الوعاء التاريخي بنزعته الجغرافية يؤكد على افريقيتنا، الممتدة بعلاقاتنا العمودية مع جيراننا. أو ليس هذا نفسه نداء أو تذكير سلفنا ماسينيسا» افريقيا للأفارقة « . الوعاء التاريخي ملزم بأن يذكرنا أيضا بما هو أهم: توفرنا على بنية ذهنية إغريقية كما ماضينا اللاتيني؛ الجسد والعقل لا يمكن أن يتنافرا في التصور الإغريقي، ومن تم لا يجب أن يتنافرا بالنسبة إلينا . تذكروا المثل القائل : العقل السليم في الجسم السليم. وكما أن لكل شيء سببا ومقصدا حسب أرسطو، يجب علينا الغوص مسلحين بالعقل؛ فاضطلاعنا بالإرث الإغريقي-الروماني ليس بنزوة عابرة، وإفريقيا الصغرى كانت لزمان رمانية كما لم تكنه بلاد الغال .
هل باستطاعة فرنسا اليوم جحود الأصول اللاتينية المغذية لها أو إرثها الهيليني؟ لا يجب أن تكون العلاقة مع اللغة الفرنسية جزءا من المشكل، فهي تندمج بشكل سلس في سوقنا اللغوي وتعودنا على تبني لغات أخرى على مر التاريخ أكثر ما يفيد عزائمنا. فاللغة الفرنسية تربطنا بهذا الإرث الإغريقي-الروماني الذي نترافع من أجله، وتنير سبيلنا نحو الحداثة. ولنجعل من قولة كاتب ياسين، اللغة الفرنسية غنيمة حرب، شعارا لنا؛ ولنتذكر أيضا لازمتها : أتحدث الفرنسية لكي أقول للفرنسيين أنني لست فرنسيا .
لا ريب أن الرؤية التي يجب استلهامها، هي ما يمكن وسمه ب Weltanschauung، الرؤية التي يجب أن تكون المحفز والعنصر الديناميكي، بمعنى آخر المحرك المشغل للمصير. القاعدة الجغرافية والنسيج الثقافي بمثابة عناصر ثابتة، بدون تماس تاريخي إن لم يكونا مقطورين بقاطرة، بمشروع. نستطيع فرك أمثلة شعوب في ظروف محددة بتسليط المنارات التي أنارت السبيل لهم تحولت من حالة القوة إلى حالة النفوذ. هل تم لهم ذلك بأدوات المرحلة المحددة تاريخيا كما تتبناها الماركسية الأرتودوكسية ؟ أو بفاعلين مبهمون ؟ السؤال غير ذي أهمية، ما دام التاريخ يعلمنا ضرورة وجود حاملي المشعل من أجل رسم طريق ، أو ما يصطلح عليه اليوم بخريطة الطريق. فيخت، زياكوف ألب، هرتزل، ميشيل عفلق، كانوا بمثابة فوانيس استطاعت أن تكتل ذويها كرد فعل على جرح أنطولوجي ودفعهم للمغامرة الإنسانية، بعبارة أخرى الحداثة .
من خلال كل هذه الأمثلة الواجب الاطلاع عليها وتمحيصها واستيعاب كنهها، يجب تشييد مشروعنا الخاص بنا؛ إذا حالف الحظ البعض فنجحوا، فالكل لم يفلت من موجات النزعات الوطنية التي عرفها القرن التاسع عشر باعتمادها على قوام هوياتي ولازمته: نفي الآخر أو » الآخرون « التطهير الثقافي تجاور للأسف مع التطهير الإتني ويكفينا ما نعرفه عن النزعة الجرمانية ، وتجاوزات الطورانية التركية بإبادة الأرمن وإنكار الكرد . لا يمكن أن نقفز على الخطيئة الأصلية للصهيونية المؤسسة على نفي الشعب الفلسطيني بناءا على لازمة » شعب بدون أرض لأجل أرض بدون شعب« . لن نطيل الحديث عن تهافث النزعة العربية وفشلها . ولا يمكن لنا أن نسمح بإقصائنا ؛ من الواجب علينا مباشرة العمل بالتراكم معدلين الاسهامات المختلفة ، وكل المكونات المتعددة بالإيمان بقيم مشتركة . لا نسيج بدون لحمة ، والقيم هي المشكلة لهذه اللحمة ؛ والتي نتبناها هي الحرية بمفهوم بنيامين كونسطانت : القدرة على الفعل ، بمعنى أخر الولوج إلى السلطة ؛ ثم العدالة بمفهوم يوحنا راولس أي العدالة التشاركية ، بمعنى أخر الولوج إلى الجماعات الثروات ، في الأخير العقلانية ، بالنسبة للأشياء (العلم) ، والوقائع (العلم الاجتماعية) ، وبالنسبة للكائنات ( العقد الاجتماعي ).
وفي هذا الجانب الأخير نستدل بروسو ، مؤكدين على العقد الاجتماعي ، أساسي من أجل استخلاص الإرادة العامة ، كإطار بيداغوجي يمدنا بالإنسان الجديد. والتاريخ يحوي سالفا استطاع أن يكتل كل الإسهامات
تحت إيمان موحد بقيم يؤطرها مبدأ الوحدة في التنوع ، وجعل المساواة والغلبة للشعب كفاعل وذي سيادة ، إنه شعب الولايات المتحدة ؛ لا يجب خلط الشعب مع الغفير ، أكيد أن مفهوم الشعب مفهوم مجرد ، لكن وحده من يضفي الروح على الغفير ذي الإرساء الجغرافي ، والوعي التاريخي والمصير؛ له حق الصدارة على كل شيء ، وهو الثابت الوحيد .
كل أشكال الحكم والهيئات الجغرافية التي تحدد الأوطان هي متغيرات على مر التاريخ تتبدل؛ وبالتالي المتغيرات في خدمة الثابت وليس العكس. والنموذج الأمريكي يعتبر الزهرة الأولى لفلسفة الأنوار؛ فلنتأمل النموذج مكن حيث المنبع، ولنحلم بالولايات المتحدة الشمال إفريقية .
مرحليا ليس لنا من قوة غير قوة الحجة والعقل؛ فلنجعلها سلاحنا، وليكن حديثنا موجها للأحرار في عقولهم أو الذين يرتضون الروح الحرة؛ يجب على متحدثي اللغة الأولى ببلداننا أن يكونوا أحرارا في عقولهم وذهنياتهم؛ ذلكم معنى أن يكون المرء أمازيغيا. المرحلة المتعاقبة هي التي ترمي إلى الاشتغال الذكي وهذا هو المصير.
سبعة عقود مرت حتى الآن على نداء صدحت به الحناجر بأقطارنا : (قم يا بن الأمازيغ/شمسنا قد بزغت ) أتحسس هنا والآن صدى هذا النداء المنهمر ؛ منتشيا بأريج الربيع ، ربيع متجدد ينسينا ندوب الربيعين السالفين. وأختم بهذين البيتين الرائعي للشاعر الألماني نوفاليس:
أن نحلم بأننا بصدد الحلم / دنو وقت الاستيقاظ قادم
طال أمد حلمنا كثيرا، واستحالت أحلامنا أحيانا إلى كابوس ؛ لعلنا الآن نحلم بأننا بصدد الحلم؛ أليس ساعة القيام من السبات قد دنت ؟
أيها الإنسان الحر من الوطن الحر، إنك على موعد مع التاريخ ؛ فكن ما يجب أن تكون .
وشكرا .
الحلقة الثالثة والأخيرة من تيموزغا بين الكينونة والمصير
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.