لماذا لم تنجح تجربة “العدالة الانتقالية” في المغرب؟
“العدالة الانتقالية”:
انخرط المغرب، كما هو معروف، في تجربة “العدالة الانتقالية” بإنشائه، في يناير 2004، “هيئة الإنصاف والمصالحة”، التي سبقها إحداث “المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان”، الذي تحوّل اسمه إلى “المجلس الوطني لحقوق الإنسان”. و”العدالة الانتقالية”، كما يعرّفها المركز الدولي للعدالة الانتقالية هي «مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكالا متنوّعة من إصلاح المؤسسات». والذي يهمنا، في هذه المناقشة، هو أهداف “العدالة الانتقالية”، والتي يلخّصها نفس المركز في «الاعتراف بكرامة الأفراد؛ والإنصاف والاعتراف بالانتهاكات؛ وهدف منع وقوعها مرة أخرى». ويهمّنا من بين هذه الأهداف الهدف الأخير، وهو منع وقوع انتهاكات حقوق الإنسان مرة أخرى. فهل حققت تجربة “العدالة الانتقالية” في المغرب هذا الهدف؟ أي هل لم تعد السلطات المخزنية ترتكب، بفضل هذه السياسة، انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فلماذا لم تنجح تجربة “العدالة الانتقالية” في المغرب؟
هل نهاية الاختفاء القسري تعني نهاية كل أشكال الانتهاكات الجسيمة؟
استنادا إلى الفصل الخامس من النظام الأساسي “لهيئة الإنصاف والمصالحة” (الجريدة الرسمية عدد 5203 بتاريخ 12 أبريل 2004)، الذي يحصر مصطلح “الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان” في “الاختفاء القسري” و”الاعتقال التعسّفي”، يمكن القول إن المغرب قد قطع نهائيا مع النوع الأول من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، المتمثل في “الاختفاء القسري”، الذي كان ممارَسا بشكل واسع في سنوات الجمر والرصاص (منذ أوائل الاستقلال حتى أواخر القرن الماضي). وقد أورد التقرير الختامي “لهيئة الإنصاف والمصالحة” بعض مظاهر “الاختفاء القسري”، التي تميّزه عن حالة “الاعتقال التعسفي”، بالقول: إن «الهدف من ممارسته حرمان ضحيته من أية حماية قانونية، حيث يتم ارتكاب كافة الأفعال المكوّنة له خارج نطاق القانون مع عدم الاكتراث المطلق بمقتضياته»، عكس “الاعتقال التعسّفي” الذي ـ يضيف التقرير ـ «غالبا ما تتم ممارسته في إطار القانون مع خرق بعض أو كل مقتضياته». والمثال البليغ لتوضيح مفهوم “الاختفاء القسري” هو حالة المختطفين مجهولي المصير… ولهذا فهو يعبّر عن أبشع ممارسة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي يجب الاعتراف أن المغرب قد انكفّ عنها، لأنه سيكون من البلادة الاستمرار في “الإخفاء القسري” للأشخاص في القرن الواحد والعشرين.
ومن أجل تصفية الإرث المرّ لسنوات الجمر والرصاص، وإصلاح ما اقترف خلالها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وجبر الأضرار الناجمة عن تلك الانتهاكات، تبنّت الدولة خطة “العدالة الانتقالية” بإنشائها “لهيئة الإنصاف والمصالحة”. لكن إذا كان “الاختفاء القسري” قد اختفى بفضل التفعيل العملي لبرنامج “العدالة الانتقالية” عبر إنشاء “هيئة الإنصاف والمصالحة”، فهل يعني ذلك اختفاء الشكل الثاني، الذي هو الاعتقال التعسّفي، للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؟
المحك الحقيقي لاختبار مدى التزام الدولة باحترام حقوق الإنسان:
لكن ما يجب الانتباه إليه، هو أنه إذا كان قد حصل فعلا تقدّم على مستوى احترام حقوق الإنسان في المغرب منذ الألفية الثالثة، بل منذ العقد الأخير من القرن الماضي، فذلك لأنه لم تقع، خلال هذه المدة، أية أحداث اجتماعية وسياسية خارجة عما هو معروف ومألوف، والتي تواجهها الدولة وتتدخل لحلّها بالشكل المعروف والمألوف كذلك، لاختبار مدى التزام هذه الدولة باحترام حقوق الإنسان. فحتى في سنوات الجمر والرصاص، عندما كانت الأمور عادية، ومطالب المعارضين عادية لا يرى فيها المخزن مسّا بـ”هيبته”، ولا الحكمُ تهديدا لسلطته الفردية والمطلقة، لم يكن هناك انتهاك لحقوق الإنسان. ولهذا فإن ضحايا هذه الانتهاكات هم من كانوا يعارضون الحكم الفردي المطلق، ويعملون من أجل إقامة حكم ديموقراطي يضع حدّا للاستبداد والفساد، ينبثق من الشعب كمصدر للسيادة ولشرعية السلطة ومشروعيتها…
ومن هنا فإن كيفية تعامل الدولة المخزنية مع أحداث جديدة غير مألوفة، ذات طبيعة اجتماعية ومطلبية، أو إيديولوجية وسياسية (اليسار، حركات الإسلام السياسي، المطالب الأمازيغية، الدعوة إلى تقرير المصير لسكان الصحراء المغربية…)…، هي المحكّ الحقيقي لاختبار مدى احترامها لحقوق الإنسان. ولهذا يمكن اعتبار حراك الريف، وأكثر من حراك 20 فبراير 2011، بطابعه الاحتجاجي والمطلبي، السلمي الجماعي، والذي انطلق بعد مقتل الشهيد محسن فكري في 28 أكتوبر 2016، مقياسا لمعرفة هل هناك عودة من طرف النظام المخزني إلى الممارسات المنتهكة لحقوق الإنسان، أم أنه أقلع عن ذلك التزاما بمبادئ وأهداف “العدالة الانتقالية”، التي تبنّاها بإنشائه للمجلس الوطني لحقوق الإنسال، ثم “هيئة الإنصاف والمصالحة”.
استعمال القضاء لتكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان:
يجدر التذكير، وهو ما سبقت الإشارة إليه، أن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، كما يعرّفها الفصل الخامس من النظام الأساسي لهيئة الإنصاف والمصالحة، تشمل “الاختفاء القسري” و”الاعتقال التعسفي”. وعندما نتمعّن في شكل التدخل الأمني للمخزن، منذ 26 ماي 2017، لقمع حراك الريف السلمي، سنسلّم ونعترف أنه لم يصاحبه اختطاف للنشطاء مع بقاء مصيرهم مجهولا. وهو ما يعني أنه لم يكن هناك، بخصوص قمع حراك الريف واعتقال نشطائه، “اختفاء قسري” يشكّل عودة إلى هذا النوع من الانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان.
وبإلقاء نظرة على ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي عالجتها “هيئة الإنصاف والمصالحة”، سنكتشف أن جزءا فقط من هذه الملفات هي التي تتعلق بضحايا “الاختفاء القسري”، الذين اختُطفوا واحتُجزا في أماكن بقيت مجهولة، خارج القانون ودون أمر قضائي ولا محاكمة. أما الجزء الأكبر من هذه الملفات فيتعلق بضحايا صدرت في حقهم أحكام جنائية نهائية، بعد أن مرّوا من جميع مراجل الإجراءات القضائية والمسطرية التي ينص عليها القانون، من أمر بالاعتقال، ووضع تحت الحراسة النظرية، والسجن الاحتياطي، ثم المحاكمة، مع تمتيعهم بحق تنصيب محامٍ قدم كل الدفوعات والأدلة التي تبرئ المتهم، وتُبطل ادعاءات النيابة العامة… اعتبرتهم إذن “هيئة الإنصاف والمصالحة” ضمن ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ليس لأنهم كانوا ضحايا “اختفاء قسري”، بل لأنهم كانوا ضحايا محاكمات سياسية أصدرت في حقهم أحكاما ظالمة.
أما الاعتراض بأنهم كانوا ضحايا لاعتقال تعسّفي قبل محاكمتهم، وهو الاعتقال الذي يدخل ضمن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، كما يقول الفصل الخامس المشار إليه من النظام الأساسي “لهيئة الإنصاف والمصالحة”، والذي «غالبا ما تتم ممارسته في إطار القانون مع خرق بعض أو كل مقتضياته»، كما يشرح التقرير الختامي “لهيئة الإنصاف والمصالحة” مصطلح “الاعتقال التعسّفي”، فإن هذا الاعتراض مردود. لماذا؟ لأن هذا الاعتقال التعسفي هو أول خرق للقانون يثيره دفاع المتهم، ملتمسا من المحكمة التصريح ببطلان محضر البحث التمهيدي وإلغاء المتابعة. لكن المحكمة ترفض طلبات الدفاع المستندة إلى تعرّض المتهم لاعتقال تعسفي. وفي الأخير تصدر حكمها الظالم، المؤسَّس منذ البداية على الظلم المتمثل في الاعتقال التعسفي، الذي هو خرق لبعض أو كل مقتضيات القانون، بتعبير التقرير الختامي “لهيئة الإنصاف والمصالحة”.
ومثل هذه المحاكمات، المبنية على خرق القانون منذ بداية اعتقال المتهم، هي التي أصدرت، أيضا، أحكامها على معتقلي الريف بالدار البيضاء. إنها نسخة طبق الأصل للمحاكمات التي جرت في فترة الجمر والرصاص، والتي سيُعتبر محكوموها، في ما بعد، ضحايا لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. فكما أن المحكمة رفضت، بخصوص الذين سيُعترف بهم كضحايا لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، الدفع بالخروقات التي شابت الاعتقال، والتي توجب بطلان محاضر البحث التمهيدي، معتبرة أن الاعتقال كان قانونيا وليس تعسفيا، فكذلك رفضت المحكمة، التي بتت في ملفات معتقلي حراك الريف بالدار البيضاء، جميع الدفوعات التي أثارت الخروقات التي صاحبت الاعتقال والوضع تحت الحراسة النظرية (اختطاف في الشارع العام، تعذيب نفسي وجسدي، سب وضرب، ادعاء هتك العرض بالعصا، التهديد بالاغتصاب، معاملة حاطة من كرامة الإنسان، حالات توقيع على المحاضر دون قراءتها أو دون فهمها…)، معتبرة أن المحاضر قانونية وسليمة، وعليها بنت أحكامها وقراراتها. ولأن خرق القانون يبدأ من لحظة الاعتقال، فهو مرتبط بالسلطات الأمنية للشرطة القضائية، التي تلفّق للمعتقل التهم السياسية التي تصل عقوبتها إلى الإعدام، بمباركة من النيابة العامة. وهو ما يوضّحه التقرير الختامي “لهيئة الإنصاف والمصالحة”، عندما كتب: «ويمكن القول أن ممارسة الاعتقال التعسفي قد تمت، واقعيا، من خلال منح النيابة العامة والشرطة القضائية سلطة واسعة تتجاوز السلطة المعترف بها لمحاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية، الملزمة بالنطق بعقوبات سالبة للحرية ضمن الحدود المقررة في القانون الجنائي».
ولهذا فعلى الرغم من أن الفصل الخامس من النظام الأساسي “لهيئة الإنصاف والمصالحة” يُدرج، كما سبقت الإشارة، “الاعتقال التعسفي” ضمن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلا أن المشكل ليس في الاعتقال في حد ذاته، كأن يكون تعسّفيا ومخالفا للقانون، وإنما المشكل في القضاء الذي أجاز ذلك الاعتقال واعتبره قانونيا وبنى عليه إدانته للمتهم، ضحية ذلك الاعتقال. وهو ما حصل في المحاكمات التي جرت في سنوات الجمر والرصاص، وتكرر مع معتقلي حراك الريف، الذين اعتبر القضاء اعتقالهم قانونيا رغم ما شابه من خروقات توجب التصريح ببطلان كل ما تأسس على ذلك الاعتقال، وخصوصا محاضر البحث التمهيدي. وهو ما وقف عنده وأثاره الدفاع، لكن المحكمة رفضته بتعليلات غير مقنعة.
حراك الريف والعودة إلى ممارسات سنوات الجمر والرصاص:
هكذا تكرّر الدولة المخزنية، بمناسبة حراك الريف، ما جرى من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في سنوات الجمر والرصاص، عبر استعمالها للقضاء ليقوم بنفس الدور الذي قام به في تلك الانتهاكات، عندما حكم هذا القضاء بالسجن لسنوات طويلة على المئات من الأبرياء الذين كانوا ضحايا محاكمات ظالمة وسياسية وانتقامية، لا علاقة لها بتطبيق العدالة ولا بإعمال القانون، والتي كان منطلقها اعتقالات تعسفية، فيها خرق لبعض أو لكل مقتضيات القانون، أُنجزت على إثرها محاضر بتهم سياسية، ملفقة ومفبركة.
النتيجة التي نخلص إليها من تأمل طريقة تعامل الدولة مع نشطاء حراك الريف، اعتقالا ومحاكمة وأحكاما، هي أن هذه الدولة، إذا كانت قد تخلّت حقا عن “الاختفاء القسري” كانتهاك جسيم لحقوق الإنسان، إلا أنها لم تتخلّ عن الشكل الثاني للانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان، المتمثّل في الاعتقال المخالف للقانون، الذي تتخذه ذريعة لاستعمال العنف القضائي، الذي ينطلق من هذا الاعتقال، لمعاقبة المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهو ما ترى فيه خروجا عن طاعتها وإساءة إلى “هيبتها”، تكرارا منها لنفس العنف القضائي الذي دفعت لضحاياه ملايين التعويضات من أموال الشعب، اعترافا منها ـ حتى وإن لم يكن رسميا ـ بانتهاكها الجسيم لحقوق هؤلاء الضحايا، علما أن هؤلاء الذين مارست عليهم هذا العنف القضائي في سنوات الجمر والرصاص، كانت لهم مطالب سياسية واضحة وصريحة، في حين أن مطالب معتقلي الريف هي اجتماعية واقتصادية وثقافية، واضحة وصريحة، تخص المطالبة برفع التهميش عن المنطقة وإنشاء مستشفيات ومؤسسات تعليمية…
السؤال إذن ليس هو: هل التزمت الدولة بعدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، تطبيقا لمبادئ وأهداف “العدالة الانتقالية” وتوصيات “هيئة الإنصاف والمصالحة” التي أنشأتها لهذا الغرض؟ وإنما السؤال هو: لماذا عاودت الدولة الانتهاك الجماعي لحقوق الإنسان باستعمال نفس العنف القضائي الذي مارسته في سنوات الجمر والرصاص كمظهر للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، كما اعترفت بذلك بإنشائها لتلك الهيئة الخاصة بالإنصاف والمصالحة، مقدّمة الدليل بهذه المعاودة على فشل سياسة “العدالة الانتقالية”، التي سبق أن أعلنت الانخراط فيها عندما أنشأت “هيئة الإنصاف والمصالحة”؟
لماذا لم تنجح إذن “العدالة الانتقالية” في المغرب؟
عندما نقارن بين تجارب “العدالة الانتقالية” بالدول التي نجحت فيها هذه التجارب، مثل الشيلي، والأرجنتين، وإسبانيا، وألمانيا الشرقية سابقا، وجنوب إفريقيا…، وبين التجربة الفاشلة لنفس “العدالة الانتقالية” بالمغرب، سنلاحظ بسهولة أن هناك خاصية حاضرة في كل تلك التجارب الناجحة، تجمع بينها وتميّزها، لكنها غائبة في التجربة المغربية الفاشلة. حضور هذه الخاصية أو غيابها يشكلان شرطا قد يفسّر نجاح أو فشل “العدالة الانتقالية”.
تتمثّل هذه الخاصية في كون الأنظمة، التي كانت حاكمة ومسؤولة في عهد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لم تبق لها سلطة ولا قرار سياسي في العهد الجديد “للعدالة الانتقالية” بالدول التي نجحت فيها هذه “العدالة الانتقالية”. ففي الشيلي، مثلا، لم يعد لأتباع ديكتاتورية “بينوتشي” Pinochet، التي اُرتكبت في عهدها مجازر ومذابح لحقوق الإنسان، أية سلطة ولا قرارات سياسية في العهد الجديد “للعدالة الانتقالية”. أما في المغرب (وهذه فكرة سبق أن عبّر عنها الأستاذ محمد الصبار عندما كان رئيسا للمنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، وقبل أن يُعيّنه الملك أمينا عاما للمجلس الوطني لحقوق الإنسان)، فإن نفس النظام الذي كان مسؤولا عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لا يزال هو صاحب السلطة والقرار السياسي.
وعندما أقول “النظام” فليس المقصود شكل هذا النظام، كأن يكون ملكيا أو جمهوريا، كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما المقصود الشكل الذي يمارس به نفس النظام، ملكيا كان أو جمهوريا، السلطة السياسية، كأن يكون ديموقراطيا أو ديكتاتوريا، يحمي الحريات أو يقمعها، يحكم بالقانون أو بالاستبداد، يستعمل القضاء لتحقيق العدالة أو للتأديب والانتقام، يفصل بين السلط أو يجمعها في جهة واحدة… ولهذا فالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لم تكن أفظع في الأنظمة الملكية منها في الأنظمة الجمهورية، كما تبيّن نماذج “العدالة الانتقالية” التي أشرنا إليها، والتي تخص أنظمة جمهورية سبق أن عرفت أبشع الانتهاكات لحقوق الإنسان.
وينتج عن ضرورة القطع، كشرط لنجاح “العدالة الانتقالية”، مع نظام ممارسة السلطة الذي كان سببا في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان:
ـ أن مشروع “العدالة الانتقالية” مبادرة يختارها ويقرّرها النظام الجديد لممارسة السلطة، والذي لا علاقة له بالنظام السابق، الذي ينتمي إليه ويمثّله الجلّادون الذين ارتكبوا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان باسم ذلك النظام، الذي كان يحميهم من أية محاسبة أو متابعة قضائية. أما في المغرب فمشروع “العدالة الانتقالية” ـ ومن هنا فشل هذا المشروع ـ هو مبادرة اختارها وقرّرها نفس نظام ممارسة السلطة الذي كان مسؤولا عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لتلميع صورته بالتظاهر أنه يريد طي صفحة الممارسات المنتهكة لحقوق الإنسان. ولا يلعب تغيير الأشخاص الذين تورّطوا في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بأشخاص آخرين، أيَّ دور في نجاح “العدالة الانتقالية”، ما لم يتغير نظام ممارسة السلطة نفسه، الذي ارتكبت في ظله وباسمه وبسببه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. فنفس الأسباب تؤدّي دائما إلى نفس النتائج.
ـ أن “المصالحة”، التي تستتبعها “العدالة الانتقالية”، والتي يؤكدها مصطلح “هيئة الإنصاف والمصالحة”، مع ما تعنيه من عفو، حسب الحالات، على المتورطين في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، تشترط، كما حصل ذلك في البلدان التي نجحت فيها سياسة “العدالة الانتقالية”، الكشف، بالاسم والصفة، عن هؤلاء المتورطين، وتحديد درجة مسؤولياتهم الجنائية، وحتى محاكمتهم عند الاقتضاء. أما في المغرب، فكما حمت الدولة، في عهد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، المتورّطين في هذه الانتهاكات، استمرت في حمايتهم في عهد “العدالة الانتقالية”، وذلك برفضها الكشف رسميا عن أسمائهم وصفاتهم. وهذا ما تصبح معه “العدالة الانتقالية” غير فعّالة في منع تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. لماذا؟ لأن استمرار الدولة في حماية المتورطين في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وذلك حتى بعد تبنّيها “للعدالة الانتقالية”، هو أحد الأسباب المباشرة لإمكانية تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مرة أخرى، وحتى بعد إنشاء “هيئة الإنصاف والمصالحة”، وذلك لأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في سنوات الجمر والرصاص، ما كانت لتحصل لو لم تكن الدولة تحمي المسؤولين، شخصيا وجنائيا، عن هذه الانتهاكات، وهو ما شجّعهم على الاستمرار في ارتكابها، مطمئنين إلى أنهم في منأى عن كل متابعة قضائية. وعندما لا تكون “العدالة الانتقالية” قادرة على منع تكرار انتهاكات حقوق الإنسان، الذي (المنع) هو أحد أهدافها الأولى والرئيسية، تفقد “المصالحة”، التي تستتبعها هذه “العدالة الانتقالية”، معناها وغايتها، ما دام الجلادون غير معروفين رسميا، لأن الدولة تحميهم ولا تريد الكشف عنهم، علما أن “المصالحة” تعني، كآلية لترسيخ “العدالة الانتقالية”، أن الضحايا يقبلون بالعفو عن جلاديهم بعد الكشف عن هوياتهم وما اقترفوه من انتهاكات جسيمة لحقوقهم. فـ”المصالحة”، كمظهر “للعدالة الانتقالية”، تقتضي، كما تشرح موسوعة لاروس مفهوم “المصالحة الوطنية” Réconciliation nationale، تنظيم جلسات استماع عمومية خاصة بالضحايا، يحكون فيها ما عانوه من ظلم وانتهاك لحقوقهم، وجلسات أخرى عمومية خاصة بالجلادين، يعترفون فيها بأفعالهم وانتهاكاتهم الجسيمة لحقوق الإنسان.
ولهذا فإن “العدالة الانتقالية”، كما طُبّقت بالمغرب، مع ما تستدعيه من “مصالحة وطنية”، كان لا بد أن لا تكون إلا ناقصة لأنها بٌترت من أحد عناصرها الأساسية، وهو الاعتراف العمومي للمسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. بل حتى الضحايا مُنع عليهم، أثناء جلسات الاستماع العمومية التي حكوا فيها معاناتهم، أن يذكروا اسم المسؤول الذي أشرف على تعذيبهم وانتهاك حقوقهم. ولأن هذه “العدالة الانتقالية” المغربية بقيت ناقصة ومبتورة، فقد كان من نتائج هذا النقص والبتر أن دورها بقي ناقصا ومبتورا، كما يتجلّى ذلك في عدم قدرتها على منع تكرارا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وهذا ما جعل الدولة المغربية تحصر “عدالتها الانتقالية” في إعطاء الكلمة للضحايا، ودون السماح لهم بذكر أسماء جلاديهم، وإعطائهم تعويضات مالية، ليبقى الجزء الأهم من “العدالة الانتقالية” خارج تغطية هذه العدالة، وهو الكشف عن الجلادين ثم اعترافهم العلني بمسؤولياتهم، والعفو عنهم بعد ذلك، إعمالا لمبدأ “المصالحة الوطنية” الذي تتضمنه “العدالة الانتقالية”.
فالغائب الأكبر في “العدالة الانتقالية”، كما اختارت أن تطبّقها الدولة المغربية، هو الحقيقة، التي تخص الجلادين والمسؤولين في الدولة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. ولأن نظام ممارسة السلطة، الذي ارتكبت في ظله تلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لا زال هو مصدر القرار السياسي، فلا يمكنه أن يسمح بالكشف عن تلك الحقيقة، لأنها حقيقته هو، تشكّل جزءا منه ومكوّنا له. وهذا ما يفسّر أن هذه “العدالة الانتقالية”، على الطريقة المغربية، لم تستطع أن تمنع، عكس ما حصل في الدول التي تبنّت هذه “العدالة الانتقالية” ونفّذت بفضلها مسلسل “المصالحة الوطنية” بنجاح، تكرار ما جرى في الماضي من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
فكل ما أعطته هذه “العدالة الانتقالية” المغربية، كما يتجلّى ذلك في محاكمة معتقلي حراك الريف، هو عدالة انتقامية، كدليل على تكرار ما جرى من انتهاكات في العهد الذي نقول عنه إنه عهد الجمر والرصاص، كأنه عهد انقضى وانتهى، في حين أنه لا زال مستمرا في شكل عدالة انتقامية، تمارسها الدولة باسم العنف القضائي الذي ينطلق مسلسله من الاعتقال التعسفي، الذي هو انتهاك جسيم لحقوق الإنسان، كما سبق شرح ذلك. وهو نفس العنف القضائي الذي مارسته المحاكم، لحساب الدولة، في عهد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إبّان سنوات الجمر والرصاص.
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.