صدر مؤخرا كتاب “الأسرار من محلها” للكاتب المناضل الاستاذ أحمد الطالبي المسعودي، ولتقريب الكتاب من المتتبعين وللقراء عموما ننشر تقديم للكتاب من انجاز الدكتور عبد الصمد الكباص، ومعه تقديم الكاتب الطالبي، حول ما يتضمنه الكتاب من مسارات حياته، بعنوان “سيرة مكان”.. قراءة ممتعة.
تقديم الدّكتور عبد الصّمد الكبّاص:
ما هو موضوع هذا الكتاب؟ إنه أكثر من سيرة ذاتية ومن تأريخ محلّي ومن تدبّر للمعاني التي حققتها الحياة عبر منعرجاتها المُدهشة في مؤلِّفه المغامر في محنة النسيان واختراق جبهات التذكّر. إنه كتاب في فائض الحياة الذي يغمر المكان قبل الأشخاص، فيُفجّر سيول السّرد كامتداد للمكان، الذي يكون بدونها عاريا من أي معنى. فكما أنّ الكتابة تَقَدُّم في المكان، فالمكان ليست له من ماهية في هذه التجربة من دون أن يكون انتقالا في اتجاه الغير.
يثبت هذا العمل أن بول ريكور لم يكن مخطئا عندما أكد أن السّرد هو التجربة التي تحظى فيها الحياة بوحدتها. فالأسرار من محلّها، هذا العنوان الغريب، الذي يغطي روح الكتاب، يكشف في فصوله أن كل ما يفر في أعراض الترحال البشري يخصّ الجغرافيا كروح ويعود إليها، إنها روح المكان بما يعود إليه من تطلعات الناس ومغامراتهم، أي بالطرق المُدهشة في الانتماء إلى أنفسهم وهم يضعونها في محكّ حريتهم الخاصة. تلك التي تُختبر في الحدود المفروضة عليها، فتتحول إلى تحرر، أي إلى حوار هو في أساسه تبادل جذري للحرّية يجعل المكان شغبا أصيلا لهذا التوق. والكتاب هو بكامله قصّة هذا التوق، الذي يأخذ معنى التطلع إلى الاضطلاع بالذات.
يواجهنا الأستاذ أحمد الطالبي المسعودي في كتابه هذا بمفاجأة مُدهشة تتأسّس من عتبة تحقيق ما ننتظره منه عبر تأجيله.. ففي الوقت الذي يذهب بنا أفق انتظارنا إلى توقّع أن ما يُشخَّص في صفحات الكتاب هو تجربة أحمد الطالبي، المُعارض الشّرس لنظام الرّاحل الحسن الثاني واللاجئ في الجزائر وفرنسا، بمغامراتها السّياسية والإنسانية، ليكون فعل التذكر، جرياً على ما قام به عدد من أعلام جيله في مُذكّراتهم، جردا سياسيا لكواليس الأحداث التي طبعت ذاكرة السّتينيات والسّبعينيات والثمانينيات، نجده يُدخلنا في عالم يفتح مسارات متشابكة تنطلق ذهابا وإيابا من قرية “تگدالتْ” في المعدر الكبير وتتدفّق بالترحال بين شخوص وأحداث ووثائقَ وأمكنة، مُعيدا إلى الجغرافيا روحها وإلى المكان صوفيته في أنبل معانيها، هذا المكان الذي ينتشر في أرواح هذه الشّخوص ويرتحل عبرها. إنه سوس، التي تتمدد في الحواضر الكبرى للمغرب، مثل مراكش وفاس والرّباط.. سوس العالمة.
للكتابة معنى مختلف في هذا العمل، فهي امتداد للعين والأذن وللإحساس، الذي يُحفظ لذاته، ليتحول إلى حقيقة مُنتِجة، ليست هي حقيقة ما هو عليه أحمد الطالبي المسعودي في انتسابه إلى ذاته، وإنما الحقيقة العميقة لهذا التوق، الذي كرّس تقاليد الأسر السّوسية في تثمين العلم والمعرفة وصرف أبنائها إليهما. فالكاتب لا يكتفي بتذكّر نفسه، وإنما يجعل منها نقطة لتقاطع مسارات أشخاص آخرين عايشهم وتأثر بهم، أو أشخاص رحلوا لكنهم ظلوا أحياء بفضل استمرار إشعاعهم الرّوحي فيه وفي المكان وفي الآخرين. إن الخدعة التي يوقعنا فيها الكاتب هي أنه يتذكّر ذاته وأسرته في “تگدالتْ”، لنكتشف أنه يُؤرّخ لمن لم يُؤرَّخ لهم من أسماء يصعب حصرها، ولدورهم في استدامة السّمعة العلمية لسوس. إنه يحكي المكان ويستنطق أسراره الرّوحية ويتوغّل في اشتباكاتها بمصاير أشخاص وأحداث. وبمعنى شامل، فهو يُشخّص الأثر، الذي هو أحد توقيعاته البارزة.
ورغم أننا نلمس في قراءة سطحية أن أحمد الطالبي المسعودي منشغل أكثر بالتأثير العظيم لشخصيتين علميتين بارزتين فيه هما الحسن البونعماني والمختار السّوسي، فإن ذلك سرعان ما يتبدّد أمام شساعة ما يعرضه أمامنا ممّا هو متاح له في فضاء التذكر، أي هذه الاختراقات الغنية التي ينفذها عبر استنطاق الوثيقة ومحاورة المخطوط، الذي يواصل حياته في مكتبة العائلة. فتارة تدرك معه أن الأمر يتعلق باستعادة ذاكرة أسرته وإعادة تملكها؛ وتارة أنه يخُصّ التأريخ للمدارس العلمية في سوس؛ وتارة أخرى لتقلبات الزّمن معه في رحلته الشّاقة بحثا عن المعرفة، متنقلا بين أصقاع ومدن وقرى نائية. في الحقيقة، هو ينجز أكثر من ذلك، إنه يعيد بناء سوس العالمة كمكان رمزيّ يوجد خارج نفسه، ممارسا تأثيره في الحواضر العلمية في المغرب، في فاس -القرويين ومراكش-ابن يوسف والرّباط-العاصمة. بمعنى آخر، وبتعبير هنري ميلر، إنه يقيم عيد ميلاد جديدا لأرضه يستديم حياتها فيه مُتوهّجة، مُذكّرا بأننا نحيى أشقّاء في الأبجدية..
وكما قال والتر بنيامين لا يمكن أن نستردّ الماضي نيابة عن ضحاياه، فالأستاذ أحمد الطالبي المسعودي لا يطالب بماضيه كدَين مُستحقّ للذاكرة، بقدر ما يجعله سؤالا يُطرَح في قارعة الحاضر. إنه يجيد قراءة الغياب مُنصبّا على ما سنكونه في حضن ما أضعناه. لذلك فقد جاءت نتيجة هذا العمل، علاوة على كونها تأريخا ثقافيا، ترهينا جديدا لذلك الشّرخ التاريخي الذي يخترقنا كذات جماعية بين ما نحن عليه وما نتوهّمه عن أنفسنا، أي درجة التقدّم الحاصل في تجربتنا. فللتاريخ مفعوله السرّي الذي ينفذه في غفلة منا. إنه يُعلّمنا أن كل شيء مُجهّز بخطأ ما، وأوله ذواتنا. ورغم ذلك فالسؤال “أين الخطأ؟” لا يبدو جدّيا. لذلك فأحمد الطالبي يجعلنا نقرأ ونستدرك، إنه يحيط جيدا بحكمة جيل دولوز وفليكس غاتاري التي تقول “حتى المنازل يمكن أن تكون ثملة ومُترنّحة”.
لهذا العمل أهميته الفائقة. فعلاوة على قيمته الأدبية الرّفيعة التي لا تخطئها العين، فهو يحمل قيمة تاريخية وأنثروبولوجية. فمؤلِّفه لا يكتفي بالحكي من ذاكرته وإنما يبحث عن سند ما يرويه في المخطوطات والوثائق، كاشفا تفاصيل جديدة ومُدهشة، وفي كثير من الأحيان مفاجئة، مع وفاء صارم لهاجسه الضّمني وهو التأريخ للحياة العلمية. فحتى عندما يعرض لشخصيات معروفة في الواجهة السّياسية لا يذكرها إلا في ارتباطها بالحياة العلمية، كما هو الحال بالنسبة إلى محمد بن سيعد أيت إيدر الشّتوكي، الذي يستحضره فقط في ارتباطه بجامعة ابن يوسف ومدرسة بوعبدلي، وعمر السّاحلي، كمدير لمعهد تارودانت، ومصطفى الوالي السّيد كطالب فيه وليس كمُؤسّس لجبهة البوليساريو.. إنه يتوقف عند تفاصيلَ مفاجئةٍ كان شاهدا عليها من الحياة الخفية للمختار السّوسي وهو وزير للتاج، مُستشفّا منها القيَم التي تحكمه وتؤسّس للفرق الكبير بين مسؤولي المغرب من رعيل الحركة الوطنية ومسؤولي اليوم.
ومن الناحية الأنثروبولوجية فالكتاب يتميز بغنى فائق. فهو يرصد العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة، بالبنى الرّمزية التي تسندها، مُستغلا في ذلك الموارد الشّفهية والموثقة في رصيد مُهمّ من المخطوطات غير المنشورة. وهو في ذلك يخلخل الكثير من الاعتقادات التي تهمّ تصورنا لأنفسنا الناتجة عن التعميمات الفاسدة، وفي مُقدّمتها علاقة التجافي بين مجتمعنا وبين الكتابة، ليكشف أنها كانت نمطا من ممارسة الذات يتم يوميا عبر التقييدات التي توثق فيها التفاصيل اليومية للحياة لدى الكثير من هذه الأسر السّوسية. وثانيها علاقة المرأة بالعلم والمعرفة والتصوف. وثالثها العلاقة باللغة العربية وتعايشها في فضاء العلم مع الأمازيغية. كما يقدّم رصدا طريفا لظواهر مُهمّة، كدور العبودية في المجتمع السّوسي، استنادا إلى ما رآه وسمعه وقرأه في المخطوطات؛ وحياة الكتب وما يلفّها من أسرار وغرائب؛ وقيمة الورق في مجتمع شغوف بالتدوين؛ وظواهر أخرى نترك للقارئ فرصة الاستمتاع باكتشافها.
ولأنّ كل بداية تحتاج لحظة تالية تؤكدها كبداية، فهذا العمل يُنذر بما بعده، أي الأجزاء التي تستلم مَهمّة التذكر من الجزء الأول، على الأقلّ هذا هو التوقع الذي يتولد من الشّهية التي تفتحها قراءة الكتاب في نفس القارئ، الذي يجد نفسه في سفر ممتع وخلاب بعيدا عن هذا العالم المُغلّف بالحُدوس المعتوهة، بل يجد نفسه مدفوعا برغبة محمومة في الترحال نحو قرية “تگدالتْ” والغوص في مكتبة عائلة الطالبي المسعودي، بكنزها الثمين من المخطوطات، ومخاطبة الهواء والحجر، لأنهما الشّاهدان الحيّان على كل هذا الثراء. فعندما نقبل بمنطق الذاكرة كقدَر، نقبل أيضا بسداد دين النسيان، الذي يحدد الذات كنسق من الخسران. فيكون علينا أن نتذكّر ونكتب لأننا مُتورّطون سلفا في الدَّين… هذا الكتاب يُحْيي فينا حكمة أنباذوقليدس “بالأرض نرى الأرض، وبالماء نرى الماء، وبالحبّ ندرك الحب”.. إنه كتاب في القيمة والمعرفة والحياة. -مراكش في 16 مارس 2022. كتاب
احمد الطالبي المسعودي : “سيرةُ مكان..” :
بين يدي القارئ نصوص حميمية كتبتها في البداية لنفسي، بعدما تحرّرت من الإرث العائلي ردحا من الزمن، وارثاً منهم الترحال الباحث عن الخصب. ولم يعد انتمائي مستندا إلى نواميس العشيرة منذ ودّعني المختار السّوسي وودّعته، بعدما عرّفني بالجذور..
اعتمدت السّير على قدمَي وجبت المسافات، حتى اضمحلّت أمامي الحدود والعشائر واختفى رنين النّسب الموروث. واستندت هويتي إلى مسلكيات ومرجعيات جديدة، تماهيت معها طيلة زمن الرّحلة.
اليوم، أجدني كاتباً لسيرة مكان (تگدالتْ) والعشيرة تحتضنني، لأكتشف أن مساري لم يتقاطع مع مسار أجدادي. وجدت أن حياتي كلّ لا يتجزّأ، يستمدّ الجذور من بدايات القرن العشرين، ونحن الآن في القرن الحادي والعشرين. ماضي أسرتي ومسارات نسائها ورجالاتها الذين استهواهم الانقطاع للبناء الثقافي من الجنوب ومن هذه القرية، بينما استهواني بناء العالم من الشّمال..
سيل من الأسئلة أطرحها، ولن تكون الأجوبة إلا في خبايا “التابوت”، الثابث، القابع في مكانه، مصونا بحبّات الكافور. تفاديت الحكي الأسطوريَ عن العائلة وأُبت إلى المستندات والهوامش المُحرَّرة. وبالانتقال من نصّ إلى نص، تكونّت ملامح وتوالت صور. فالنصوص والقصاصات المبعثرة لا يمتدّ إليها الشكّ ولا يطولها الفناء. فقد اقتبستُ النصوص، ببساطتها وعفويتها وشاعريتها أحيانا، ومن خلالها رسمت المسارات. أمدّتني بشحنات للبوح المُباح وغير المباح وشفعت لي بالحياد واستشعار الاحتماء.
جلتُ في الأمكنة عبر الأزمنة: تيمجاض؛ بونعمان؛ المعدر الكبير.. ثم عرّجت على مسارات أهمّ رجالات الأسرة من خلال مسارات الوجد والمعرفة؛ السّلطة والمعرفة، مع البيان والتبيين لدور المرأة في التأسيس الرّوحي والمعرفيّ لهذه الأسرة، التي أرجو أن أكون قد أسهمت من خلال هذه الرحلة، ولو بجزء بسيط، في تكريس الإشعاع المعرفي لأهمّ أدبائها وشعرائها وعلمائها الأفذاذ.
للحديث عن مساري، انطلقت من محيط الجدّ الأمومي، فالجد الأبوي، فالمراحل التعليمية الأولى، التي ستؤدّي بي إلى رحلة مُثمرة عبر حاضرتَي تارودانت فمراكش، حيث سترتسم معالم مستقبلي. ولم أنس مرافقة مُشرقة خلال هذه الرّحلة لحبيب الأسرة، الذي كان له الأثر البارز في شخصيتي، رضى الله محمد المختار السّوسي..كما كانت بصماته القوية تتخلل جزءا مُهمّا من هذه المُذكّرات المدونة.
أمّا المُذكّرات المُنتظَرة فستتمحور حول مسار الانتماء والغربة، تجربة ذاتية وأمكنة مُغايرة وشخوص وأحداث عبر روافدَ أخرى وتيارات عصفت بي يسارا في قلب الضّوضاء وبعيدا عن الصّمت. ولن يكون هذا المسار في حقيقته إلا مسار جيل عاش، عن قرب أو بعد، أهمّ الأحداث التاريخية التي شهدها المغرب المعاصر، تتركز كلها حول ما اصطُلح عليه في الأدبيات السّياسية بـ”سنوات الرّصاص”.وستكون هذه الإضاءة- الشّهادة إسهاماً مني في إجلاء الحقيقة وتبيان أهمّ ما جرى.. وبتقديمي لهذا المكتوب الأول، أحسّ بأنني استرجعت أنفاسي، استعدادا لخطوات قد تكون أهمّ، فأنا لست إلا في بداية الطريق…
-بونعمان في 27 أبريل 2022
اكتشاف المزيد من azulpress.ma
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
التعليقات مغلقة.