متى يكتشف المغاربة لغتهم الدارجة؟ (4/4)
بقلم: محمد بودهان
وأين اختفت لهجة الموريسكيين الأندلسيين:
ومن بين “الأدلة” الأخرى التي يوردها المدافعون عن الأصل العروبي للدارجة، القول إن الأندلسيين الذين نزحوا إلى المغرب ابتداء من القرن السادس عشر، بعد أن طردهم الإسبان، حملوا معهم لهجتهم العروبية التي واصلوا استعمالها ونشرها في المغرب. لكن أين توجد بالمغرب هذه اللهجة الأندلسية العروبية؟ هل في تيطّاوين أو أشاون أو الريف الشرقي أو فاس أو سلا، التي تعد أهم المدن والمناطق التي استقر بها الأندلسيون؟ فلهجة هذه المدن والمناطق تحمل هي كذلك البصمة اللسنية الأمازيغية، ولا تختلف في شيء، من حيث معانيها وتراكيبها الأمازيغية، عن الدارجة التي هي عربية الأمازيغ التي ترجموا إليها أمازيغيتهم، كما وضّحنا ذلك.
قد نفترض أن الأندلسيين جاؤوا إلى المغرب بلهجة عروبية مختلفة عن الدارجة ذات المنشأ الأمازيغي، أي التي أنتجها الأمازيغيون ولم تأت من بلاد العرب. لكن مع اندماجهم كأقلية في المجتمع المغربي، ستختفي هذه اللهجة الأندلسية تدريجيا لتصبح الدارجة هي لغة الجميع، بما فيهم ذوو الأصول الأندلسية. وهنا قد لا تختلف حالة الأندلسيين عن حالة الهلاليين في ما يخص مساهمتهم في إغناء الدارجة، والذي يكون قد اقتصر، مثل الهلاليين، على انضيافهم إلى عدد الناطقين بها، وعلى تطعيم معجمها بألفاظ جديدة كانت خاصة بالبيئة الأندلسية.
لكن عيب هذا الافتراض أنه يقوم على مسلمة أن الأندلسيين عرب مثل الهلاليين. وهذا غير صحيح طبعا. فإذا عرفنا أن الجيش الذي غزا الأندلس كان يتألف من آلاف الأمازيغ وعدد قليل جدا من العرب، وبالتالي فإن الذين استقروا من المسلمين بالأندلس للمرة الأولى كانوا بالضرورة أمازيغيين، كما أن من لحق بهؤلاء الأوائل لا يمكن أن يكونوا إلا أمازيغيين بحكم القرب والجوار والقرابة القبلية، ولدافع “التجمّع العائلي” الذي لا بد أنه كان وراء الاستقرار النهائي للعديد من الأسر الأمازيغية بالبلد الإيبيري. إذا عرفنا ذلك، فسنعرف أن اللهجة العروبية الوحيدة التي وصلت هي الأولى إلى الأندلس كانت هي اللغة العربية، أي لغة الإسلام والقرآن، والتي دخلت إلى الأندلس، ليس عبر مستعمليها العرب، وإنما عبر المسلمين الأمازيغ، الذين كانوا في بداية اكتشافها واستخدام ما تيسر منها لأداء صلواتهم. ولما أراد هؤلاء، لنفس الأسباب التي شرحنا بها ظهور الدارجة، تعلّم واستعمال لغة الدين والقرآن والسلطة السياسية، التي هي العربية، استخدموها مستعملين ألفاظا عربية لكن بمعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، صانعين بذلك دارجة الأندلس، بنفس الطريقة ولنفس الأسباب، اللذيْن رأيناهما في ما يخص تشكّل دارجة المغرب. وهذا ما يفسّر أن لهجة الأندلس ولهجة المغرب تشكلان لغة واحدة، ولا تختلفان إلا بقدر ما تختلف دارجة المغرب نفسها من منطقة إلى أخرى، وذلك ليس لأن مصدرهما عروبي واحد، بل لأن مصدر معانيهما وتراكيبهما واحد، وهو اللغة الأمازيغية.
أما عرب الأندلس الحقيقيون، إذا جاز أن نتحدث عن عرب حقيقيين، فقد كانوا وظلوا أقلية عرقية وعددية لم يكن بالتالي للهجاتهم العروبية ـ إذا افترضنا أنهم كانوا يتحدثون بغير العربية الفصحى ـ أي تأثير على الوضع اللغوي. ذلك أن التأثير الوحيد الحقيقي على هذا الوضع اللغوي هو الذي مارسته العربية باعتبارها لغة القرآن والدين. وهذا التأثير هو الذي أنتج الدارجة عندما أراد الأمازيغ أن يستعملوا لغة القرآن، ويتخلوا عن لغتهم الأمازيغية. لكن يجب الاعتراف أنه رغم أن العرب الحقيقيين كانوا أقلية صغيرة بالأندلس، إلا أن العروبة العرقية أصبحت هي المهيمنة إيديولوجيا وسياسيا ودينيا ولغويا وثقافيا، مما نتج عنه أن العرب أصبحوا أكثرية، لأن الأمازيغيين أنفسهم، وهم الأكثرية الحقيقية، أصبحوا ينتحلون الانتماء العربي لما كان يرتبط بهذا الانتماء من امتيازات عرقية وسياسية ودينية واجتماعية، كما كان الأمر بالمغرب كذلك. فالعرب الحقيقيون، الذين استقروا بالأندلس، كانوا في الغالب أفرادا بأعداد محدودة جدا، ويتكونون في معظمهم من هاربين ومغامرين وأصحاب طموحات سياسية، ولم يأتوا إليها في هجرات جماعية ضخمة تغيّر التركيبة السكانية لبلاد الأندلس، والتي ظلت (التركيبة) في غالبيتها وطابعها العام أمازيغية. ولا ننسى أن الذين هيأوا الظروف والشروط لتنصيب عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) خليفة على الأندلس سنة 138 هجرية هم أخواله الأمازيغيون، الذين استقبلوه وحموه بالمغرب من العباسيين الذين كانوا يتعقّبون من بقي من الأمويين على قيد الحياة. وقد استمرت حمايتهم له بالأندلس وهو خليفة، إذ كان عليهم يعتمد وفيهم يثق. لهذا يمكن القول إن دولة عبد الرحمن الداخل كانت أمازيغية بجيشها وسكانها، وعربية فقط بالنسب العربي الأبوي لخليفتها، مثلما ستكون عليه دولة الأدارسة بالمغرب بعد ثلاثين سنة (172 هجرية)، إذ ستكون هي كذلك أمازيغية بمقوماتها وسكانها ورجالها، وعربية فقط بالنسب العرقي العربي لإدريس الأول، الذي نصّبه أمازيغ أوربة أميرا عليهم. وقد يكون هو أيضا حفيدهم من أمه الأمازيغية، مما قد يفسر لجوءه إليهم والاحتماء بهم كما فعل عبد الرحمن الداخل، ولو أن المصادر لا تذكر أن أمه أمازيغية كما تعترف بذلك في ما يخص عبد الرحمن، كما هو معروف.
والشاهد الآخر، الأساسي، على أن العرب الحقيقيين كانوا دائما أقلية بالأندلس، مثلما كانوا كذلك بالمغرب، هو أن الإسبان ظلوا يسمون المسلمين، الذين غزوا بلادهم في 711 م، بـ”الموريين” (Los moros). واللفظ الإسباني “مورو”، ذو الأصل اللاتيني maurus، المأخوذ بدوره من اللفظ اليوناني máuros، يعني «السكان الأصليين لإفريقيا الشمالية المتاخمة لإسبانيا» (Natural del África septentrional frontera a España)، كما يعرّفه “معجم اللغة الإسبانية” الذي تصدره “الأكاديمية الملكية لإسبانيا”. وواضح أن المقصود بـ”المورو”، كسكان أصليين لإفريقيا الشمالية المجاورة لإسبانيا، هم الأمازيغيون. وإذا كان العديد من الباحثين يرجعون هذا اللفظ إلى أصل يوناني، إلا أنه ليس من المستبعد، مع ذلك، أن يكون ذا أصل محلي أمازيغي يعني ـ بعد تصحيح التحوير الذي اقتضاه النطق الأجنبي اليوناني واللاتيني ـ أولا، “تامورت”، “أمور”، أي الأرض، البلد، الوطن؛ وثانيا، العهد، الأمان، الحماية. فيكون “مورو”، بالمعنى الأول، هم “أيت تامورت”، أيت أمور”، أي الأصليون أصحاب الأرض، تمييزا لهم عن الوافدين والأجانب عن تلك الأرض. ويؤيد فرضيةَ الأصل المحلي الأمازيغي للفظ “مورو”، تسميةُ “مراكش” بهذا الاسم الذي كان يطلق على المدينة وعلى المغرب كله، والذي يقول عنه الأستاذ أحمد التوفيق، انطلاقا من تحليل لسني لهذا الاسم، أنه لفظ مركّب يتكوّن في جزئه الأول من كلمة “أمور” الأمازيغية (الأرض أو الحماية)، وفي جزئه الثاني من كلمة “أكوش”، التي تعني الله. وبذلك يكون اسم “مراكش” يعني: “أرض الله”، أو “حماية الله”، “أمان الله”، “عهد الله”، “الأرض التي يحميها الله” (A.Toufik, “Marrakech: sur la signification du nom», Encyclopédie Berbère, V.30, 2010, pp. 4627-4630). وبما أن هذه التسمية ـ “مراكش” ـ هي محلية وليست ذا مصدر أجنبي، فسيكون اسم “مورو” تحويرا فقط لنفس الاسم المحلي الأمازيغي الذي هو “أمور”. وهو جذر نجده حاضرا في كل التسميات الأجنبية التي أطلقت على المغرب، مثل: Marruecos, Maroc, Morocco…، والتي يمكن اعتبارها تكييفا، كما يحدث عندما يُنطق اسم محلي بلغة أجنبية، لاسم مراكش الأمازيغي مع النظام الصوتي للغات الأجنبية التي استعملت تلك التسميات، كما يكون قد حدث ذلك، كما أشرنا، مع كلمة “أمور” الأمازيغية التي نُطق بها في اليونانية واللاتينية والإسبانية “ماورو” و”مورو”.
وقد أطلق الإسبان، بعد استعادة سيادتهم على الأندلس واسترجاعهم لغرناطة في 1492، على المسلمين الذين قبلوا التحوّل إلى المسيحية طبقا للشروط التي فرضها عليهم الحكام الكاثوليك لإسبانيا في 1502، اسم “الموريسكيين” (Moriscos)، أي المنتسبين إلى “المورو”، الذين هم السكان الأصليون لشمال إفريقيا، أي الأمازيغ، كما شرحنا. وإذا كان الإسبان لم يسموهم بالعرب، ولا حتى بالمسلمين، واختاروا واستعملوا اسم “الموريسكيين”، فلأن هذه التسمية هي المعبّرة، وبشكل يطابق فيه الاسم للمسمّى، عن الانتماء الهوياتي والجغرافي والعرقي لهؤلاء المسلمين. وسينتقل الجزء الأهم من هؤلاء “الموريسكيين”، بعد أن قرر حكام إسبانيا طردهم في 1609، إلى المغرب، حاملين معهم دارجتهم الأندلسية، ذات المعاني والتراكيب الأمازيغية، لأن الذين صنعوها ونطقوا بها للمرة الأولى هم أمازيغيون، أو “موريون”. فهؤلاء “الموريسكيون” هم إذن أمازيغيون، أي “موريون”، عادوا إلى موطنهم الأصلي، أي بلاد “المورو” بشمال إفريقيا بعد إجلائهم من الأندلس، لكنهم عادوا حاملين لوعي زائف على أنهم عرب يتحدثون ما يعتبرونه لغة عربية، وهي دارجتهم الأندلسية التي صنعوها بالجمع بين معجم عربي ومعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، على غرار الدارجة المغربية.
واللافت أن ما حدث مع استقرار بني هلال بالمغرب، عندما أصبح الكثير من الأمازيغيين ينتحلون الانتساب إلى العرب الهلاليين، سيتكرر مع استقرار “الموريسكيين” بالمغرب عندما أصبح العديد من المغاربة، من الذين سبق لهم أن ادعوا الانتساب إلى الهلاليين، منتحلين للانتماء، ليس إلى هؤلاء العرب الهلاليين، بل إلى الأندلسيين باعتبارهم عربا أكثر تحضرا ورقيا من العرب الهلاليين. وهكذا نجد اليوم، في المغرب، عائلات كثيرة معروفة تزعم أنها سليلة “العرب” “الموريسكيين”، دون أن تفكر لحظة أن “الموريسكيين” هم “المورو”، أي أمازيغيو شمال إفريقيا. طبعا لو فكّرت في ذلك لاحتفظت بنسبها الأول إلى الهلاليين، رفضا منها أن تكون سليلة “الموريسكيين” ذوي الأصول الأمازيغية، وانسجاما مع تحوّلها الجنسي إلى عائلة منحدرة من أصول عربية.
إذا كانت الدارجة ذات أصل أمازيغي، فلماذا لا تختلف باختلاف الجهات مثل أمها الأمازيغية؟
من بين الاعتراضات الأخرى التي يوردها المدافعون عن الأصل العروبي للدارجة، حتى ينفوا عنها أن تكون ذات مصدر محلي أمازيغي، قولهم إن هذه الدارجة، لو كانت حقا ترجمة للأمازيغية، لكانت هناك دارجات تختلف من جهة إلى أخرى، لا يمكن التفاهم بين مستعمليها المنتمين إلى جهات مختلفة، على غرار اختلاف اللهجات الأمازيغية الثلاث التي لا يمكن التفاهم بين مستعمليها المنتمين إلى جهات مختلفة. والحال أن هناك دارجة واحدة وموحّدة يتفاهم بها جميع المغاربة على كافة التراب الوطني، عكس الأمازيغية. وهو ما يستنتجون منه أن الدارجة ليست ترجمة من الأمازيغية، وإلا لاحتفظت اللغة المترجمة، التي هي الدارجة، على نفس الاختلافات التي تميز اللهجات الأمازيغية، ولما كان ممكنا استعمالها للتفاهم بين جميع المغاربة على الصعيد الوطني، كلغة واحدة لا تختلف من جهة إلى أخرى.
إذا كانت الدارجة موحّدة، يتفاهم بها كل مستعمليها من المغاربة من مختلف المناطق، فلأن تعميم استعمالها في التواصل هو الذي جعل جميع المغاربة يفهمونها ويتفاهمون عبرها، ومن مختلف المناطق والجهات. وبسبب هذا التواصل لم يعد للاختلافات الجهوية، التي تحتوي عليها مثل الأمازيغية، أي تأثير على التفاهم، لأن الجميع يفهم دارجة الجميع. فرغم أن الدارجة الجبيلة مختلفة عن الدارجة الفاسية، وهذه عن الدارجة المراكشية، وهذه الأخيرة عن الدارجة الوجدية…، إلا أن الجبلي والفاسي والمراكشي والوجدي يتفاهمون في ما بينهم، لأن كل واحد يفهم دارجة الآخر، نتيجة استعمال الدارجة في التواصل على الصعيد الوطني، وليس الجهوي أو المحلي فقط.
ولا ننسى أن صنع الأمازيغيين للدارجة، عبر ترجمة معاني وتراكيب أمازيغيتهم إلى العربية، كان بهدف استعمالها في التواصل كبديل عن أمازيغيتهم، وهو ما ساهم في تعميم وتقوية التواصل بها حتى أصبحت لغة يفهمها الجميع لأن الجميع يتواصل بها. وهذا ما أراده الأمازيغيون بإبداعهم للدارجة، حتى تكون لغة التواصل في ما بينهم. ثم دعّمت الدولة تعميم هذا التواصل بالدارجة عندما أصبحت هي اللغة المستعملة شفويا في مؤسسات الدولة وإداراتها، وفي المدرسة والإذاعة والتلفزيون.
هذه العوامل التي تفسّر اكتساب الدارجة، رغم اختلافاتها الجهوية، وضع لغة موحدة للتفاهم، تفسّر أيضا عدم اكتساب الأمازيغية لنفس الوضع كلغة موحّدة، بسبب غياب التواصل، على الصعيد الوطني، بين المتحدثين بها. فبقي كل فرع منها معزولا عن الفروع الأخرى بالمناطق التي تستعمل بها تلك الفروع، مما جعل من هذه الفروع لهجات يصعب التفاهم بين مستعمليها. وعدم التفاهم بالأمازيغية بين مختلف المتحدثين بها لغياب استعمالها في التواصل، يزيد من إضعاف هذا التواصل، ويقوّي ويوحّد التواصل بالدارجة عندما يلجأ إليها الأمازيغيون، المنتمون لمناطق مختلفة، للتفاهم في ما بينهم. هناك إذن علاقة طردية بين اكتساب الدارجة وضع لغة وموحدة، وبين الحيلولة دون اكتساب الأمازيغية لنفس الوضع.
يضاف إلى هذه العوامل أن الدارجة، إذا كانت ترجمة لمعاني وتراكيب الأمازيغية باستعمال كلمات عربية، كما شرحنا، فلا يمكن إلا تكون واحدة رغم اختلاف اللهجات الأمازيغية، لأن معاني الأمازيغية مشتركة، في معظمها، بين كل هذه اللهجات، بجانب كون تراكبيها، التي احتفظ عليها في الدارجة، هي دائما واحدة بالنسبة لجميع فروع الأمازيغية، لأنها من الخصائص النحوية الملازمة للأمازيغية كلغة، وليست مقصورة على لهجة منها دون أخرى. أما المعجم العربي، الذي صيغت به معاني وتراكيب الأمازيغية في الدارجة، فهو أصلا موحّد، لأن مصدره هو العربية الموحّدة.
ولماذا لم يبدع المسلمون العجم دارجتهم مثل الأمازيغ؟
من بين الاعتراضات، كذلك، على كون الدارجة إنتاجا أمازيغيا، نشأة وموطنا ومعنى وتركيبا، القول إنه لو كان صحيحا أن رغبة الأمازيغيين في تعلّم العربية واستعمالها في التواصل، باعتبارها لغة الدين والقرآن، كانت وراء إبداعهم للدارجة كلغة تتشكل من ألفاظ عربية ومعانٍ وتراكيب أمازيغية، لكان ذلك صحيحا أيضا بالنسبة لكافة الشعوب المسلمة من العجم، التي أحبت هي أيضا العربية وعملت على تعلمها واستعمالها باعتبارها لغة الإسلام والقرآن.
لا مقارنة مع وجود الفارق. والفوارق هنا كثيرة:
لم يعرف الأمازيغ دولة قارة وذات استمرارية، كما عند الفرس مثلا. ولا تهمنا استمرارية الدولة في حدّ ذاتها، وإنما ما تؤدي إليه من توحيد للغة واستعمال وانتشار للكتابة، وما ينجم عن ذلك من تدوين للذاكرة الجماعية وإنتاج ثقافي مكتوب. وهذه عوامل ـ قيام الدولة ووحدة اللغة وانتشار الكتابة ـ تقوّي الشعور القومي، وتعزز مكانة اللغة، وتحميها ـ وهذا هو الأهم ـ من استعمال لغات أخرى للكتابة بديلا عنها، باعتبارها، هي أيضا، لغة كتابة ولغة الدولة والسلطة والتاريخ، أي لغة تدوين الذاكرة التاريخية الجماعية.
هذا ما كان ينقص الأمازيغيين، وهو نقص جعلهم لا يملكون ما هو أهم. فالشعب الذي لا دولة له ولا كتابة له لا يملك في الحقيقة شيئا كثيرا. فغياب الدولة، وما يستتبعه من غياب للكتابة والتدوين، اضطرهم لتبني لغات أجنبية للكتابة، وهو ما ساهم بدوره في الإبقاء على الأمازيغية في مستواها الشفوي، وحال دون الانتقال بها إلى المستوى الكتابي المتطور.
لكن إذا كان الأمازيغ، للأسباب التي ذكرنا، قد تبنوا لغات أجنبية للكتابة لدورها الوظيفي كلغات كتابة، كما فعلوا مثلا مع الفينيقية واللاتينية على الخصوص، فإنهم، عندما تبنوا العربية كلغة كتابة، لم يفعلوا ذلك فقط لهذا السبب الوظيفي، بل تجاوزوا ذلك ليجعلوا من وظيفتها الدينية السبب الرئيسي والأول لتبنّيها وتعلّمها واستعمالها، لتصبح وظيفتها الكتابية مجرد نتيجة متفرعة عن وظيفتها الدينية الأولى وتابعة لها. وهذه الأولوية للوظيفة الدينية، التي أعطوها للعربية، ناتجة عن الخلط الثلاثي لديهم ـ والذي أدّت إليه الثقافة السياسية للعروبة العرقية كما مورست بالمغرب منذ اعتناق الأمازيغ للإسلام، كترويج فكرة أن العرب أفضل الأجناس لأن النبي (صلعم) اصطفاه الله منهم، وأن العربية لغة أهل الجنة… ـ بين العرق العربي واللغة العربية والدين الإسلامي. وهو خلط جعلهم يتصورون أن المسلم، بقدر ما يكون عربيا ومستعملا للعربية، بقدر ما يكون إسلامه أكمل وأفضل. ولأنهم، ككل مؤمن مسلم، أرادوا أن يكون إسلامهم أكمل وأفضل، فقد كانت الوسيلة المتاحة لذلك هو أن يتشبهوا ويتماهوا بالعرب ويتحدثوا بالعربية. فاختلقوا خرافة النسب الشريف وانتحلوا الانتماء إلى العرق العربي. ولأن العربية، كما سبق أن شرحنا، كانت لم تعد لغة تخاطب وتداول يومي، فقد واصلوا استعمال ما كانوا يعرفونه من معجمها لكن بمعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، معتقدين أنهم إنما يتحدثون العربية لأن ظاهرها اللفظي هو بالفعل عربي. وهكذا تشكّلت الدارجة لتكون “دليلا” آخر على أن هؤلاء الأمازيغيين، الذين يتحدثونها، ليسوا أمازيغيين وإنما هم عرب، كما “تدل” على ذلك لغتهم وأنسابهم، المختلقة طبعا.
هذا الخلط بين العرق العربي واللغة العربية والدين الإسلامي، لم يحصل مثله عند الشعوب غير العربية الأخرى كالفرس مثلا، الذين ميّزوا، ومنذ اعتناقهم للدين الجديد، بين الإسلام كدين وبين العرب الذين ينتمي إليهم رسول هذا الدين. بل إنهم استمروا، حتى بعد إسلامهم، في احتقار العرب (الحركة الشعوبية) كشعب يعتبرونه أدنى منهم حضارة وثقافة ورقيا، مع أنهم احتضنوا الإسلام وأجلّوه، واحترموا اللغة العربية وأكبروها، لكنهم لم يجعلوا منهما بديلا عن هويتهم ولغتهم القوميتين، أو قالوا إنهم فرس عرَبهم الإسلام كما يكرر العديد من المغاربة. وبالتالي فلم يكن لديهم، عكس الأمازيغ، ما يسوّغ تحوّلهم جنسيا إلى الجنس العربي بادعاء الانتساب إلى العرب، وخلق لغة عربية خاصة بهم حتى يظهروا كعرب، كما فعل الأمازيغ عندما صنعوا الدارجة وانتحلوا النسب العربي.
ولماذا لا يطالب الأمازيغ بترسيم الدارجة وكفى؟
أمام الأدلة اللسنية (البصمة اللسنية الأمازيغية) التي تثبت أن الدارجة إبداع أمازيغي، يرد المدافعون عن أصلها العروبي أنه إذا كانت هذه الدارجة منتوجا أمازيغيا حقا، فلماذا يطالب النشطاء الأمازيغيون بترسيم الأمازيغية وتدريسها؟ ولماذا لا يكتفون بالدفاع عن ترسيم الدارجة وتدريسها، وخصوصا أن الجميع يفهمها عكس الأمازيغية التي تحتاج إلى عملية توحيد قد تتطلب وقتا ليس بالقصير؟
أولا، إن الذين يعارضون ترسيم الدارجة وتدريسها، أكثر مما يفعل المدافعون عن الأمازيغية، هم التعريبيون المقتنعون بالأصل العروبي لهذه الدارجة. فلقد رأينا الحملة المسعورة التي شٌنّت من طرف هؤلاء التعريبيين، في السنتين الأخيرتين (نحن في غشت 2016)، ضد الذين ينادون باعتماد الدارجة كلغة للتدريس. وأنه لأمر غريب حقا، ومتناقض وغير مفهوم أن يرفض من يعتبرون الدارجة لغة عروبية ترسيمَها واستعمالها كلغة في المدرسة. أم أنهم مقتنعون، لاشعوريا، أنها أمازيغية الأصل، وبالتالي فهم يعارضون ترسيمها وتدريسها لهذا السبب؟
ثانيا، إذا كان المغاربة الناطقون بالأمازيغية لا يدافعون عن الدارجة كلغة ذات أصول أمازيغية، ولا يطالبون بالتالي بترسيمها، فذلك لأنها تعتبر لغة عربية، وتستعمل كأداة فعّالة، أكثر من العربية المدرسية، لتعريب الأمازيغيين. لكن لو كان هناك وعي عند الدولة وعند المثقفين واللسانيين المغاربة، مع العمل عل نشر هذا الوعي وتعميمه، أن الدارجة لغة أمازيغية، منشأ وإنسانا وموطنا ومعنى وتركيبا، وأن المتحدثين بها كلغتهم الفطرية هم أمازيغيون يتحدثون اللغة التي أبدعها أجدادهم الأمازيغيون بأرضهم الأمازيغية، ولم تأت إليهم من خارج هذه الأرض، لما كان هناك مشكل في أن تكون الدارجة لغة رسمية ولغة للتدريس، لأنها ستكون، مثل أمها الأمازيغية الأصلية، لغة الهوية الأمازيغية للمغرب وللمغاربة. وستصبح، في هذه الحالة، هي نفسها، عنوانا على الانتماء الأمازيغي للمغرب وللمغاربة. وهكذا مثلا، لو كان المغرب، كما كان يجب أن يكون، دولة أمازيغية، بالمفهوم الترابي، يٌعترف فيه بأن الدارجة هي فرع للغة الأمازيغية، تختلف عن الأمازيغية الأم باستعمالها لمعجم العربية أكثر من معجم الأمازيغية، مع احتفاظها على نفس معاني وتراكيب الأمازيغية الأصلية، لما كان لدينا اعتراض على أن تكون الدارجة لغة رسمية ولغة مدرسية تكتب بحروف أمها الأمازيغية الأصلية، أي تيفيناغ. ففي هذه الحالة، لن يختلف وضع الدارجة، بمعجمها العربي الذي قد تتراوح نسبته ما بين 75 إلى 85 في المائة من مجموع ما تستعمله من ألفاظ، كثيرا عن وضع اللغة الفارسية، التي يضم معجمها حوالي 60 في المائة من الألفاظ العربية. ومع ذلك فلا أحد من الفرس يقول إن لغتهم الفارسية لغة عربية، وأن المتحدثين بها هم عرب، وهذا بالرغم أنها أخذت من العربية، ليس فقط الجزء الأهم من معجمها، بل حتى حرف كتابتها.
وأين المشكل إذا كان أجدادنا الأمازيغ قد اختاروا الانتماء إلى العروبة؟
هناك من قد يعترض: وأين المشكل إذا كان أجدادنا الأمازيغ قد اختاروا الانتماء إلى العروبة، وحافظنا، نحن المغاربة الناطقين بالدارجة، على هذا الاختيار وواصلنا الانتماء إلى العروبة كما ورثنا ذلك عن أجدادنا؟ هذا اعتراض وجيه ومعقول. لكن المشكل ليس في كون جزء من أجدادنا كانوا أمازيغيين في الأصل ثم تحوّلوا جنسيا إلى عرب، وتبنّوا، لأسباب دينية وسياسية، العروبة كانتماء لهم، مع انتحالهم للنسب العربي وصنعهم للغة “عربية” خاصة بهم، هي الدارجة. فهذه هي الحقيقة، وهذا هو ما حصل بالفعل. وإنما المشكل هو أن أحفاد هؤلاء الأمازيغيين، الذي تحولوا إلى عربان، ينكرون هذه الحقيقة، ويدّعون أن أجدادهم، هؤلاء، كانوا منذ البداية وفي الأصل عربا أقحاحا جاؤوا من الجزيرة العربية، كما تشهد على ذلك ـ حسب زعمهم ـ لغتهم الدارجة التي هي لهجة عروبية لا علاقة لها بالأمازيغية والأمازيغيين. هذا هو المشكل. لماذا هو مشكل؟ لأن هذا “التفسير”، وهذه “القراءة” لـ “عروبة” المغرب ولـ”عروبة” دارجته، هما زيف مخالف للحقيقة وللتاريخ وللواقع، وللمعطيات اللسنية حول العلاقة بين الأمازيغية والدارجة. وهذا الزيف هو الذي صنع هذه “العروبة”، وخصوصا عندما أصبح إيديولوجية للدولة منذ 1912، فعملت على نشره وترسيخه عبر مدارسها وإعلامها ومؤسساتها. أما لو كان هناك وعي لدى الدولة ولدى المثقفين المغاربة بأن المتحدثين بالدارجة هم حقا حفدة الأمازيغيين، الذين أرادوا التحدث بالعربية تماهيا مع العرب فخلقوا “عربيتهم” الأمازيغية، التي استعملوا فيها الألفاظ العربية لكن بمعاني وتراكيب أمازيغيتهم، وهي الدارجة التي أبدعوها، هنا في أرض تامزغا، ولم تأتهم من بلاد العرب مثل اللغة العربية، وأن هذه الدارجة هي عربية هؤلاء الأمازيغ ـ وليست عربية العرب ـ التي ورثها عنهم المغاربة المتحدثون بها اليوم، باعتبارهم حفدة لهؤلاء الأجداد الأمازيغيين… لو كان هناك مثل هذا الوعي، لما كان هناك مشكل، لأن هذا الوعي مطابق للحقيقة وللتاريخ. وفي هذه الحالة، سيُطرح السؤال من نوع آخر ومستوى آخر: إذا كان أجدادنا ارتكبوا أخطاء ووقعوا ضحية استلاب ونصْب، باسم الدين والنسب الشريف ولغة الجنة، أدّيا بهم إلى التحول جنسيا بتغيير جنسهما الأمازيغي إلى جنس عربي، فهل من واجبنا السير على نفس الأخطاء وإعادة إنتاجها، والقبول بالاستمرار في الوقوع ضحية لنفس الاستلاب والنصْب، والرضا بالتحوّل الجنسي والتنازل عن هويتنا الأمازيغية؟
من جهة أخرى، ظل هذا التحوّل الجنسي لأجدادنا الأمازيغ إلى الجنس العربي، للأسباب التي شرحنا، مع ما أدى إليه ذلك التحول من ظهور الدارجة كعربية أمازيغية، (ظل) يُمارس في نطاق فردي كاختيار شخصي، لما كان يرتبط به من امتيازات دينية وسياسية واجتماعية وعرقية، ولم يسبق أن كان ظاهرة جماعية تخص كل الشعب المغربي والدولة التي تحكم هذا الشعب. وهذا ما يفسّر أن انتشار الدارجة، قبل 1912، بقي محدودا تتحدث بها أقلية لا تبلغ حتى ربع سكان المغرب. وهذا بشهادة حتى زعماء التحول الجنسي من رجال الحركة الوطنية، الذين كتبوا إلى شيخهم شكيب أرسلان في 1930 يخبرونه أن فرنسا ترمي، بإصدارها لظهير 30 ماي 1930 (الظهير البربري)، إلى تنصير 75 في المائة من المغاربة (Gilles Lafuente, “Dossier marocain sur le dahir berbère de 1930”, revue de l’Occident musulman et de la méditerranée, numéro 38, pp. 83 – 116). وهو اعتراف أن المغاربة المتحدثين بالأمازيغية، موضوع هذا الظهير، يشكّلون ثلاثة أرباع من المغاربة. وهذا في 1930، أي بعد 18 سنة من الحماية التي كانت إحدى مهامها نشر وترسيخ ثقافة وسياسة التحويل الجنسي للمغاربة إلى جنس عربي. فهذا التحول الجنسي للأمازيغيين، قبل 1912، ظل إذن فرديا ولا يشكّل، بالتالي، خطرا كبيرا على الهوية الجماعية للمغاربة، التي ظلت أمازيغية، منسجمة مع هوية موطنهم بشمال إفريقيا. لكن مع 1912، سيصبح التحول الجنسي سياسة عمومية للدولة الحامية، التي جعلت من المغرب دولة عربية، ثم لدولة الاستقلال التي نهجت سياسة التحول الجنسي العلني التي سمتها التعريب، والذي لا علاقة له باللغة العربية لأن هدف هذا التعريب ليس تعليم ونشر العربية كلغة، وإنما هو تحويل المغاربة إلى شعب عربي، بما فيهم الأميون الذي لا يعرفون حرفا من اللغة العربية. وهنا أضحى التحول الجنسي خطرا حقيقيا يهدد الهوية الجماعية للشعب المغربي، وذلك باستبدالها بالهوية العربية الأجنبية.
وهنا يكون التحول الجنسي، عكس ما كان عليه الأمر عندما كان اختيارا شخصيا لمجموعة من الأمازيغيين، مشكلة حقيقية. فإذا كان من حق أي أمازيغي، كفرد، أن يختار الانتماء إلى العروبة والتنكر لأمازيغيته، فهل للدولة نفس الحق في أن تفرض الهوية العربية على الجميع، من خلال سياسة التعريب التحويلية، وتجعل من الهوية الجماعية المشتركة للمغاربة هوية عربية؟ ليس لها الحق في ذلك لأن ليس من حقها ولا من مهامها أن تمارس التزوير والتزييف، كما يفعل الأفراد، عندما يزوّرون هويتهم ويزيّفون جنسهم كاختيار شخصي. بل إن إحدى مهامها هي محاربة التزوير والتزييف، ومعاقبة المزوّرين والمزيّفين، واعتبار كل ما ترتب عن التزوير والتزييف من آثار ونتائج باطلا لا يمكن الاعتداد ولا الاحتجاج به، مثل الهوية العربية لمجموعة من المغاربة، والتي هي من مخلفات التزوير والتزييف، مما يجعلها لاغية وباطلة. لهذا فالتحول الجنسي للمغاربة إلى عرب، لم يكن مشكلا حقيقيا إلا بعد 1912 عندما أصبح سياسة للدولة، تتبنّاه وتنشره وتفرضه وتدافع عنه. فهي، بهذه السياسة التحويلية، لا تكذب على نفسها فقط ومن أجل خداع بعض الأفراد فقط، كما يفعل من ينتحل الانتساب إلى العروبة، وإنما تكذب على الشعب كله، ومن أجل خداع هذا الشعب كله. فمثل هذا التحول الجنسي، الذي تمارسه الدولة، يجب إذن محاربته والتصدي له، تعبيرا عن الانتماء إلى هذا الوطن، وغيرة على هذه الدولة، وحماية لكرامتها ودفاعا عن استقلالها الهوياتي. وليس هناك من وسيلة لوضع حد للشذوذ الجنسي للدولة إلا عودتها إلى هويتها الأمازيغية الشمال إفريقية، حتى لا يكون هناك انفصام بين هويتها المعلنة وهوية موطنها الحقيقية، أي الأمازيغية الشمال إفريقية.
لماذا يستوي الأميّون والمثقفون في نفس الفهم العامّي للدارجة؟
ربما لا يوجد شيء في المغرب يستوي فيه العلماء والجهلة، والمثقفون والأميون، ويتفقون حوله اتفاقا كاملا، مثل اعتقاد الاثنين بعروبة اللغة الدارجة، الشائع عند الأميين والعامّة، وأيضا عند العديد من اللسانيين والمفكرين. وإذا كان سبب شيوع هذا الاعتقاد عند العامّة وغير المتعلمين، هو الاستناد إلى الظاهر المعجمي للدارجة، فإن اللسانيين، الذين يتبنون نفس الموقف، يستندون هم أيضا على الظاهر في معالجة وفهم موضوع الدارجة. وهو ما يُبعدهم عن العلم والمنهج العلمي، ويحشرهم مع الأميين وأصحاب التفكير العامّي، لأنه «لا علم إلا بما هو خفي» (Il n’y a de science que de ce qui est caché)، كما علّمنا فيلسوف المعرفة العلمية كاسطون باشلار G.Bachelard. و”الخفي” في الدارجة، ليس ألفاظها، التي تشكّل الظاهر، أي ما ليس موضوعا للمعرفة العلمية، ولا حتى معانيها وتراكيبها، وإنما أصل هذه المعاني والتراكيب. لماذا يكون هذا الأصل “خفيا”، وهو ما يجعل منه، نتيجة لذلك، موضوعا للمعرفة العلمية؟
لأنه، عكس الألفاظ الظاهرة والتعابير المنطوقة، فإن هذا الأصل ـ أصل معاني وتراكيب وتعابير الدارجة ـ ليس ظاهرا ولا منطوقا. فلمعرفته واكتشافه، يجب إذن البحث عنه، وذلك بالمقارنة بين معاني وتراكيب الدارجة، ومعاني وتراكيب الأمازيغيةّ، ومعاني وتراكيب اللهجات العروبية، بما فيها العربية طبعا. هذه المقارنة غائبة عند جميع اللسانيين ـ بمن فيهم الذين يتقنون الأمازيغية ـ، الذين يعتقدون أن الدارجة لهجة عروبية. فكل ما يفعلونه هو الوقوف عند المقارنة بين الدارجة والعربية، وهو ما يستخلصون منه، كما يدلّ على ذلك ظاهر ألفاظ وتعابير الدارجة، أن هذه الأخيرة لهجة متفرعة عن العربية. لكن لو قارنوا بين اللهجات العروبية، وأولها العربية طبعا، وبين الدارجة، وبين الأمازيغية، لاكتشفوا، كحقيقة “خفية”، أن تعابير الدارجة هي ترجمة حرفية لمعاني وتراكيب التعابير الأمازيغية، مع استعمال ألفاظ عربية. وبالتالي فلا معنى لهذه التعابير في أية لهجة عروبية، لأنها تحمل البصمة اللسنية (ADN اللسني) الخاصة بالأمازيغية. وهو ما يعني أن أصل معاني وتراكيب تعابير الدارجة أمازيغي، بشريا ونشأة وموطنا ومعنى وتركيبا، مع الاعتراف أن أصل الجزء الأهم من معجمها عربي. والنتيجة أن الذين تحدثوا الدارجة للمرة الأولى في التاريخ، هم بالضرورة أمازيغيون يجيدون الأمازيغية، وإلا لما استطاعوا ترجمة معاني وتراكيب لغتهم إلى العربية. ويترتب عن ذلك أن المغاربة المتحدثين اليوم بالدارجة كلغة فطرية هم أمازيغيون كذلك، لأنهم حفدة الأمازيغيين الأوائل الذين صنعوا الدارجة ونقلوها إلى هؤلاء الحفدة. هذه هي الحقيقة العلمية التي نتوصل إليها من خلال التحليل اللسني المقارن للدارجة والعربية والأمازيغية. وهي حقيقة علمية لأنها “خفية” وغير معطاة بشكل مباشر، كما وضّح كاسطون باشلار، بل تحتاج إلى اكتشاف وتنقيب، انطلاقا من المعطى المباشر، الذي هو ظاهر تعابير الدارجة.
هذه هي الحقيقة التي تُرعب التعريبيين وتفقدهم صوابهم، لأنها تفضح تحولهم الجنسي، وتكشف عن هويتهم الأمازيغية الحقيقية، التي يرفضونها ويناوئونها، بعد أن استمرأوا واستحلوا تحولهم الجنسي إلى جنس عربي. إنه لأمر صعب، بل ومؤلم، أن يقبلوا ويعترفوا أن تكون الدارجة، التي يعتبرونها عنوان انتمائهم العربي، هي الدليل على انتمائهم الأمازيغي. ومن هنا نفهم الحملة الشعواء التي تعرضت لها الإعلامية سميرة سيطايل عندما صرحت لراديو “أصوات”، بتاريخ 10 مارس 2016، «أن المغرب ليس بلدا عربيا […]، وأن أصول المغاربة أمازيغية. […] وهو ما يجب ان يكون مصدر قوة واعزاز». هذا الكلام يكرره يوميا نشطاء الحركة الأمازيغية، ولا يثير كل الغضب والفزع اللذيْن أثارهما كلام السيدة سيطايل. لماذا؟ لأن السيدة سيطايل تتحدث الدارجة كلغتها الفطرية الأولى (بجانب الفرنسية)، ولا تعرف الأمازيغية ولا تتقنها. وهو ما يجعل منها، حسب المعيار الشائع المعتمد بالمغرب للتمييز بين “العربي” والأمازيغي، “عربية” قحة مثل كل المتحدثين بالدارجة كلغة فطرية، وفق نفس المعيار. ولهذا لم يكن متصورا ولا منتظرا ولا حتى “مفكّرا فيه”، بالنسبة للمتحولين جنسيا إلى عروبيين، الذين يجعلون من الدارجة عنوانا وبرهانا على الانتماء العربي للمغاربة، أن تعلن مغربية تعتبر “عربية”، مثل السيدة سيطايل، أن المغرب ليس عربيا، وأن أصول المغاربة أمازيغية. إنه لشيء صادم وقاسٍ بالنسبة لهؤلاء التعريبيين المتحولين جنسيا (قوميا وهوياتيا)، أن تشهد “عربية” أن المغرب أمازيغي، لأن ذلك يعني أن الدارجة، التي يعوّل عليها التعريبيون لإثبات عروبة المغرب، لم تعد مجدية لذلك، بدليل أن السيد سيطايل هي نفسها دارجفونية وليست أمازيغوفونية. وما يصدم التعريبيين هنا هو الحقيقة، التي يرفضونها، والتي كشفت عنها السيدة سيطايل، وهي أن المتحدثين بالدارجة هم أمازيغيون، مثلهم مثل المتحدثين بالأمازيغية.
هذه الحقيقة تُرعب وتُرهب، كما قلت، التعريبيين المتحولين جنسا، لأنها تزيل الغطاء عن تحولهم الجنسي، الذي يُخفيه ستار الدارجة. وهذه الحقيقة ليست معطاة بشكل مباشر، بل هي “خفية” بالمفهوم الباشلاري، أي لا يمكن الوصول إليها والكشف عنها إلا بتجاوز الظاهر والمعطى المباشر، كما شبقت الإشارة، والذي يخفي تلك الحقيقة ويحول دون اكتشافها، كما يفعل ظاهر ألفاظ وتعابير الدارجة، الذي يخفي أن الدارجة من صنع أمازيغي. لكن، وكما أن التكوين الفيزيولوجي والشفرة الوراثية Code génétique ومحتوى الكروموزمات الذي يتشكل من عنصري x وy عكس كروموزومات الأنثى، كلها معطيات “خفية” تثبت أن المتحول جنسيا من ذكر إلى أنثى، هو في الأصل ذكر رغم أنه يبدو في ظاهره أنثى كاملة وناضجة الأنوثة، فكذلك البصمة اللسنية للأمازيغية، التي تشكّل حمضها النووي (ADN) الذي يميّزها كلغة أمازيغية، وهويتها اللسانية التي تنفرد بها بصفتها لغة أمازيغية، كلها معطيات حاضرة في الدارجة، بشكل “خفي”، تثبت أن هذه الدارجة هي في حقيقتها نسخة من الأمازيغية، وأن المتحدثين بها هم في الأصل أمازيغيون. عندما يعي المغاربة هذه الحقيقة، سيكتشفون دارجتهم التي لا زالوا يجهلونها، لأنهم يعتبرونها لغة عروبية. وباكتشافهم لدارجتهم، سيكتشفون حقيقتهم وحقيقة مغربهم. ومن مهام العلماء واللسانيين الكشف عن هذه الحقيقة “الخفية” للدارجة، وإلا فإنهم لا يختلفون عن العامّة والأميين، الذين يعتقدون أن الدارجة لهجة عروبية، وأن المتحدثين بها هم عرب.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.