بقلم الفنان عمر أيت سعيد //
كانت أيام الأستاذ ”موحا” جلها مغامرات وأطوار وتضحيات، حينما تلقى تعيينه الأول في سنة 2000 ميلادية، فوجئ أنه لا يعلم أين يتموقع مكان تعيينه على الخريطة المغربية بالضبط، فاستعان ببعض أصدقائه للاستبيان والاستضاح، فمنهم من شجعه على تلك التجربة ومنهم من حاول كسر شوكته بالوبيل من الأفكار السلبية على صعوبة الحياة في تلك الربوع …
موحا شد مئزره وعزم على الالتحاق بالركب من الأساتذة لصعود الجبال والهضاب لخذمة البلد وتربية الناشئة. فقصد قرية ” أوزيغمت ” تلك القرية الجميلة بمداشرها المتنوعة التي تستقبلك بسخائها وكرمها وجودها. بساتين التفاح في كل مكان، حقول تبدو صغيرة للعيان وهي الملتصقة بالجبال مشكلة مدرجات تدب فيها الحياة. قد تجد البطاطس يزرع في جل الحقول وفي جل المداشر، قد تبهرك أشجار الجوز العملاقة التي تسحرك بألوانها الخضراء الفاتحة وضلالها الصباحية الساحرة . وصل موحا للفرعية المدرسية المقصودة بمدشر ”إغرم إزدرن ” فرحا مسرورا مفتخرا بقرار التحاقه بمعية أصدقائه الثلاث الرائعون والطيبون عبد الرحمان ،مصطفى وجمال كل واحد منهم كان إضافة نوعية في العمل والاجتهاد والعطاء . مرت الأيام بسرعة ،انسجم موحا مع القرية ومع الأطفال الأبرياء الصامدون كذلك امام قسوة البرد والثلج الذي يحج بكثرة لتلك البقاع الطيبة ، رغم بعد تلك القرية عن الحاضرة ورغم قلة المواصلات أنداك فهذه القرية شانها شأن القرى المحيطة بها من مداشر جميلة مثل ”إكرامن” و ”تغرفت” و ”واو شكي” و”تشكي” الى ”إمي ن يرشت” كلها مداشر كانت تختزن الكثير من القيم وكان رجالها ونساؤها صامدون متمسكون بالأرض وسخائها ويفتخرون بها .
وحدث أن التقى موحا ذات صباح بشيخ طاعن في السن فحاول أن يتجاذب معه أطراف الحديث ، فسأله يا عمي حساين ” أريد ان أسألك سؤالا ؟ فأجابه الشيخ دون تردد مرحبا مرحبا ، فقال له موحا : ” ما الذي تحبه في هذه الحياة في هذه القرية البعيدة عن المركز؟ فأجابه الشيخ بسرعة : ” ثلاثة أشياء يا بني، ”واد مليء بالماء، وجود شعير يسد رمقي في بيتي ، وحطب أسخن به عظامي ساعة البرد ” تفاجأ موحا بجواب الشيخ البسيط والعميق في الان نفسه شكلا ومضمونا. جواب يختزل القيم بدءا بالعيش المشترك وصولا الى الرغبة في الحياة والتضامن وحب الأخر . فرفع موحا رأسه للسماء غارقا في التأمل قائلا : هذه هي فلسفة البساطة تمارس على أرض الواقع دون حاجة الى نظريات فلسفية . فالشيخ جعل من البساطة نمطا للعيش والحياة ، فخدش موحا على شعررأسه قليلا، فأطلق العنان للأفكار والمونولوك الداخلي، فقال كيف لا أكون مثل هذا العظيم ؟ لماذا حياتنا كلها ملئت بالأشياء ،والفتاة، لماذا نحن مستهلكين من الدرجة الأولى ؟ نهضم نسرط كل شيء دون هضمه ، هواتف ، فواتير، خيوط أجهزة ، بطاريات ،مستندات ، ممتلكات ، بطائق أرقام، أخبار …الى غير دالك من اللوائح التي لا تنتهي .لماذا لا أكون مثل هذا الشيخ الذي يعشق صوت الماء، يفهم الطبيعة ويعشق فصولها . لماذا نحن بعيدين عن الطبيعة وعن الارض متشبثين بالعالم الافتراضي الى أن أصبحنا عبيدا للألة ولم نعد أدميين في تفكيرنا …
في قرية أوزيغمت حينما تستيقظ صباحا تحس فعلا بانولاد يوم جديد ، تشم رائحة القهوة تفوح عطرا في السماء ، أحيانا تكون منسمة بتوابل تعطيها طعما خاصا ، ترى الدخان يعلو فوق المنازل ، ترفع عينيك للسماء ولا ترى الا شموخ الجبال تحجب الشمس ، فلا تستطيع رؤية الشمس إلا حينما تلج قلب السماء في منتصف النهار أو بعد الزوال ، حدود الرِؤية في القرية هي منازل وجبال تحد بصرك كلما رفعته للسماء .
هي قرية الأبطال والشعر والجمال ، فطوبا لرجالها ونسائها الذين لا تستهويهم تجارة ولا بيع عن إكرام عابر سبيل .
التعليقات مغلقة.