الثالثة عشرة للمهرجان تَطَبُّعَ وهيمنة الاحتفالية القريبة من البساط كأحد الأساليب المسرحية التي لا تتطلب جهدا جهيدا في بناء تصور دراماتورجي يسافر بالمتلقي إلى ما خلف المحكي. دورة خلقت تمازجا إيقاعيا يمثل شمال المغرب وجنوبه، تعكس هم الاعتراف بالثقافة الأمازيغية كأحد أهم مكون للمجتمع المغربي، ثقافة تجعل من المسرح هما مشتركا ونافذة على الثقافة العالمة الطامحة للهيمنة ونبذ الآخر شكلا ومضمونا.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.