كان يوم 15 دجنبر 1995 يوما مشهودا في تاريخ أمازيغ الصحراء، التوارگ، وفي مسارهم الطويل الشاق والعسير من أجل الحرية والانعتاق.
إنه يوم محفور في الذاكرة وموشوم في التاريخ ومكتوب في سجل تضحيات الأمازيغ في سبيل حرية أوطانهم والرقي بلغتهم وثقافتهم وحضارتهم، إنه يوم استشهاد الزعيم الثوري ملهم النهضة المعاصرة للتوارگ، الشهيد “مانو دياك”، في حادثة انفجار طائرة صغيرة من نوع Cessna 337 في سماء مرتفعات الأيير شمال النيجر في سفره من مدينة أگاديز إلى العاصمة نيامي لعقد اجتماع مع رئيس جمهورية النيجر للتفاوض معه والبحث في سبل إيقاف الحرب بين الجيش النظامي وثوار التوارگ.
هذا الحادث الذي وصفته الصحف والمنابر الإعلامية آنذاك بالغامض، وشككت كثيرا بكونه عملا مدبرا استهدف زعيم سياسي وعسكري حقيقي، كان يتمتع بكاريزما مذهلة في قيادة شعب التوارگ بفكر ووعي عميق، لاسيما وأنه يمتاز بكثير من الخصال التي تؤهله ليكون في مستوى القيادة والزعامة، ومنها التفكير والتنظير، فهو حامل للقضية بعمق الفكرة، وكان يحاول ترسخ أفكاره بوضع ترسانة نظرية متينة تستمد مقوماتها الفلسفية من حضارة الصحراء، وتاريخ أسلافه التوارگ، ومسلسل المقاومات الطويل الذي قطعوا كل أشواطه ومراحله السابقة والحالية بالتشبث القوي والمستميت بالصحراء واللغة الأمازيغية وثقافتها.
كيف لا وأن “مانو دياك” يعد من بين الأوائل ضمن شعب التوارگ الذين قادتهم الصدفة والذكاء أيضا إلى السفر مبكرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية قصد الدراسة في أرقى جامعاتها، ثم انتقل إلى العاصمة الفرنسية باريس ودخل جامعتها المعروفة “السوربون” وتخرج فيها متخصصا في العلوم السياسية.
بمعنى أن الرجل استوعب المدرسة الأمريكية جيدا ثم المدرسة الفرنسية، ومزج بين الانثروبولوجيا الثقافية وعلم السياسة.
وبعد أن صال وجال في أعتد الجامعات الدولية المعروفة بالبحث العلمي والمعرفي الرصين، وبعد أن جالس مجالس كبار العلماء والمفكرين والباحثين في مختلف ضروب المعرفة والتخصصات البحثية في علوم الانسان، وتدرج في مدرجات المعارف والمدارك، متقنا للغة الإنكليزية والفرنسية…
بعد كل هذا ترك كل شيء، وعاد إلى موطنه، عاد إلى أصله، إلى الصحراء، اختار الاستقرار في بلدته أگاديز، ترك ضباب باريس ومتاحفها وأزقتها الباردة، ولم تستهويه الثقافة الأمريكية الجذابة والموغلة في الحداثة، ولم ينسهر في شوارع واشنطن، ولم تستهويه ناطحات سحاب نيويورك، وإنما “مانو دياك” قرر العودة إلى مدينة أگاديز، وسط صحراء قاحلة، المبنية بالطين والحجر.
عاد “مانو دياك” إلى وطنه، تنفيذا لوصية أمه، التي أوصته، ” كانت أمي تقول لي: مانو لا تغادر الصحراء لأنها تطهر الروح”. هكذا كتب مانو دياك في كتابه الذي وسمه بعنوان جميل يعبر فيه بطريقة مختصرة عن حبه لوطنه، ” ولدت والرمال في عيني”. يقول المفكر التارگي الأمازيغي العالمي “إبراهيم الكوني” أن التوارگ لا يرثون المال والجاه والمناصب وإنما يرثون الوصايا.
ولد مانو دياك في قرية تيدين Tiden بمنطقة تافداك بجبال الآيير شمال النيجر الحالية، سنة 1949، وهو ينتمي إلى مجموعة إيفوغاس، وهي من بين الاتحاديات السياسية المهمة في مجتمع التوارگ، وتمتاز بالحرابة والصلابة، ويعرف بلادها بأدرار إيفوغاس.
استفاد مانو دياك في التعليم الابتدائي في اطار الاهتمام بتمدرس أبناء الرحل، وانتقل إلى أگاديز حيت أتم دراسته الثانوية، واستفاد كثيرا من منظمة السلام الأمريكي وتعلم أبجديات اللغة الإنكليزية بمدينة أكاديز، كما انخرط في العمل مع عدة منظمات غير حكومية بشمال النيجر، ومنها انتقل إلى أمريكا وعمق معارفة ومداركه اللغوية والعلمية، ثم انتقل إلى فرنسا.
وبعد عودته إلى الصحراء، اشتغل في البداية مع وكالة أسفار فرنسية في منطقة أگاديز، وبعد ذلك أنشأ وكالة أسفار خاصة به، واشتغل كثيرا على الثقافة والحضارة الأمازيغية والتعريف بقضايا التوارگ وكنوز ثقافتهم المتعددة المظاهر، وأسرار تاريخهم الطويل، ونسج علاقات كثيرة وقوية مع منظمات دولية غير حكومية ومع وكالات أسفار في مختلف أصقاع العالم، وقد برز نجمه بعد تنظيمه لدورة من رالي باريس دكار.
وقد ساهم بكل الوسائل والطرق في التعريف بثقافة التوارگ ومشاكلهم وخصوصياتهم، لاسيما عبر السينما، حيث شارك مانو في أول فيلم سينمائي تم تصويره بمنطقة الصحراء حول التوارگ، سنة 1990 للمخرج “بيرناندو برتولوتشي”.
وبعد اندلاع ثورات التوارگ سنة 1990 ضد دولة النيجر، انخرط الزعيم “مانو دياك” في الثورة، وكان من بين زعمائها. إلى جانب كل من غيسا أك بولا رئيس جبهة تحرير الأيير وأزواغ، والطاهر عبدالمومن رئيس جبهة تحرير شمال النيجر، ومحمد أناكو رئيس اتحاد قوات المقاومة المسلحة. فيما أسس “مانو دياك” “جبهة تحرير تاموست”.
يتميز “مانو” بالدهاء والذكاء، وكان يدرك جيدا الرهانات الاستراتيجية والسياسية للدول الكبرى في الصحراء، ويفهم جيدا التنافس والصراع المحتد بين فرنسا وأمريكا للسيطرة على ثروات الصحراء والساحل. بالرغم من كونه منخرطا في النزاع المسلح، إلا أنه كان دائما يؤمن بالحوار والتفاوض بين الثوار التوارگ والنظام في إطار موازن القوى ميدانيا وعسكريا وسياسيا، واشتغل كثيرا على توحيد جهود وقوات الحركات الثورية في إطار موحد ومنظم.
ومعروف أنه ينادي دائما إلى الوحدة ويناهض اسباب الانشقاقات وكثرة التنسيقيات والجبهات.
أفكاره ومخططاته كانت تزعج وتؤرق بال دولة النيجر ودول الجوار خاصة ليبيا والجزائر ثم فرنسا. وما يجعل فرضية اغتياله تطرح بشدة بتنسيق بين الأحهزة الاستخبارية لهذه الدول، هو علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية. ففرنسا التي استعمرت المنطقة، سيطرت منذ نهاية الخمسينيات على منجم الأورانيوم بمنطقة أگاديز الذي يكتنز أكبر احتياط عالمي في هذه المادة الحيوية، وتستغله الشركات الفرنسية طيلة عقود، فيما المنطقة تعيش في جفاف ومجاعة وانعدام أبسط شروط الحياة.
وقد نشر الزعيم مانو دياك كتابان باللغة الفرنسية، الأول التوارگ والمأساة، والثاني ” ولدت والرمال في عيني”.
ويظهر أنه زعيم المقاومة المسلحة وزعيم روحي، يفكر ويكتب وينظر، يقاوم بالرصاص ولكنه يدافع بالكلمة والفكرة، وهو يمثل الجيل الأول من القادة التوارگ الذين تمكنوا من الدراسة في الجامعات الدولية، ومزج علمه ببحثه في ثنايا الحضارة الأمازيغية في الصحراء.
وفي يوم 15 دجنبر 1995، حين اتجه مانو دياك من أگاديز إلي نيامي عبر طائرة صغيرة، انفجرت في السماء، ومات شهيدا برفقة صحافي فرنسي واثنان من مرافقيه وربان الطائرة.
هكذا يتضح إذن، كيف يستشهد الأمازيغ من أجل قضيتهم العادلة….منهم من قُتل بالرصاص الحي، ومنهم من انفجرت به الطائرة في السماء، ومنهم من قُتل في حادثة سير بالسيارة، ومنهم من مات في غياهب السجون، ومنهم من قُتل بالمزابر والسيوف فوق الرصيف…تعددت وسائل الابادة والقضية واحدة، هي قضية تامزيغت وقضية الهوية والموجود.
عبدالله بوشطارت
15 دجنبر 2021.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.